مجلة الرسالة/العدد 348/ضع يدك في يد محمد
مجلة الرسالة/العدد 348/ضع يدك في يد محمد
للأستاذ عبد المنعم خلاّف
ضع يدك في يد محمد وسر معه في الطريق الذي شقه له بارئ الطبيعة بين السبل المتفرقة إلى الحقيقة والعدالة والسلامة الاجتماعية، وقوة الاعتزاز بالقيوم على السموات والأرض، وشدة الحرص على اتباع أسلوبه في حفظ الفطرة سليمة من زيغ الحس وخداع الهوى وأفن الرأي وألاعيب الذكاء. . . تسلم لك نفسك أولاً، والإنسانية ثانياً، والطبيعة كلها ثالثاً
فلم يبق لك بد أن تفر إلى هذا الرجل وتستعينه في جهاد ما يجتاح الأرض الآن من الشر والتقدير السيئ للنفس الإنسانية والحياة والاجتماع
ولم يبق لك بد كذلك أن تقيم المثل الأعلى الذي رسمه الله في قلب هذا الرجل وعقله وتقذف به على الأمثلة السفلى التي رسمها الأنبياء الكذبة في هذا الزمان
نعم إنك لست في قوة هؤلاء الجبابرة، ولكن من هنا ستكون المعجزة. معجزة محمد في صرع طواغيت الظلم والجبروت والحيوانية وتفريق الإنسانية وردها إلى الوحشية الأولى
إنك عرفت برأيك الحق الذي مع محمد، وتعرف الباطل الذي مع هؤلاء، فاعرف بعزمك وجهدك في أي الصفين يجب أن تقف. ولن يغفر لك رب الحياة القيوم عليها والغيور على اطراد أسلوبه فيها أن تقف شيطاناً أخرس ترى الإنسانية - أثمن ودائع الله في الأرض - تتخطفها الشرور وتتوزعها الأباطيل وتصرفها عن وجه الحقيقة والعدالة وتخرب بناء أجسامها وعمرانها بعد ما طال وسما
لقد سار شباب كل أمة وراء نبي كاذب يقول لهم: نحن! نحن! ولا أحد غيرنا. . . فالشمس والهواء والغبراء والزرقاء لم تخلق في عرف هؤلاء إلا لهم. وهذا كذب صارخ على الله، وحرب مصرحة مستعلنة لما أراده من تنويع الناس، وشرود جامح عجيب من عقل الإنسان ذي الشطحات
ونحن لن نبحث عن رجل آخر نسير وراءه ينعق لنا وننعق له ونطلب منه مبادئ أخرى تجدد حياتنا، وإنما ستبعث محمداً في نفوسنا ونسير وراءه فيهتف لنا ونهتف معه بما هتفت به السموات والأرض وكل قائم حقيق في الفكر والحياة والزمان الأزل الأول وفي الأبد الآخر فلن نصاب بعبادة الأشخاص وتأليه الأفراد. وهذه إحدى نعم الله في محمد على الديمقراطية وميراثها. فقد كفل الله لكل نفس حق سيادتها واستقلالها بالعلم والرأي حين خولها القرآن: (مأدبة الله في أرضه) وجعل مبادئه واضحة أمامها دائما: (ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكرٍ) وعلى قدر الامتلاء من مبادئ محمد و (تمثيل) الأشخاص لها يكون مركزهم من قيادة أمتهم من غير سيادة فردية أو خيلاء عاهرة أو مجد شخصي يطلبونه. . . وإنما هو ظل مجد محمد وقع عليهم فأضفى عليهم لوناً من ألوانه
إن محمداً نفسه لم يطلب مجداً ولم يرد ذكر كلمة المجد الإنساني على لسانه. . . وإنما كان يعرف أن المجد لله كله والتوفيق منه. وما كان قلبه يبيح له أن يطلب هذه الصغائر التي تذهب قيم العظائم. وإنما كان يذكر كلمة (الواجب) والجهاد له كثيرا. . .
وإن من طبيعة الرسالة المحمدية أن تحطم الأنانية الفردية والكبرياء والخيلاء والادعاء، لأنها تعرف أن هذه الصغائر لا يقوم معها حق ولا فضيلة ولا دولة ولا سيادة قومية ولا ملية. ولذلك خرج العرب بعدما وعوا ما في ألواح هذه الرسالة خافضي الجوانب من الطاعة والرحمة والتواضع في غير ذله (تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناه) قد يركب عبدهم على دابة والسيد يسير بجواره. وقد يضع ابن البيضاء لابن السوداء خده على التراب استغفاراً من تعييره مرة بسواده وتوكيداً لاعتذاره. . .
لقد أوشك أن يختفي اسم الله عن إنسانية هذا العصر، ويختفي ما كان يحيط بهذا الاسم من عالم الطهر والخير والصبر وانتظار الجزاء من وجهه ذي الجلال، ويظهر وجه الشيطان والإنسان وحدهما. فأبطال الدنيا يخفون اسم الله عن أعين القطعان التي أسلمت قيادها لهم، وهم يجحدون بذلك كل جهاد أولى العزم من الرسل والمصلحين السابقين الذين أوصلوا الإنسانية إلى ما وصلت إليه، ويبدءون فلسفة أنانية، ولا يرون من حقائق الحياة العليا إلا القوة
إنهم شككوا الناس في رحمة الله وعدله وأوشكوا أن يريبوهم في وجوده! وبذلك خبلوهم وصرفوهم عن رؤية أول حق يجب أن يرى. . .
لقد يتساءل بعض الذين لم يتصلوا بأصول الحياة: أين رحمة الله في حرب مثل الحرب العظمى أو هذه الحرب التي توشك أن تكون أعظم؟ واين قيمة الإنسانية التي نزعم لها القداسة مع أن بعضها ينظر للبعض الآخر باحتقار؟ إن معنى الإنسانية لم يتحقق حتى نعترف لها بالقداسة. إن الأبيض يدوس الأسود، والأحمر يحتقر الأصفر، والأصفر يحقد على الأبيض، وهكذا. . . فهي إلى الآن لم تعترف لنفسها بحق، ولم تعرف وضعيتها في الحياة، ولم تدر غايتها فيها، ولم تتفق على كلمة سواء فيما بينها. وهي لا تزال في بلبلة من آرائها ومعتقداتها ومذاهبها. وهي لا تزال تعيش بمنطق الأحراج والغابات، ولم تقلع بعد عن فجراتها وغدراتها وغفلاتها عن عالم السمو والعلم الذي ما خلقت إلا له.
وهذا التساؤل وهذا التشكك لا جواب له ولا شفاء منه إلا في (الكتاب) الذي طبع اسم الله على كل شيء وفي كل وقت حتى يرى الناس به الحق دائما ولا ينسوه. ولن يستقر كل شيء من عالم الآفاق وعالم الأنفس في مكانه إلا إذا طبع اسم الله عليه. وعبثا يطلب مصلح استقرار النفوس ما لم يكن هذا أداته الأولى. وهذه هي طريقة القرآن في كل آية: أن يذيلها بذكر جانب من صفات الله وشؤونه
إن منطق الإسلام يستمد من قوانين الفطرة الضامنة لكل ما أخرجته من الأحياء حق الحياة وأدواتها، ومن روح الحق الذي يملأ كل ذرة من ذرات الخليقة
إن محمداً اتصل ببارئ الفطرة وواضع قوانينها التي لا تتبدل وأتى بمنطقه ووضعه دائماً أمام أعين الإنسان، حتى لا ينسى أخلاق الله في ملابسته لجميع أعمال دنياه. . .
ألم يقل: (تخلقوا بأخلاق الله)؟ ما أعجب هذا القول! وما أعظم ربطه بين النفس الإنسانية والطبيعة ذات القوانين التي لا تضل ولا تخلف!
وخلافة الإنسان في الأرض هي أن يعمرها على أسلوب الله: أي أن يضمن الحياة لكل حي يستحقها ويقيم العدل الموزون بين العناصر، ويستعمل قدرته، ولا يعطلها بالجهل والمرض. . . ويخلق من طين الأرض وموادها البكر الميتة آلات يقلد بها صنعة الله، ويسيرها بعقله وذكائه كما يسير الله الأحياء بروحه وإلهامه. . . على شريطة ألا يخرجه ذلك عن نطاق الطبيعة فينسى أنه من أبنائها وأشيائها؛ ولكنه دائما يضل وينسى هذا، لأنه ذو اختيار وذكاء وشطحات تباعد بينه وبين أسلوب الطبيعة، وفتنته من هنا. . . فهو يخلق بذكائه جواً صناعياً حوله يجعله منفصلاً عن سير الحياة بما عداه من الأحياء، ويجعل بين عالمها وعالمه حاجزا!. . .
فلو إنه ملك فكره وقدرته حين بدأ سير حياته العقلية، ونظر نظرة في النجوم: نجوم السماء ونجوم الأرض، وقال كلمة للقرآن التي هي معنى الإسلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً) ومضى مع مواكب الطبيعة حادياً لها بعقله وبيانه، نائبا عنها في النطق باسم ربها وربه. . . إذا لوضحت أمامه طريق الحياة وتراءت له غايتها مما يبعث فيه الطمأنينة واليقين والصبر وحب العمل لها ولما بعدها. والمنطق البسيط المأخوذ من هذه النظرة الواضحة يقول: ما دام الناس متفرقين مختلفين في الفطرة ولهم حق الحياة، فمن الجهل والظلم أن أحتقر جنساً غير جنسي أو أحتكر الحياة لنفسي وحدها مادام كل إنسان لم يخلق نفسه. . . ومن حسن الحظ أن هذه النظرة الأولية الطبيعية تلتقي مع النظرة الناشئة من تتبع الميراث الصناعي لأساليب حكم الجماعة الإنسانية: أي مع أهم مخلفات الحياة الديمقراطية التي ارتاح لها الإنسان السياسي: ألا وهي حق الحياة وحريتها لكل فرد ولكل جماعة. . .
ومن حسن الحظ أيضاً أن حراس الديمقراطية الآن - وإن كانوا أنقص من المسلمين بدرجة عظيمة في تقديرهم معنى المساواة والحرية والرحمة والأخوة الإنسانية - مستعدون أن يسمعوا دعوة الإسلام لها وأن يأخذوا أصواتنا القديمة والحديثة في الدعوة إليها والدفاع عنها ليضموها إلى أصواتهم وهم يحاربون أعداءهم
نعم نحن نفترق عنهم في التقدير وفي الغاية، فنحن نطلب الحق والحرية والعدالة لذاتها واللذة إحساس نفوسنا بسموها إحساساً مستنداً على حرارة الإيمان ويقين العقيدة الدينية، وهم يطلبونها ويقدرونها لحفظ ما في أيديهم من الحطام وأعراض الدنيا
غير أننا يجب أن ننتهز هذه الفرصة لندخل بمبادئ محمد إلى قلوب حراس الديمقراطية، فلعل ما هم فيه من المحن والنكبات يجعلهم يقبلون على الخير والحق لذات الخير والحق. . .
ومادمنا نعتمد على إعانة رب الحياة الذي نستمد من قوته وقهره للدفاع عن أسلوبه في الطبيعة وحفظ فطرته كما أرادها؛ فإننا واثقون أنه سيفتح لنا ثغرا في حياة الغربيين ينفذ منها نوره الذي وضع مِشعاله الأخير في يد محمد
وأحس أن هذا الزمان يتمخض عن انقلاب خطير! إما إلى عصر ارتداد وانتكاس وجاهلية جهلاء. . . وإما إلى عصر سمو حقيقي للإنسانية. فعلى الذين وهبوا أنفسهم للحق الذي عرفوه أن يأخذوا مكانهم في الصف الذي اختاروه: صف الطبيعة ورب الطبيعة في هذه المواقع الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر
إن قلب الإنسان يفعل الأعاجيب إذا ما اتصل بالخير. . .
إن المرصد الذي يرصد إرادة القدر ووجهاته حين يريد رب القدر أن يفرق أمراً حكيماً أو يبرمه
إنه مذياع أرضي يذيع النداء العلوي المتجدد. . .
ونريد من الذين لا يعترفون بالديانات ولا يؤمنون بالغيب ولكنهم مألومون من حالة الشر التي في الأرض الآن، أن يقفوا في صف محمد على إنه بطل يمثل آراءهم أصدق تمثيل وأقواه
وإن في مبادئه عناصر بشرية خالصة مستمدة من طبيعة الأرض لا من روح السماء
فليعيشوا بمبادئه هذه فقط، وليتركوا مبادئه السماوية للذين في قلوبهم نوافذ ترى ما لا تراه القلوب الضعيفة
ولعل النصر الذي يلاقونه من السير وراء محمد يرشدهم إلى أن فيه جانبا آخر، فيحملهم ذلك على الإيمان بمصادر وحيه جميعها
وأؤكد أن ما فيه من السمو المتفرد سيحمل كل منصف على أن يرى تفرد قلبه وعقله بصفات لم يتصف بها أحد. وهذا أول درجات الاعتراف له بالاتصال بعالم خارج عن نطاق الأرض ما دام قد تفرد بين أبطال الدنيا الذين نظروا إلى الحياة من جهة واحدة، بأن قلبه وسع كل حيوات الناس، واستوعب قضاياهم، وأتى من الله بصميم الحق الذي لا يتبدل في الأمم والأمكنة والأزمان. ولا يعرف قدر محمد رسول الله وطبيعة تفرده بين البشر إلا الذي أغرم بقراءة تاريخ أبطال الدنيا. إنه لن يجد قلباً ولا عقلاً وعى ما وعى عقله وقلبه من الحق الصادق والحكمة البالغة ووسائل إمساك الإنسانية على حدود العدالة
وكثيراً ما افترض أني نشأت غير مسلم، وأتخيل حياتي العقلية على هذا الغرض، وقد أصابها ما يصيب أي عقل باحث من الشكوك وآثار استعراض الآراء والمعتقدات، فأجدني حينئذ كأعمى يخبط في صحراء، كل ما لديه من الإيمان ناتج من شعوره بالعجز المطلق أمام جبروت الكون وإبهامه وإصراره على إخفاء ما وراءه من أسراره. . . فماذا عساه أن يفعل إزاء هذا غير البكاء الدائم من عينيه المغلقتين المظلمتين إن كان محساً بالحياة مقدراً لمصيرها المجهول. . .؟ وغير اللعن الدائم للسموات والسعي بالإفساد في الأرض إن كان بليد الإحساس بالحياة، غافلا عن مصيرها. . .؟ وغير اللِّياذ بصنم: بشري أو حجري أو شجر أو شمس أو قمر أو ثعبان أو بقر إن كان محدود النفس جبان الرأي؟
أما الإيمان المشرق الواضح الذي يميز كل شيء ويضعه في مكانه، ويعرّف رب الكون بما يشبع رغبات العقل من غير إفساد لائتلاف العقيدة مع العلم ومع الفلسفة ويضع للإنسان غاية معروفة للحياة. . . فذلك ما كنت أفقده لو لم أنشأ مسلما
وهكذا يبزغ الفجر العقلي الجديد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسيتحول حب المؤمنين به الباحثين فيه إلى حب عقلي وتقدير بمقاييس موضوعية لا ذاتية إذ عرفوا أن رسالته لا تضارعها رسالة حديثة أو قديمة على كثرة تقلب الدنيا في المعتقدات والمذاهب والآراء.
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف