مجلة الرسالة/العدد 348/التوجيه الأول

مجلة الرسالة/العدد 348/التوجيه الأول

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

اتجه نظر النبي إلى الشام وما جاورها قبل أن يستتب له الأمر في الجزيرة بزمان طويل، بل قبل أن يفرغ من قريش، ويفتح مكة، وصحيح أنه كان قد عقد مع قريش صلح الحديبية، فأطمأن، واطمأنت قريش بذلك بعض الاطمئنان، ووسع النبي أن يتفرغ لغير قريش، ووسع قريشا أن تستأنف تجارتها مع الشام وهي آمنة، ولكن هذا كان قبل فتح مكة بعامين، وكان هناك اليهود أيضاً، وأمرهم غير هين، وقد قضى عليهم بعد عودته من الحديبية، فغزاهم في خيبر، واستخلصها منهم، ثم دعا يهود فدك فخضعوا بغير قتال، وتلاهم يهود وادي القرى بعد قتال يسير. ولكن هذا وسواه لم يكن قد تم لما شرع النبي - أو لما بدا أنه شرع يفكر - فيما وراء جزيرة العرب. وأكبر الظن أن تفكيره في الشمال قديم، فما يسع قارئ السيرة النبوية إلا أن يروعه عمق النظرة، وبعدها، ورحابة الآفاق التي تمتد إليها

ومن أول مظاهر هذا الاتجاه، إرساله إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، وملك الحيرة، وملك اليمن، ونجاشي الحبشة. . . يدعوهم إلى الإسلام؛ وقد كانت هذه دعوة عامة، وإذا تركنا الحبشة: فإنها فيما وراء البحر، واليمن: لأنها داخلة في شبه الجزيرة. فإنه يبقى الشمال، الذي جاءت الحوادث بعد ذلك بما يخصصه. وعسى أن يكون من أول دواعي هذا التخصيص أن الحارث الغساني ملك الحيرة، لما تلقى كتاب النبي بالدعوة إلى الإسلام بعث إلى هرقل ملك الروم يستأذنه في أن يقوم على رأس جيش، لمعاقبة صاحب هذه الدعوة الجديدة، ولكن هرقل صرفه عن ذلك لأسباب لا تعنينا هنا، فما أريد أن أكتب تاريخا حديثا - فقد تكفل بذلك الصديق الزميل - على الرغم من الوزارة والرتبة، الدكتور هيكل باشا، جزاه الله عن المسلمين خيرا. . . وإنما كل ما أقصد إليه من ذكر هذه الدعوة التي وجهها النبي إلى الملوك، هو الإشارة إلى الاتجاه فيها. . .

ومن المحقق أن عين النبي كانت على الشام خاصة، والشمال عامة، وهو يعرفها حق معرفتها؛ فقد سار فيها صبياً، وشاباً، ورجلاً قبل البعث. ولم يكن يخفى عليه أن حياة الجزيرة رهن بتجارتها مع الشام، ولهذا رأى في الهجرة إلى المدينة وسيلة تعينه على السيطرة على مكة، والتحكم في طريق تجارتها، وكانت قبائل العرب قبل عهده، لتفككها، محتاجة إلى مصانعة الملوك المجاورين، لتطمئن على هذه التجارة، على أن النبي - فضلاً عن ذلك - كان يرى أن الشام وما جاورها، هي الطريق الطبيعي لامتداد دولة الإسلام وانتشار الدعوة إليه، وتخطيها حدود الجزيرة، وغير مستغرب أن يتطلع إلى ما وراء الجزيرة، من جاء بدين الحق للناس كافة، لا للعرب خاصة. . .

وقد تأنى، ولم يعجل بفتح مكة، لأنه كان واثقا من الظفر بها في أوانه المقدور، ولكنه وجه إلى الشمال ثلاثة آلاف قاتلوا في مؤتة، وكانت هذه (حملة تأديبية) صارت مقدمة لغزوة ذات السلاسل، ثم لغزوة تبوك، لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن الروم يتهيئون لغزو حدود العرب الشمالية. على أن الروم لم يحاربوا بل انسحبوا لما بلغهم أمر الجيش الذي سيره النبي وقوته، فآثر النبي ألا يتبعهم، واكتفى بالإقامة عند الحدود متحدياً متحفزاً عاملاً على كفالة هذه الحدود وتأمينها، وقد خضع له غير واحد من الأمراء هناك وأعطوه الجزية، وسار خالد بن الوليد بأمره فاستولى على دومة وبذلك أمن النبي عليه الصلاة والسلام الحدود الشمالية، وجعل من البلاد التي تعاهد مع أمرائها، معاقل وحصوناً قائمة بينه وبين الروم، وانتفى كل خوف من العدوان على الجزيرة وأهلها

ولكن النبي لم يكتف بذلك، فما كاد يعود من حجة الوداع حتى أمر بتجهيز جيش عظيم أمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة ليسير به إلى الشام. فخرج من المدينة، ولكن الله لم يكتب له الذهاب إلى الشام فقد مرض النبي، واشتد عليه الأمر، فحال ذلك دون مسير الجيش، وكان أن انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى. فانصرف المسلمون إلى شؤونهم العاجلة، مثل ($) واختيار أمير للمؤمنين، ثم الردة وما استوجبت من التفرغ لقمعها ولكنهم بعد أن انتهوا من ذلك، واطمأنوا إلى استقرار الأمور في شبه الجزيرة، شرع أبو بكر رضي الله عنه، في إمضاء سياسة الرسول، فوجه الجيوش إلى الشمال

والمؤرخون الغربيون يصفون أبا بكر أحيانا بأنه (محمد الثاني) ولا يعنون بذلك أكثر من أنه هو الذي شرع في رفع بناء الدولة الإسلامية التي وضع الرسول (ص) قواعدها وأرساها وقررها، وأن موقفه من المرتدين هو الذي كفل لدولة الإسلام أن تبقى قائمة، وأن يتيسر لها الامتداد. . . على أن هذا موضوع آخر، لا نرى أن نستطرد إليه فنخرج عما قصدنا إليه، من بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي وجّه المسلمين إلى فتح الشام وما جاورها، ولو امتد به العمر لتم ذلك في حياته، فقد كان من الجلي أنه بعد أن اطمأن على الجزيرة وبسط عليها سلطان الدين الذي بعث به، صار همه هذا الشمال، ولكن الله اختاره إلى جواره، بعد أن أتم رسالته، وفهم عنه أبو بكر، فاتجه بالمسلمين إلى حيث أراد النبي أن يوجههم. ومن الممكن أن يقال إن أبا بكر أراد بالزحف على الشمال أن يشغل المسلمين بالحرب والفتح، بعد الردة وحروبها، وهذا صحيح، ولكن أصح منه أن هذا هو توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، كما فهمه أبو بكر وعمر من بعده. فالنبي لم يجيء بالدين وحده، بل وضع قواعد الدولة المدنية أيضاً، ورسم لها مستقبلها العالمي وعيّن لها اتجاهاتها جميعا

إبراهيم عبد القادر المازني