مجلة الرسالة/العدد 348/في دار الأرقم

مجلة الرسالة/العدد 348/في دار الأرقم

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للأستاذ ناجي الطنطاوي

اختفت شمس مكة وراء الأفق الساجي ساحبة ما تبقى من أشعتها الذهبية على قمم الجبال الشامخة، وعلى صدور الهضاب المتموجة، بعد أن لبثت نهارا كاملا تبعث الدفء والنور والحياة، وغام الأفق في مكة وبدأ ينتشر فيها الظلام، وما هي إلا لحظات حتى لفّها الليل بردائه الحالك وظهرت الكواكب في سمائها تلتمع خافقة واجفة، تزيّن تلك السماء الرحيبة الواسعة كما تزين الأوسمة الفضية الثمينة صدر القائد الكبير؛ وأوى الناس إلى دورهم يستنشقون فيها نسيم الراحة بعد تعب النهار الطويل، ويفيئون فيها إلى الدعة والسكينة بعد صخب النهار الشديد، وبدأت أضواء المصابيح الخافتة في الليل الأسود كأنها رقع في ثوب أو دنانير في جيب

وعمّ جبل أبي قبيس سكون رهيب، وصمت بالغ، وامتد (الصفا) في ذروة هذا الجبل رحيباً واسعاً باسماً جميلاً، يتمشى مع (المروة) جنبا إلى جنب، يحضن بضع دور قامت على جانبيه هي دور نفر من أهل مكة رغبوا عن سكنى مدينتهم التي تعجّ بالآهلين، فأحبوا الانطلاق إلى الفضاء الواسع، إلى الطبيعة الفاتنة، إلى النسيم الصافي العليل، فلم يلفوا خيرا من جنبات الصفا يلقون فيها عصيهم، ويبنون بها دورهم، ويحيون فيها حياة هادئة سعيدة

وكان الناظر إلى هذه الدور القليلة المنثورة هنا وهناك على أرض الصفا، يستقر بصره على دار قد نأت قليلا وانفردت، دار متواضعة صغيرة شيدت بالطين والقصب، وأحاطت بها الرمال الدكناء والصخور الجرداء، لا يشك أنها دار الأرقم بن أبي الأرقم ذلك الرجل العربي الذي كان يعيش من نتاج ناقته من اللبن، ومحصول أرضه من الشعير، لا يعرفه إلا نفر قليل من صحابه، ولا يدري بوجوده إلا أفراد معدودون من أهله

كان الأرقم مغمور الذكر، مجهول الاسم، يحيا كأكثر رجال قومه حياة ساذجة بسيطة فارغة متشابهة، هي بحياة الحيوان أشبه، يقضي نهاره في جمع الماء والحطب وسقي الزرع واستدرار النوق والأغنام، ويقضي ليله بين أهله يحدثهم ويحدثونه ثم يستلقي نائما حتى الصباح وقد كان من الممكن أن تظل حياته سائرة على هذا النمط ثم يموت فلا يدري به أحد، كما مات كثير من قومه فمات معهم ذكرهم، وقد كان من الممكن أن تبقى داره متواضعة حقيرة لا يعرفها أحد ولا يهتم لها إنسان، لولا أن الله سبحانه أراد لحكمة بالغة أن يجعل اسم الأرقم في فم الزمان، يتألق في التاريخ الإسلامي كما تتألق الدرة الثمينة في القصر الفخم العظيم، وأن يجعل تلك البنية الخاشعة الصغيرة المشيدة بالطين والماء، منبع حضارة هدت العالم، ومنبثق دين ساد الكون. . . كانت الدار الحقيرة كأمثالها من دور العرب في زمن الجاهلية الجهلاء، يقطنها عربي جاهلي ساذج مع أمه العجوز وزوجه الشابة وصغارهما، يحيون حياة بدوية بسيطة، لا تمت بنسب إلى الحياة الفخمة المعقدة ذات التكاليف والواجبات الثقيلة، أكان يدور بخلده أن حياته ستقلب رأسا على عقب؟ أكان يحلم أن داره ستصبح في يوم قريب أعظم مجلس نيابي قام على الأرض؟ أكان يظن أن شمسا ستشرق من داره فيعم نورها أرجاء الأرض ويحيا بها العالم؟. . .

خرج صباح يوم من داره يجول جولة بين قومه على عادته، يتسقط الأخبار، ويصغي إلى الهمسات والأحاديث. . . فسمع نفرا منهم يتحدثون عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، حديثا أثار اهتمامه، فأصغى إليه بكل جوارحه، ولاح له من كلامهم أن دعوة جديدة سيئة منكرة يقوم بها هذا الرجل، وبدت له شناعة هذه الدعوة وقبحها من كثرة الشتائم التي سمعها تنهال على صاحبها، فأكبر الأمر، وهاله أن يكون في قومه من يبتدع منكراً من القول يلفت به الناس عن دين آبائهم وعاداتهم وأخلاقهم، وصمم ليفتشن عن محمد، وليجتمعن به، وليسمعن كلامه الجديد. . . ومشى ذاهلاً يتملكه العجب من هذا الذي سمعه، وهو يعرف (الأمين) أحسن قومه خلقاً وأطهرهم نفساً وأبعدهم عن المفاسد والمعاصي، وأكثرهم أدباً وعقلاً ورزانة وحلماً وعفافاً، وأصدقهم، وأرقهم قلباً وأكثرهم عطفاً على المساكين والأطفال واليتامى والبائسين. . . إنه لا يعرف رجلا أطهر ولا أشرف ولا أكرم ولا أصدق من محمد. . . إن قومه لم يعرفوا له كذبة واحدة، ولم يستطيعوا أن ينسبوا إليه عملا سيئا قبيحا واحدا، فما الخبر؟ وما هذه الدعوة الجديدة؟!

وسار الأرقم، وظل سائرا، وهو يسأل الناس الذين يلقاهم عن محمد، حتى دل عليه، ووصل إليه؛ فرآه في جماعة من قومه يدعوهم ويحدثهم، فجلس لا يشعر به أحد، وأصغى، فسمع محمداً يقول: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)

وسكت محمد رسول الله، وانفض القوم ساخرين، واقترب الأرقم منه وقال: إن كان الإسلام ما تقول، فأنا على دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. . .

قام النبي يدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلو عليهم بعض آيات القرآن الذي كان ينزل عليه، فلا يجد منهم إلا الإعراض والهزء والسخرية، بل كانوا يتجاوزون ذلك إلى إنزال الأذى به وبأصحابه القلائل الذين فضلوا الإسلام على الشرك، وأمعنوا في الأذية، وتدرع المسلمون الصبر، ورأى الأرقم ذلك فداخل قلبه الهم الكبير والحزن المضني، وعزم على تخفيف آلامهم وشقائهم مهما كلفه ذلك، ووطّن نفسه على تضحية روحه وأهله وما يملك في سبيل هذه الدعوة الجديدة التي تغلغلت في كل جارحة من جوارحه

جلس في إحدى زوايا داره الصغير يفكر ويمعن في التفكير لقد كنت ضالا فأنعم الله عليّ بالإسلام، وكنت لا أهتم بسوى نفسي وأسرتي فأصبحت يملأ رأسي التفكير في هؤلاء الإخوان الذين تربطني بهم أقوى رابطة في العالم ألا وهي رابطة الإسلام؛ وكان أكبر واجب ملقى على عاتقي هو تأمين معاش هذه الأسرة الصغيرة فأصبح من أوجب الواجبات عليّ اليوم أن أنهض لأدعو إلى الإسلام، لألاقي من الأذى ما لاقاه إخواني، أو أن أحميهم بما أحمي به أهلي وولدي، وكيف لي بحمايتهم؟ أم كيف لي بدفع الأذى عنهم؟ لابد من العمل، لابد من العمل

وراح يستعرض المسلمين في مخيلته ليقف على عددهم، فوجدهم ستة ورأى نفسه السابع، وفاجأته فكرة ملهمة برد لها قلبه واطمأنت إليها جوارحه: إن في داري متسعا لرسول الله ولإخواني المسلمين، وإن فيها أمنا لهم وخلاصا من شقائهم، أفلا أستطيع أن أضمهم فيها على غير علم من المشركين؟

وأسرع إلى رسول الله، فأعلن أمامه الرأي الجديد، وبسط بين يديه الأسباب التي دعته إليها وقال له: - إننا ضعاف يا رسول الله، لا قبل لنا بهذه الوحوش الكاسرة، وإن الأذى الذي يصيب المسلمين قد اشتدت وطأته أفلا نأوي إلى داري لنجمع شتات أمرنا ونغيب عن أعين أعدائنا وننتظر فرج الله؟

فأكبر فيه الرسول الرحيم هذه التضحية، وأذن له بإيواء المسلمين.

نشر الفجر البسّام أجنحته اللؤلؤية الخفاقة على أرجاء الكون الغارق في السكون، المجلل بالسواد، الرازح تحت أعباء الوحشة، النائم تحت كلَّة الليل، فاخترقت سُدف الظلام ومزقتها، وأضاءت أرجاء الفضاء الرحيب وأنارتها، واحتدمت المعركة بين الجيشين: جيش الليل الذي أنهكه طول السهر وكثرة السمر، وجيش النهار الذي يملأ بردتيه عزم الشباب وتدفعه الأماني العذاب، وانجلى النضال عن تبدد العتمة وإشراق النور، وأطلت ذكاء من وراء الأفق البعيد الصافي، باسمة طروبا خلابة، وافترت لوهاد مكة وجبالها ودورها عن ابتسامة مغرية جذابة، فابتسمت لها مكة مجيبة شاكرة، ورقصت على جنبات الأفق الوهاج أطياف من السحر والشعر استيقظ الناس على منظرها الخلاب، وبدأت الحياة تدب في أرجاء مكة التي نضت عنها رداء النوم لتستبدل به درع الجد والنشاط، وهب المشركون غاضبين صاخبين مصممين على إفناء هذه الطغمة التي تضم أفراداً قلائل منهم، فتنوا عن عقيدتهم بعقيدة جديدة تقضي على كل ما خلف لهم الآباء والأجداد من آلهة. وليس بعجب أن يقوموا منذ الصباح الباكر يعدون العدة لعملهم السافل الدنيء؛ فلقد كانوا يحلمون في الليلة الماضية - وفي كل ليلة - بهؤلاء الأفراد الذين تحملوا كل أنواع الأذى في سبيل عقيدتهم، ولم يكن يبدو على أحد منهم أنه سينفذ صبره وتضعف مقاومته، كانوا يعجبون لقوة رسوخ هذا الدين الجديد في النفوس وتمكنه فيها واستهانته بكل أنواع الأذى والعذاب في سبيل بقائه سالما، وكانوا يخشون إن هم خلوهم وغضوا عنهم الأبصار ولم يأبهوا لهم، أن يجذبوا إليهم عددا كبيرا من العرب فيصبحوا قوة لا طاقة للمشركين بها.

وراح المشركون يفتشون عن الأفراد الصابئين في الأسواق وفي الساحات العامة، وفي ظل الحرم، وفي دور مكة المجتمعة، ولكنهم باءوا بعد سعيهم بالفشل، ولم يجدوا لهم أثرا، كأن الأرض ابتلعتهم وغيبتهم، فعادوا خاسرين أذلاء كما يعود الجيش مهزوماً مدحوراً. أجل، لقد اختفى المسلمون في تلك الدار النائية القائمة على الصفا، جمعهم رسول الله ليخف عنهم الأذى ويزول عنهم الألم، تحلقوا حوله في خشوع وصمت يستمعون إلى آيات القرآن الكريم التي يوحي الله إليه بها، ويصغون إلى مواعظه فتمتلئ أفئدتهم برداً وسلاماً وإيماناً ويقيناً، وتفيض نفوسهم شجاعة وعزماً، فيشعر كل واحد منهم أن في استطاعته أن يقاتل ألفا من المشركين وان يدحرهم ويردهم على أعقابهم خاسرين

جلس إلى جانب النبي فتى في ربيع حياته، كانت له دالة كبيرة عليه حتى إنه كان يدعو نفسه زيد بن محمد؛ لقّب نفسه بذلك حين أخرجه رسول الله إلى الحجر وقال: اشهدوا أن زيد بن حارثة ابني يرثني وأرثه وكان أول من أسلم من الموالي، وجلس إلى جانبه رجل ربعة حسن الوجه رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين، وضئ، أبيض مشرب بصفرة، جعد الشعر، ذو جمّة عند أسفل أذنيه، جذل الساقين، طويل الذراعين؛ ذلك هو عثمان بن عفان ذو النورين الذي يقول فيه رسول الله : لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان. وجلس إلى جانبه طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره هو الزبير بن العوّام حواري رسول الله وابن عمته صفية بنت عبد المطلب علقه عمه في حصير ودخّن عليه ليعود إلى الكفر فقال: لا أكفر أبدا، وظل متمسكا بدينه يحرص عليه حرصه على روحه. وجلس إلى جانبه رجل طويل القامة أبيض مشرب بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، أهدب الأشفار، أقنى الانف، طويل النابين الأعليين، ضخم المنكبين، غليظ الأصابع هو عبد الرحمن بن عوف. والى جانبه شاب في العشرين من عمره نشيط قوي حديد النظرات مفتول الساعدين هو سعد بن أبي وقاص. وجلس في الناحية المقابلة رجل مربوع إلى القصر، أبيض يضرب إلى الحمرة، ضخم القدمين، رحب الصدر آدم كثير الشعر ليس بالجعد ولا بالبسط هو طلحة ابن عبيد الله الذي أسلم على يدي أبي بكر. والى جانبه رجل نحيف، معروق الوجه، خفيف اللحية، يبدو عليه الخشوع والتذلل هو عامر بن عبد الله بن الجراح أمين هذه الأمة. والى جانبه أخ لرسول الله من الرضاع هو عبد الله بن عبد الأسد الذي يكنى أبا سلمة. ولقد أسلم عثمان والزبير وعبد الرحمن وسعد وطلحة على يد أبي بكر الذي كان يجلس إلى يمين رسول الله ملتفعاً بعباءته متوجها بقلبه وجسمه إلى إخوانه المسلمين يؤنسهم ويكبر فيهم الثبات على الحق وكانت الغرفة الأخرى في الدار ممتلئة بأفراد آخرين من المسلمين كعثمان بن مظعون وأخويه قدامة وعبد الله وكعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة ابنة الخطاب. كانوا يتحدثون تارة ويذكرون الله أخرى، ويتواصون بالصبر والثبات على كل أذية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا

في هذه الدار المنعزلة ولد الإسلام من جديد، وشيّد أول ركن من أركانه، وبزغ أول شعاع من أشعته الوهاجة التي أضاءت العالم. . . إلى هذه الدار المنعزلة كان يأوي كل يوم أفراد من العرب يهجرون أباطيل أجدادهم وأصنامهم ويسلمون على يد رسول الله وينضمون إلى إخوانهم فيزيدون قوة. . . ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أصبح المسلمون فيها تسعة وثلاثين يعبدون الله مستخفين ينتظرون القوة والمدد من الله، ولكن رجلا لا كالرجال أسلم وانضم إليهم وكملوا به أربعين لم يرضه أن يبقوا مستخفين خائفين بل قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: والله لن نبقى هنا، ولابد من الخروج. . . ذلك هو عمر بن الخطاب

وكانت خاتمة هذه الدار التي كانت أول مرحلة من مراحل الإسلام، خاتمة رهيبة عظيمة سارة فخمة، إذ خرج منها المسلمون وهم يكبرون معتزين فخورين، فكأن جدرانها وأرضها وسماؤها وكل شبر فيها قد نفخ فيهم روح العزة والفخار والجرأة، فأصبحوا لا يبالون شيئا في سبيل الإسلام

لك الله أيتها الدار: لقد لمت شمل المسلمين بعد أن كادت تفنيهم وحشية المشركين، ولقد آويت المسلمين وأمنهم وزدتهم قوة بزيادة عددهم. لقد كنت الحصن رد عن المستضعفين قنابل الظالمين، ولقد كنت أول مسجد جمع المؤمنين تحت راية رسول الله وفي كنفه

سنذكرك كلما ألمت بنا النكبات، وحاقت بنا المصائب، ودهتنا الدواهي، وسنتأسى بذكراك كلما رأينا ضعف المسلمين وخذلانهم، وتأخرهم وذلهم، فلن يعرف اليأس إلى نفوسنا سبيلاً ولن يزيدنا الضعف إلا قوة. لقد كان المسلمون فيك أفراداً معدودين لا سلاح لهم إلا إيمانهم وعقيدتهم، تألب عليهم قومهم وناصبوهم العداء والأذى وهم ألوف مؤلفة، ولكن النتيجة كانت للإسلام الذي قضى أيام طفولته في دار الأرقم

عليك وعلى صاحبك وأضيافه رحمه الله، وعلى أشرف الخلق صلاة الله وسلامه (دمشق)

ناجي الطنطاوي