مجلة الرسالة/العدد 348/في جنازة الشرك!

مجلة الرسالة/العدد 348/في جنازة الشرك!

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



آلهة الكعبة يسجدون. .

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(أسطورة وثنية جديدة يتخيل فيها الشاعر لونا من الفزع الذي

حل بأصنام المشركين، على ألسنة الجبابرة الخرس من الآلهة

الحجرية: (اللات، والعزى، ومناة!) في اجتماع لهم غداة

أشرق في ظلمة محاريبهم شعاع من نور محمد!)

مَناة (في حال من الكبرياء والجبروت يحي رفيقيه عقيب ليلة طال فيها سجود المشركين في ساحة الأصنام):

سَلامَ الأُلوهِةِ يا صاحِبَيَّ ... وَحَيّتْكُما عِزَّتي العالِيْة!

وَحَيّتْكُما مِن شعابِ الجبالِ ... قلوبٌ لأطيافِنا جاثِيَةْ

وَشَعْبٌ عَلَى الأرْض عاتي الْجِباهِ ... تَخِرُّ لنا رُوحُهُ العاتِيَةْ

تأبَّى فَسَوَّى شُعاعَ النُّجوم ... لخَيًماتِهِ طُنُباً زاهِيَةْ

وَألْقَى الزمانَ على خَطْوِهِ ... حَديثاً لأمجادهِِ السّارِيَةْ

صَحاراهُ أُنْشُودَةُ الأنبياءِ ... وَمَسْرَى شُعَاعَتِها الهادِيَةْ

وَحَقْلُ السّماءِ الّذي فَجَّرَتْ ... علَيْه يَنابيعَها الصَّافِيَةْ. . .

بَنُو السَّيفِ وَالبِيدِ أهلُ الوغَى ... وَأَبْطَالُ دَوْرَتِها الحْامِيةْ

فَمُ الدَّهرِ يَبْلَى وَأَشْعَارُهُمْ ... تَظَلُّ الغُيُوبُ لها رَاوِيَةْ!

أُولَئكَ مَنْ طوّفُوا حَوْلَنا ... خُشوعاً لِصَوْلَتِناً الطّاغِيَةْ

وَمَنْ قَدَّسُونا فَكُنَّا لَهُمْ ... حياةً لأَعْمَارِهْم ثانِيَةْ. . .

اللاّت (في تعجب وسخرية):

أَرَاكَ تَغالَيْتَ في ذِكْرِهِمْ ... وَكنْتَ لَهُمْ في الوَرَى دَاعِيَةْ

إلهُ يُمَجَّدُ عُبَّادَهُ ... وَيَكْسُوهُمُ المِدَحَ الغالِيَةْ وَيَخْلَعُ مِنْ قُدْسِ أَوْصَافِهِ ... عَلَى رِجْسِهِمْ حُللاً ضَافِيَةْ

لَبِئْس الهُدَى عِنْدَهُ وَالرَّشادُ ... وَتَبَّا لِشِرْعَتِهِ الْغاوِيَهْ!

مَناة (صارخا في وجه (العزَّى) وقد كان في إطراق عميق):

سَمِعْتَ مِنَ اللاّتِ هُجرَ الحدِيثِ ... وَسُخْفَ المَلامِ وَزَيْفَ الْكلِمْ

وَأطْرقْتَ لم تُلقِِ بالاً لَهُ ... ولم يَسْتَثِرْكَ انِتهَاكُ الحُرَمْ

إلهُ وَتَرْضَى بهذا الهَوانِ ... وَتَغْرِقُ في الصَّمْتِ مثل الصَّنَمْ!

العُزَّى (في دهشة واستغراب):

وما أنا إلاّ كما قَدْ نَعَتَّ ... جَمَادٌ عَلَى الأرضِ خَاوٍ أَصَمّْ

وما أنتَ يا صاحِ!. . .

مَناة:

. . . . . . رَبٌّ عَظِيمٌ ... تُرَّجى لَدَيَّ المُنَى وَالنِّعَمْ

وَتمْشِي بِصَوْلَجِيَ السَّافياتُ ... وَتَنهَلُّ مِنْ رَاحَتيَّ الدّيمْ

وَباسمِي تَغَنَّي حُداةُ الجِمَالِ ... وَمَالُوا نَشَاوَى بِسِحْرِ النَّغَمْ

وفي الرَّوْعِ تَجْثُو لَديّ السُّيُوفُ ... وَبي تَسْتَجيرُ، وَلى تَحْتَكِمْ

وَبي تُقْسِمُ البِيدُ في عَهْدِها ... جَلالاً. . .

العُزَّى (يقاطعه):

. . . وَأَهْونْ بهذا القَسَمْ!

كَذَبَتّ ألسْنَا هنا ثلةً ... من الصَّخْرِ خَرْساَء مُنْذُ القِدَمْ؟

تَلَهَّى بِأحْجَارِنا النَّاحِتُونَ ... وَأَلقَوْا بِنَا في مَهِاوي الظُلَمْ

سَكَنّا الحَضِيضَ أَسَارَى البِلَى ... وكانَتْ مَرابِعُنا في القِمَمْ

دُمُوعُ الجِبالِ عَلَى ذُلِّنا ... هي السَّيْلُ يُرزِم فَوقَ الأكَمْ

أبْعَدَ النَّدَى مِنْ كُؤُوسِ الغَمامِ ... يُصابِحُنا بالرَّحيق الشَّبَمْ!

وَبَعْدَ الرّْياحِ وَتَطْوَافهِا ... صَلاةً وَنُسْكاً بِعالي الأطُمْ!

وَبَعْدَ الشَّذَى من خُزامَي السُّفُوح ... تَفَتّقَ نُوَّارُهُ وابْتَسَمْ!

وَبَعْدَ المَهارِج دَوَّى بها ... فَمُ الجِنِّ في لَيْلِنَا واحتَدَمْ وَبَعْدَ المَزَامِيرِ أذْكَى بها ... حنِينَ البَرَارِي رُعاةُ الغَنَمْ!

وَبَعْدَ السُّهُوبِ التي مَوّجَتْ ... أسَارِيرَها البِيضَ كَفُّ النسَمْ

وَكانَتْ مُصَلَّى شُعِاعِ الغُيوبِ ... وَدَيْرَ السَّماءِ، وكَهْفَ الحُرَمْ!

وَبَعْدَ الضُّحى العَبْقَرِيِّ العُبابِ ... عَرايا الصُّخورِ به تَسْتَحِمّْ. . .

. . . أقَمْنَا بزاويَةٍ أهلُها ... ذُبابُ القُبورِ، ودُودُ الرِّممْ

وخُفّاشُها وَثَنيُّ الصَّدَى ... يُوَصْوِصُ في جانِبَيْهِ البَكَمْ!

مَعَ الصَّمْتِ صَمّاءُ لا هَمْسَةٌ ... وَلا هَجْسَةٌ غَيْرُ صَوْتِ العَدَمْ!

ُنصِبْنَا مَذابحَ لِلسَّائماتِ ... وَمَجْزَرَة لِضَحايا النَّعَمْ

تَبولُ الثَّعالبُ في ساحِنَا ... وَتَسْلَحُ فَوْق الجِباهِ الرَّخَمْ

كفانا خداعاً!

اللات:

كفانا هواناً

مناة (في ندم وحزن):

أحِسَّ بِجَنَبيَّ عَصْفَ الألمْ!

يَدُورُ عَلَى عِزّتي بِالفَناءِ ... وَيَهْوِي بها في سَعِيرِ الضَّرَمْ!

أعِينا صَفاتي عَلَى هَوْلَها!

العزَّى:

تَجَرّعْ لَهيبَ الأسَى وَالندَمْ!

(فترة سكون وذهول تخيم على الكعبة، ويشرق خلالها أول شعاع من نور النبي)

اللات:

أرَى قَبَساُ في حِمَانا غَرِيبَا ... وألمَحُ في الأفْقِِ ضَوَْءا عَجيبَا!

عَلَى الأرْضِ دَفّقَ أنوَارَهُ ... فَسَالَتْ عَلَى الرمْلِ طُهْراً وَطِيبَا

وَأذْهَلَ بالَّلمْحِ قَلبَ الشُّمُوسِ ... وَدَاراتِ أفلاكِها، وَالغُيُوبَا

وَرِيَعتْ صُخُورُ الفَلاَ فَارتمَتْ ... عَلَى خَطْوِهِ وَاسْتَحَالَتْ قُلوبَا

أهَلَّ عَلَى جَلْمَدِي فاسْتَطَاَر ... وَأوْشَكَ مِنْ رَهبَةٍ أنْ يَذُوبَا أعُزَّايَ مَاذَا؟

العزَّى:

شُعَاعُ الضُحَى ... تَوَهَّجَ في البِيدِ غَضَّا قَشِيبَا!

مَناة:

هوَ النَّجْمُ خَفّ لَنا ساجِداً

اللاّت:

خَسِئْتَ! وخُيِّلتَ ظَناَّ كَذوبَا!

فما النَّجْمُ؟ ما ضَوْءُهُ الكَوْكَبِيُّ؟ ... وكم لاحَ يُضْفِي الأسَى والشُّحُوبَا

وما الشَّمْس؟ كَم عَصَّبَتها السِّنِينُ ... وكادَتْ نَضارَتُها أنْ تَشِيبا!

ضَلَلتَ وَضَلّ الّذِي خالَهُ ... عَلَى الدَّهْرِ يَوْماً سَيَلْقَى غُروبا

هُوَ النُّورُ قد رَقْرَقَتْهُ السّماءُ ... يُهَدِّي الحَيَارَى وَيَمْحُو الذُّنوبا

رأى الشِّرْكُ أقْبَاسَهُ فارْتَمى ... وَخَرّ عَلَى صَفْحَتَيها مُنِيبا

وَهذى جِنازتُهُ في الفِلاَ ... تَجُوسُ القِفَار وَتَطْوِي السُّهوبَا

فهيّا نُؤَدِّي صَلاةَ الجَمادِ ... وَنَسْجُدُ في الأرْضِ حتَّى نَذُوبا!

(ويسجدون!!). . .

(القاهرة)

محمود حسن إسماعيل