مجلة الرسالة/العدد 348/من وحي الصحراء

مجلة الرسالة/العدد 348/من وحي الصحراء

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



محمد ينبوع العبقريات

للأستاذ صلاح الدين المنجد

تعالى أغرودتي أسمعك نشيد فتى الصحراء، الذي عشقته الرمال، وقَبّلته الشمس، وحضنه الغار، وحنَتْ عليه الجبال. . .!

تعالى. . . فإنّ هذا الفتى الجميل، ذا العينين السوداوين، والبشرة الزهراء، قد فَتنَ الدنيا فهي تناغي اسمه. . . وخلب القلوب فهي ترفُ لذكرهِ، وأعشى بنوره العيون فهي تَغضّ لمرآه!. . .

لقد كان هذا البطل يا فتاتي بشراً وسحراً ورحمة. . . وكان ينبوع نور ومصدر هدى. . . إن عالمه مملوء بالترانيم والتسابيح فأنصتي. . . أنصتي إليه. . .!

ليتك رأيته يا أغرودتي وهو يرعى الغنمَ فوق البطاح. . . يرف حوله الطُهر والصفاء. وليتك سمعت نجوى الرمال، إذ رأته، إلى الرمال. . . وليتك رأيته تحف به تلك العصبةُ من قريش فتنصره وترعاه. . . وليتك بصرت بالنور يتألقُ في حواشي الصحراء، ويتوهجُ في قمم الجبال. . . إذن، لرأيتهِ سيداً بطلاً!. . . ولسمعت حديثاً عجباً!. . . ولبصرتِ بما يذهل ويعجب!. . .

لقد روَّق الليلُ. . . ولَفّ الوجودَ. . . كان ليلَ الجاهلية والأوثان. . . وإذا بالّلهبِ الزاهي يتمايل في مكة العروس. . . وإذا بفتى الصحراء يخطو في الزمن. . . يدعو الناسَ إلى الهدى. . . إلى الله. . .!

لقد رفت حوله طيوف الأجيال. . . فغازلته. . . وإذا به يجمع في نفسه العظيمة تلك العبقريات التي ظهرت منذ بعيد. . . لا، لا. . . بل جمع عبقريات السنين الخوالي والسنين القادمات. . .

لقد مادت الصحراء وهي سكرى إذ رأته، وضجت الرمال وهي نشوى إذ غازلته. . . فراحت تقفزُ متوثبةً نحو البيت العتيق تهزج وتقول:

هذا فتانا. . . هذا فتانا

يهدي الدنيا ويحيي الوجود. . .

هو لنا يا رجالُ فلن تؤذوه. . .

هو ابنُ الصحراء. . . فسيقهر العالم

اسعي يا رمالُ إليه. . . وقبلي قدمَيه. . .

ثم أنفذي إلى عيون مناوئيه. . .

ألا تسمعينه يا أختاه. . . ألا تسمعينه!

إن نشيدَه رخيمٌ ساحر!. . .

إن قرآنه معجز باهر!. . .

إن لحنه عبقريٌ بارع!. . .

انظري. . . انظري يا أختاه. . .

إن الجان ينصتون إليه. . .

هاهم أولاء الشياطين يفزعون منه

لقد تمايلت بنات الجبل العابثات لهذا القرآن

هاهنّ أولاء يرددنه بزهو فرحات

يقفزن ليودعْنَه الكهوف، ويسمعنه الأودية ويلقنْه بنات السهول

اسمعي يا أختاه صداه. . . فلقد عمّ وانتشر. . .

فالله يحفظه يا أختي ويرعاه. . .!

أيتها النسيمات. . . تعالي فاحملينا إليه. . . علنا نقبل أقدامه. . . ونسجو بين يديه. . .

ومضى محمدٌ يا فتاتي. . . وجاء الهدى. . . وتمت المعجزة!

يا لله! أفي يوم وليلة. . . تهدم الأوثان. . . وتحطم الآلهة!

أفي يوم وليلة تُهدي قلوبٌ. . . وترجع إلى الله نفوس. . .!

يا للمعجزة! يا لعظمتك يا محمد. . . يا لسموَّك أيها القرآن!

لقد ردّدوه يا فتاتي فخروا سُجّداً. . . وتلوه فشفيت به صدورٌ وبرئت أرواح. . . وكانت معجزة في الصحراء. . .

انظري. . . أغرودتي. . . انظري

إن هذا النور الذي يرقص على سفوح يثرب، ويسيل من قمم أحد، ما يزال يشع ولا يخبو.

! لقد كانت تلك الرمال الشقر ينبوعه الثَّرّ. . . ولن ينضب وعيشك ما دام في تلك الصحراء رمال. . . وفي مكة كعبة. . . وفي الدنيا إله. . . وعند الناس قرآن!

يا لروعة هذه الشعلة المتوثبة ويا لجلالها. . .! لقد هبَّت عليها الرياح الهوج. . . ولعبت بها الأيادي السود. . . وأقسموا ليطفئونها بأقوالهم ودمائهم. . . ولكن الشعلة مازالت تتوثب ضاحكة جذلى، رهيبة مخيفة، إنها تصعد قوية زاخرة، لا تعبأ بالشركِ ولا تحفل بالدسيسة. . . إنها من نور الله. . . إن فيها قوة زلزلت الأرض. . . قوة ما وقف أمامها كسرى ولا أعوانه. . . وقيصر ولا خلانه. . . لقد تداعت لرؤيتها القصور الشمُّ على شواطئ دجلة وجنبات فارس، وعربدت لها المروج الخضر في سفوح الأندلس وشطئان المغرب. . . إنها ما انطفأت أبداً. . . ولكنها ما تزال تعلو وتسمو

لقد كان هذا النور يا أغرودتي مباركاً ليناً، كان يلمس القلوب الوجيعة فيبرئها، وينفذ إلى الصدور المظلمة فيضيئها، ويدغدغ النفوس المفجوعة فيواسيها. . . فما للقلوب اليوم تصدف عنه، وما للنفوس لا تَحِنُّ إليه. . .؟

يا حسرتا عليها يا فتاة. . . إنها أشعة الجمال. . . إنها ومَضات الإيمان. . . إنها من نور الله. . .!

وما الحجاز يا أغرودتي لولا محمد وأشعة محمد! أكان الناس يذكرون تلك البطاح لولاه. . .؟ وماذا كانوا يقولون بربك. . .؟ أيقولون بلاد الرعاة أم مرابع الخيام أم وأدة البنات. . .؟ لا وفتاك يا أغرودتي. . . لولا محمد لما كان هناك حجاز، ولما رفّت إليه قلوب وعشقته نفوس، ولما كان للعرب أمر في الدنيا ولا اسم مشرق في التاريخ. . .! (ولكانت تلك البقاع سماء من غير أضواء، وأصواتاً من غير أصداء، ومساكن من غير أحياء)

فاضحكي لهذا النور، وعبّي من هذا الينبوع. فلقد تدفق من حراء، ثم سقى الصحراء، ثم أقبل يتهادى بين زهور دمشق وعطور الغوطة، ثم فاض فرقص له النخيل وصفق له النيل حتى أدرك البرانس. . . وبلغ هملايا. . .

اللهم إنه دينك الذي أحببت، أتممته ورضيته لنا، فبارك لنا فيه، واهدنا إليه. إنك أنت الهادي الحكيم. . .

وأنت يا قلب! حدثني. . . من يأخذني إلى تلك البقاع. . . أستنشق عطر الخزامي، وأطأ الرمال التي قبلت أقدام الرسول

حدثني. . . كيف أرى الغار العظيم، ورأى الجبل الأشم، وأهبط الوادي الهادئ. . . وأرى مكة العروس متمددة فوق الرمال. . .!

حدثني. . . متى تقف أمام قبر البطل المشرّع، والفارس المصلح. . . أمام خالق أمة، وواضع شريعة. . . فتخشع في روضته وتردد ألحانه وقصيدته وتنادي:

السلام عليك يا سيدي يا رسول الله

السلام عليك يا أيها النبي الرحيم

السلام عليك يا أيها الرسول العظيم

السلام عليك يا من كنت رحمة للناس وهدى للعالمين. . .

متى تقف يا قلب. . . متى. . . متى. . .!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد