مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1940



أرقام تتحدث وتنبئنا عن أسرار الكون

للدكتور محمد محمود غالي

آنية (بيران) وجوها العجيب - رقصة الكرات في الآنية -

نظام توزيعها - أمثلة عملية من هذا التوزيع - في زرقة

السماء دليل على مقدار الذرة - عندما نطالع هذه السطور

تسيطر علينا الفوتونات.

استغرقت تجارب (بيران) مقالين ولم نتمها بعد، وفي هذه الأسطر نحاول أن ننتهي من أسطورته الخالدة، لهذا نترك المقدمات لنتكلم على صميم عمله التجريبي.

في آنية صغيرة بها سائل يبلغ ما يعنينا فيها من ارتفاع 110

المليمتر أجريت كل تجارب (بيران) الذي ترك فيها عدداً

كبيراُ من الكرات الصمغية الصغيرة التي يبلغ قطرها كسراً

من الميكرون (الميكرون 10001 من المليمتر)، ودرس هذا

العالم النظام الذي تتوزع بمقتضاه هذه الكريات في المسائل،

وكان عليه أن يرى بعد فترة من الزمن، تتنازع خلالها هذه

الجسيمات عوامل مختلفة، هل كان ينتج من ذلك توزيع شبيه

بتوزيع الذرات الغازية، وقد وجد (بيران) بالفعل هذا النوع

من التوزيع الذي يتبع متوالية هندسية، وللقارئ نورد مثالاً

للحالة التي توزعت بها كرات صمغية من التي نصف قطرها 0. 212 من الميكرون كما لاحظها (بيران)

نسبة عدد الجسيمات

الارتفاع الموجودة عنده الجسيمات محسوباً من قاع الإناء ومقدراً بالميكرون

(الميكرون 10001 من المليمتر)

100

5

47

35

22. 6

65

12

95

ويلاحظ أنه بينما اختار (بيران) الارتفاعات المذكورة وهي: 5، 35، 65، 95 التي هي متوالية عددية فإن الجسيمات تبعت في أعدادها ومن تلقاء نفسها الأعداد 100، 47، 22. 6، 12 التي هي متوالية هندسية إذ يلاحظ أن هذه الأعداد تتساوى تقريباً مع الأعداد 100، 48، 23، 11. 1 التي تكون متوالية هندسية مضبوطة.

وفي المثال الآتي يرى القارئ كيف توزعت كرات أخرى

أكبر من الأولى ويبلغ قطرها 0. 25 من الميكرون أي حوالي

20001 من المليمتر، وقد أمكن عد هذه الجسيمات بطريقة

فوتوغرافية بتصويرها في أربعة مستويات يرتفع الواحد منها

عن الآخر بمقدار ميكرون أي 10006 من المليمتر وقد وجد

(بيران) أن عدد الجسيمات عند هذه المستويات الأربعة كالآتي:

1880، 940، 530، 305

ويرى القارئ أنها مقادير قريبة جداً من الأعداد:

1880، 945، 5288، 280

التي تكون متوالية هندسية.

هذا توافق واضح في الأعداد، ولكن هل أدى هذا إلى أن يصل

(بيران) إلى عدد (أفوجادرو) الذي ينتظره فعرف عدد ما في

الوزن الجزيئي من الذرات؟ هذا ما نتناوله الآن فنبحث ما تدل

عليه الأرقام في المثال الأخير: عندما نرتفع بين طبقات الإناء

مسافة قدرها 10006 من المليمتر نلاحظ أن عدد الجسيمات

ينخفض إلى النصف، على أننا نعلم من تجارب أخرى في

الضغط الجوي أنه لكي نحصل على مثل هذا الانخفاض في

عدد الذرات الهوائية يجب أن نرتفع في طبقات الجو إلى

ارتفاع ستة كيلو مترات أي إلى مسافة تبلغ الألف مليون

(مليار) مرة قدر الارتفاع السابق، وعلى ذلك فإن وزن جزئ

من الهواء يبلغ الواحد على ألف من المليون من وزن إحدى

الحبيبات الصمغية المشار إليها ولو أن الغاز الذي نعتبره هو

غاز الهيدروجين، فإنه من الممكن بنفس الطريقة الحصول

على وزن ذرة الهيدروجين من وزن الجسيم السابق، وهكذا توصل (بيران) من التجربة السابقة ومن أمثالها إلى معرفة

وزن ذرة الهيدروجين، وكان عليه أن يتساءل بعد ذلك هل

كان هذا الوزن لذرة الهيدروجين يتفق مع الرقم ذاته الذي

أمكن العلماء الحصول عليه من باب آخر يختلف في

موضوعه عن تجارب (بيران)، وهذا ما حدث بالذات عندما

قارن ذا العالم وزن الذرة الذي توصل إليه بوزنها الذي عرفه

العلماء من النظرية السينيتيكية.

وندع للقارئ أن يقدر مبلغ ما كان لهذا من الأثر العميق على نفسه، عند ذلك أراد أن يستوثق العالم من صحة ما وصل إليه فعمد إلى تغيير ظروف التجربة بإبدال الحبيبات حتى جعل حجم بعضها يبلغ الخمسين مرة حجم الأخرى، ولم يكتف بذلك بل غير طبيعة هذه الجسيمات، ثم عمد إلى تغيير السائل ذاته بما يجعل ميوعته تبلغ 125 مرة ميوعة السائل الأول، ولم يفت هذا الباحث الكبير تغيير كثافة المواد المستعملة التي كانت طوراً أضعاف كثافة السائل وتارة أقل من كثافته، إذ تعمل الأرض في الحالة الأخيرة على صعود الكرات بدل سقوطها، بعد ذلك غير حرارة السائل من درجة (- 9) إلى درجة (60) مئوية، ومع كل ذلك وجد (بيران) ومدرسته طوال هذه الحالات المختلفة القوانين ذاتها والأقدار الذرية ذاتها، وكان ذلك بلا ريب فوزاً علمياً كبيراً يذكره له التاريخ.

تلك كانت السبيل عند (بيران) ليتعرف على قدر الذرة من دراسة توزيع رأسي لجسيمات صلبة دخلت في الماء أو في أي سائل، وشاء لها القدر أن تتجاذبها جزيئات السائل فنتج بفعل ذلك، وفعل جاذبية الأرض التوزيع الذي ذكرناه، ونجتزئ الحديث، فلا نشرح للقارئ من عمل (بيران) الجزء الخاص بالحركة البراونية بالذات، فقد عين أيضاً عدد أفوجادرو، كما عين شحنة الإلكترون من دراسة دقيقة قام بها على مسارات الجسيمات كل على حدة داخل السائل، ويكفي أن نذكر أنه بدراسة مستفيضة على الحركة البراونية ذاتها وبتطبيق لقوانين أينشتاين الخاصة بها تمكن من طريق جديد للوصول إلى هذه الأقدار الذرية والإلكترونية.

ولا يمكن في عجالة كالتي نحاولها أن نعطي للقارئ صورة دقيقة لما قام به أينشتاين في سنة 1905 من الناحية النظرية وما قام به بيران في سنة 1908 من الناحية العملية في هذا الصدد، وكل ما يعني القارئ أن يعرفه هو أن الأول قد استطاع الحصول على علاقة يمكن أن نعرف منها عدد أفوجادرو إذا عرفنا المسافة المتوسطة التي يقطعها جسيم يتحرك تحت تأثير صدمات جزيئات السائل، وعرفنا طول الزمن المتوسط الذي يستغرقه الجسيم في قطع تلك المسافة المتوسطة، أما الثاني فقد توصل من متابعة رصد الجسيمات إلى تعيين عدد أفوجادرو فوجد بهذه الطريقة أنه (68. 2 2210)، ومن ثم وجد وسيلة في الواقع لإثبات صحة قانون أينشتاتين، ولقد كان من السهل بدراسة توزيع وحركة جسيمات مكهربة الوصول إلى معرفة شحنة الإلكترون، وهذا ما قام به أيضاً الباحث الشاب في ذلك الوقت من سنة 1908 الدوق (موريس دي بروي) الذي يعتبر الآن من أكبر علماء الأكاديمية الفرنسية عندما درس وتتبع بالميكرسكوب كرات من الدخان أو الأتربة المعدنية المكهربة

أن يتحرك جسيم صلب موجود في سائل في إناء على منضدة ثابتة حركة تصادفية هي الحركة البراونية المعرفة التي كشفها (براون) وعرف العلماء أنها ناشئة عن تحرك جزيئات السائل، وأن يتخبط هذا الجسيم بين هذه الجزيئات تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال دون أن يكون ثمة قانون ينتظم كلا من هذه الصدمات، وإن يكون هناك من هذا التخبط الأعمى ومن جاذبية الأرض توزيع خاص شبيه بتوزيع الذرات الغازية في اتجاه رأسي وإن يكون من حساب التوزيع في الحالين سبيل لمعرفة قدر الجسيم الحائر بين بلايين جزيئات السائل وسبيل لمعرفة قدر الذرة بل قدر الإلكترون - فإن ذلك كله لأمر له خطره وموضوع يقف بذاته دليلاً على صحة هذه الأقدار الغريبة عن مداركنا البعيدة عن حواسنا، ولكن هذا التعيين يتركنا في نوع من الشك فيما وصلنا إليه من نتائج إذا ظلت الطريقة المتقدمة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة هذه الأقدار. أما أن نصل إلى معرفتها بطريقة أخرى طريقة مليكان التي شرحناها في مقالات سابقة فإن هذا الاتفاق في النتائج بطريقتين لأتمت إحداهما بصلة إلى الأخرى ليقوم دليلاً قاطعاً على حقيقة وجود الذرات والإلكترونات وبرهاناً ساطعاً على صحة أقدارها، ولقد حدث هذا الاتفاق في النتائج بين أعمال (بيران) وأعمال (مليكان) على وجه يبعث على الاطمئنان.

وعند ظني أن كليهما ازدادت ثقته بعمله عندما طالع نشرات الآخر، وثبت في يقينه أن هذا الذي توصل إليه يمثل بلا أدنى ريب حقيقة في الكون، وزادت بينته بأن عمله الفردي يعيد جد البعد عن أن يكون وليد المصادفة التي لا تمت لقوانين العالم في شيء.

ومع ذلك فثمة ظواهر أخرى عديدة دلت هي أيضاً وبطريقة تختلف عن طريقتي (بيران) و (مليكان) على قدر الذرة وقدر الإلكترون، وعلى أن المادة هي المادة كما عرفها بيران وكما فهمها مليكان.

على أننا نذكر بعض هذه الظواهر الأخرى التي توصل بها علماء عديدون إلى كشف الذرة والإلكترون، والى تعيين أقدارها، ففي دراسة لون السماء أو ميوعة الغازات أو نظام انتشار الضوء في الأرجون، بل في تتبع طيف ما يسميه الطبيعيون بالجسم الأسود أو في تكوين الهيليوم من العناصر المشعة، في دراسة هذه الظواهر الخمسة، المختلفة نشأة، المتباينة طريقة، وجد الباحثون كل بدوره سبيلاً آخر لتعيين عدد أفوجادرو هذا العدد الذي يبلغ في تجارب عديدة 68 2210 وبالتالي وصل الباحثون إلى معرفة قدر الذرة وقدر الإلكترون.

هذه أرقام تتحدث وفي حديثها الشائق دليل على وجود هذا العدد للذرات في حجم معين ودليل على قدرها وقدر الإلكترون بالدرجة التي قررها الباحثون.

أجل. أن تكون السماء زرقاء صافية هذه الزرقة التي نراها والتي تعودتها العيون، وإن يكون للغازات ميوعة تدل عليها النظرية السينيتيكية التي أشرنا إليها وأن ينتشر الضوء في الأرجون بنظام خاص، وأن يكون لطيف الجسم الأسود دلالة معينة، وأن يكون للأجسام المشعة نظام في إشعاعها فإن هذه مظاهر مختلفة ومرئيات متباينة، ولكنها تدل جميعها على وجود الذرات بالحجم والوزن اللذين لها، وتدل على عدد ما يوجد منها في الغازات في الحجم الواحد وتدل أيضاً على ما للإلكترون من كيان.

هذا الاتفاق في النتائج وفي الرقم السابق الذي يتعدى كل خيال يحمل الإنسان المفكر على أن ينتهي إلى نتيجة حتمية هي أن ما عرفناه عن الذرة وعن وليدها الإلكترون أمر لا شك فيه ولا نستعرض هنا هذه الموضوعات كلا على حدة، فالقارئ الذي يعرف منذ حداثته أن السماء زرقاء وليست بخضراء، وأنها زرقاء هذه الزرقة المعينة أود أن يعرف أن لذلك علاقة بقدر الذرة وإن ثمة سبباً في هذه الزرقة عند الإنسان المفكر يتوسل بها إلى النتائج ذاتها التي وصل إليها أمثال (مليكان) و (بيران). إنما نقصد أن ندفع بالقارئ إلى إيمان علمي بهذه الحقائق التي نود أن تحل عنده محل الإعجاب والاحترام.

إلى هنا انتهينا من قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات وهي مكونات المادة التي منها نوجد وعليها نعيش واليها نعود، وليس الإلكترون بالساكن الوحيد في هذا الكون فثمة كائنات أخرى تختلف عنه، ودورها في الخليقة يختلف عن دوره، وإذا كنت عندما تستمع إلى الإذاعة بواسطة المذياع (الراديو) أو عندما تحادث في المسرة (التليفون) صديقاً لك فد استخدمت الإلكترون واسطة جديدة للاستماع أو التكلم، فكذلك لا يفوتك وأنت تطالع هذه السطور أن تفكر في أنك رأيتها قبل أن تطالعها ولا تنس أنه لكي تراها لابد أن تكون هناك مكونات أخرى في الكون مثلت في طريق بصرك ووصلت إلى العين، وهي التي بوجودها وما اعتراها من حركة استطعت أن ترى هذه الأسطر وتقرأها، فاتصل تفكيرك بتفكيري ومجهودك بمجهودي؛ وثمة موجودات هامة لعبت دوراً خطيراً، وبلغت العين، ومن العين إلى الرأس وعاونتك في مطالعة هذا الحديث مطالعة يستطيعها كل من وهب هذه العيون.

هذا الشعاع الضوئي، هذا الذي يقررون أنه مركب من فوتونات كما يقال عن الكهرباء إنها مكونة من إلكترونات هو بدوره مكون هام من مكونات الكون، هذا الفوتون الذي يسافر من الشمس إليك في ثمان دقائق، نريد أن نحدثك عنه وعن غيره من المكونات، حتى لا نكون قد وصفنا قصراً عظيماً له حديقة هي مثار الأحاديث، ولكن فاتنا عند وصفنا إياه أن نذكر أن للقصر حديقة.

هذه المكونات الأخرى سنعمد أن يكون لنا مع القارئ حديث عنها أو اثنان قبل أن نتناول موضوعات النسبية والكم والتفتت، وهي الموضوعات الرئيسية الثلاثة التي نقصد من ورائها أن يكون لدى القارئ أقرب صورة للكون وإن يعرف أحدث الآراء عنه.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم من (السوربون)

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة