مجلة الرسالة/العدد 346/أفانين

مجلة الرسالة/العدد 346/أفانين

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1940



أثر الإيحاء في جلب التفاؤل

للأستاذ علي الجندي

- 1 -

للإيحاء سلطان كبير على النفوس، يدفعها إلى القيام بأعمال جليلة ما كانت لتقوم بها لو عداها أثره الحافز القوي

ولا نبالغ إذا قلنا: أن جل الناس يضربون في زحمة الحياة ومعتركها الهائل تحت تأثيرها ذلك الإلهام الباطني وان لم يشعروا به أحياناً لأنه أخفى دبيباً من السحر

وفضل هذا الإيحاء عظيم في انه يشد عزائمنا ويستجيش قوانا، ويملؤنا رجاء وأملاً، ويهون علينا اجتياز الصعاب والعقبات

فالتاجر لا تتفتح نفسه للتجارة ويقبل عليها بشغف ولذة، إلا إذا ألهم نفسه أن من وراء ذلك المكسب الطائل والربح الوفير

والجندي في ساحة الوغى إذا فقد الروح المعنوية - وهي فن من الإيحاء - فقد أمضى أسلحة القتال، ولم يجد عليه أن يكون شجاع القلب حسن الدرية قوي العدة. وقد عبر عن هذا المعنى بأجلى عبارة فارس الإسلام (علي أبن أبي طالب) حين سئل: بم كنت تنال النصر؟ فأجاب: كنت أبرز للخصم وأنا أعتقد أني أغلبه، وهو يعتقد أني أغلبه، فكنت أنا ونفسه عليه

والإيحاء بمعناه العلمي يؤمن به أطباء هذا العصر كل الإيمان ويستخدمونه علاجاً ناجعاً في شفاء الأمراض العصبية والعقد النفسية والعادات الشاذة. وقد حدثني بعض من درسوا الحياة الإنجليزية أن الأمم هناك تعود طفلها قبل النوم أن يقول لنفسه: (إني سعيد) عشر مرات والغرض من هذا أن يتدسس هذا الاعتقاد إلى عقله الباطن فيخالط نفسه بمر السنين ويمتزج بمشاعره، فيستقبل الحياة مرحاً متفائلاً ريان الأمل بساماً على السراء والضراء.

وأقول بهذه المناسبة: إني شفيت بفضله بعض الشفاء من الخجل المفرط والحياء الغالي، وهو مرض موروث كثيراً ما قعد بي عن غثيان الأندية والمحافل، ومنعني من أداء الواجبات وزيارة الأصدقاء.

كما أشهد أنني انتفعت به في قرض الشعر؛ ذلك أنني كنت مكثراً منه في مفتتح حياتي الأدبية، ثم صرفتني عنه الكتابة صرفاً تاماً حتى عسر الرجوع إليه، فما زلت أوحي بأن من الجناية تعطيل هذه الموهبة، وان الشعر أروع ألوان الأدب وأجلها خطراً ولا يسد مكانه غيره، حتى عدت إليه تدريجاً. . . والعود أحمد أن شاء الله. وليس التشاؤم إلا ضرباً من الأوهام تتحكم في ضعفاء الإرادة رقاق الإيمان، فيمكن التخلص منها بالإيحاء.

وهذا الدواء - أعنى الإيحاء - عرفه الناس قديماً لأنه دواء فطري، إذ لا يخرج في حقيقته عن المغالطة التي لجأ إليها الإنسان أحياناً ليدخل الروح على نفسه ويستل منها القلق والاضطراب.

ولنعرض الآن صورتين متشابهتين يغلب في الأولى التشاؤم فيلونها بلون قاتم كريه تقرأ فيه اللوعة والحيرة والتبلبل! ويتجلى في الثانية التفاؤل فيشيع فيها النضارة والبهجة والإيناس!

في الصورة الأولى نرى (ذا الرمة) الشاعر، مر في طريقه بغراب ينعب فوق بانة، فمثل له خياله المظلم أن الغراب نذير الاغتراب! وأن البانة عنوان البين! وقد نمهد له العذر في الغراب، ولكن كيف يسوغ التشاؤم بالبان؟ وبه تشبه قدود الحسان!

قال ذو الرمة:

رأيت غراباً ناعباً فوق بانةٍ ... من الغضب لم ينبت لها ورق نضر

فقلت غرابٌ غراب، وبانة ... لبين النوى، تلك العيافة والزجر

ومثله جحدر اللص في قوله:

ومما هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تَجاوبانِ

تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على غصنين من غرَبٍ وبان

فكان ألبان أن بانتّ سليمى ... وفي الغرَب اغتراب غير داني

وفي الصورة الثانية نرى الأمر على نقيض ذلك مع أن بواعث التشاؤم أشد واكثر، نرى (إباحية النمري) أنشأ سفراً، فسنحت له عقاب، وطالعته حمائم تنوح على شجرة طلح، وهدهد ساقط على غصن بان، تحته بقعة من دم مسفوح! وكانت هذه المرائي الغريبة التي يسودها التنافر خليقة بأن يتطير منها، ولكنه طرد عن نفسه طوارق السوء، وأوحى لها أن كل أولئك من إمارات الخير والبركة، فما عتم أن انقلب الشؤم في عينيه يمناً، واستحال الليل نهاراً! قال:

بدا يوم رحنا عامدين لأرضها ... سنيحٌ، فقال القوم مرّ سنيحُ

فهاب رجال منهمو وتقاعسوا ... فقلت لهم جاري إليّ ربيح

عُقاب بأعقاب من الدار بعد ما ... جرت نية تسلى المحب طروح

وقالوا حمامات فَحُمّ لقاؤها ... وطلح، فزيرت والمطيُّ طليح

وقال صاحبي هدهد فوق بانة ... هدى وبيان بالنجاح يلوح

وقالوا: دَمٌ، دامت مواثيقُ بيننا ... ودام لنا حُلوُ الصفاء صريح

ويمتد بنا القول إذا وقفنا عند كل شاهد وعمدنا لتحليله، فنكتفي لضيق المقام بإيراد الأمثلة وفيها غنية عن البيان.

دخل الحجاج الكوفة متوجهاً إلى عبد الملك فصعد المنبر، فأنكسر تحت قدمه لوح، ففطن إلى أن الكوفيين قد تطيروا له بذلك، فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله وقال: شاهت الوجوه وتبت الأيدي! وبؤتم بغضب الله! أئن أنكسر عود جذعٍ ضعيف تحت قدم أسد شديد تفاءلتم بالشؤم؟! ألا وإني على أعداء الله تعالى لأنكد من الغراب ألابقع، وأشأم من يوم نحس مستمر!

وخطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان، فسقط القضيب من يده، فتطير له عدوه بالشر، واغتم صديقه، فعرف قتيبة ذلك فقال: ليس الأمر على ما ظن العدو وخاف الصديق، ولكن كما قال الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ

وكان الوزير أبو نصر الكندري يتولى في أول أمره حجب الناس، وكان الباخرزي رفيقه في الدرس فقال مداعباً إياه:

إقبل من كندر مُسَيْخرةٌ ... للنحس في وجهه علاماتُ

يحضر دُورَ الأمير وهو فتىً ... موضع أمثاله الخَرَاباتُ

ثم ارتقت الحال بالكندري حتى صار وزيراً محكماً، فورد عليه الباخرزي وهو في صدر الوزارة ببغداد، فلما رآه قال له: أنت صاحب (أقبل من كندر مسيخرة. . .) قال: نعم. فقال الكندري: مرحباً وأهلاً! إني تفاءلت بقولك (أقبل. . .) ثم خلع عليه قبل أن ينشده مديحه فيه. ومن الأمثلة الشعرية قول نور الدين المايورقي من شعراء نفح الطيب:

وذهيفٍ راق العيون انثناؤه ... بقد كريّان من ألبان مُورق

كتبتُ إليه: هل تجود بزورة؟ ... فوقع (لا) خوفَ الرقيب المصّدق

فأيقنت من (لا) بالعناق تفاؤلاً ... كما اعتنقت (لا) ثم لم تتفرق

ويقول عبد الرحمن من شعراء اليتيمة:

إذا دهاك الوداع فاصبرْ ... ولا يهولنّك البعادُ

وانتظر العوْد عن قريب ... فإن قلب الوداع (عادوا)

ومن أروع الشعر في ذلك: ما كتب به أبو الفضل الميكالي إلى قوم من أهل (مَرو) انخلعوا من طاعته وحلوا لواءه وتألفوا فرقتين تعيثان في الأرض فساداً! قال:

يا راكباً أضحى يخبُّ بِعنسِه ... ليؤمّ مَرْ وعلى الطريق المهْيعِ

أبلغْ بها قوماً أثاروا فتنةً ... ظلَّت لها الأكبادُ رهن تَقطُّع

إذ قدَّموا ظلماً على سلطانهم ... بالغدر والخلع الذميم المفظِع

وبحلِّ عقد لوائِه وإباحةٍ ... لجنابه وحريمه المتمنع

أبلغهمُ أني اتخذتُ لفعلهم ... فألاً، له في القوم أسوأ موقع

أما اللواء وحلُّه فمخِّبرٌ ... عن حَلَّ عقدٍ بينهم مستجمع

والخلعُ يخبر أن ستُخلع عنهم الْ ... أرواح بالقتل الأشد الأشنع

والغدر يُنبئ أن تغادر في الورى ... أشلاؤهم لنسوره والأضُبع

والفِرْقتان فشاهدٌ معناهما ... بتفرُّقٍ لجميعهم وتصدُّع

ويلاحظ في هذه الأمثلة أنها من نوع الإيحاء الذاتي (إيحاء الإنسان إلى نفسه) وسنتبع هذا المقال بطائفة من غرر الإيحاء الخارجي، فيها قرة العيون وشفاء الصدور والله المستعان!

علي الجندي