مجلة الرسالة/العدد 348/موقعة عين جالوت

مجلة الرسالة/العدد 348/موقعة عين جالوت

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

أردت أن أكتب مقالا للرسالة - لعددها الهجري الممتاز - فنقب فكري في أرجاء التاريخ الإسلامي، حتى عنّ لي هذا الرأي. قلت: لماذا لا يسجل في هذا - العدد الهجري - بعض الخطوب الكبيرة في التاريخ الإسلامي؟ ولاسيما الخطوب التي وقعت في نظائر السنة التي تصرمت، أو السنة التي استهلت. قد تصرمت سنة 1358، وأقبلت سنة1359، فأستعرض نظائرهما. عبرت سني 58 و 59 من قرون التاريخ الهجري كله، فرأيت أحيانا كثيرة، وغيَراً عظيمة. فلما هممت بالكتابة، تبينت أن مقالاً يكتب على هذا الشرط، لا يعدو أن يكون ثبتاً للحوادث مختصراً، أو مقالاً مفصلاً يزيد على حاجة المجلة. فلم أجد بدّا من تخيّر بعض الحوادث، فمررت بخطوب جسام، وحادثات صغار، حتى انتهيت إلى عام 658 فوقفت وقفة كدت أمسك فيها القلم لأكتب في واقعة هائلة عظيمة الأثر كانت في هذا العام، ثم جاوزتها إلى واقعات أخرى، حتى بلغت وقتنا هذا، ثم رجعت بي الرغبة إلى تلك الواقعة، إذ رأيتها عظيمة الأثر في تاريخ المسلمين عامة وتاريخ مصر خاصة، فأخذت القلم لأكتب عن (موقعة عين جالوت):

كان عام 628 فاتحة شر مستطير في العالم الإسلامي: سالت فيه جيوش جنكيز من هضاب الصين تفرق كل شيء وتدّمر كل شيء، طغت على التركستان فجرفت عرش ملوك خوارزم ودارت بالمدن العظيمة تخريبا وتدميرا، وفرّ محمد خوارزمشاه وكان كما قال مسلم بن الوليد:

وطار في إثر من طار الفرار به ... خوف يعارضه في كل أخدود

وورث ابنه جلال الدين ملكا في أيدي التتار، ومجداً بين الطعان والضراب، فصبر وصابر وجاهد ما بين نهر السند إلى حدود العراق يحاول جهده أن يلمّ الشمل ويرأب الصدع، ويخلق من الفرقة اجتماعاً، ومن الضعف قوة، ومن الذعر ثباتاً، ومن اليأس رجاء، حتى اغتالته المنون بعد أن أعجزتها مصاولته، وختلته بعد أن أعيتها مجاهرته

وانتشر الرعب، وعمّ الفزع، ولم يثبت للتتار جيش ولا حصن في شرقي البلاد الإس وما لي أكلف نفسي الوصف ولا أستمع لابن الأثير، وقد عاش على شاطئ هذا الطوفان، وأحس لفح هذه النار، يحدّث حديث الوقائع:

هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها؛ لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. . . الخ

- 2 -

مات جنكيز خان سنة624 بعد أن قسم بين أولاده ما فتح من الأرض وما لم يفتح، وامتد الفتح في آسيا وأوربة، وكانت غِيَر، حتى أرسل بنكو قاآن حفيد جنكيز - أخاه هولاكو سنة651 ليفتح حصون الإسماعيلية ثم يفتح بغداد فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى عام ثلاثة وخمسين واستولى على أكثر قلاع الإسماعيلية.

ثم جاءت الطاٍمة الكبرى فاستولى على بغداد، ومحا الخلافة العباسية تاسع المحرم سنة ست وخمسين وستمائة (16 يناير 1258) لقد طوى أجداده الممالك الإسلامية إلى العراق، ثم أصاب هو المسلمين في الصميم إذ أخذ بغداد التي لبثت مقر الخلافة وقبلة المسلمين في العلم والحضارة أكثر من خمسة قرون

ماذا يصد هولاكو عما يشاء؟ من ذا يقف للجيوش التي لبثت ثلاثين سنة تسير من ظفر إلى ظفر، ومن مملكة فتحتها إلى مملكة قدر لها أن تفتحها؟ إن آسيا ما بين قراقروم وبغداد في قبضة أبناء جنكيز، وإن أوربا الشرقية إلى البحر الأدرياتي قد عنت لأمرهم. ليس على هلاكو إلا أن يسير الجيوش فتطوي الأرض، ويثير الحروب فتخر الممالك، ويوعد الملوك فيخذلها جندها، وينزل بالمدينة فتسلمها أسوارها. عزمة تسخر له الشام، وأخرى تقهر له مصر، ثم عزمات تبلغ به بحر الظلمات

- 3 -

سار التتر إلى الشام فلم تستطع حلب لهم دفعا، وهؤلاء المعتصمون بقلعتها لن يجديهم الاعتصام، ولا مناص لهم من الاستسلام بعد شهرين. وسارع أهل حماة إلى حلب فأعطوا هلاكو مفاتيح المدينة. ولم تثبت للقوم مدينة بين حلب وغزة

وأما أمراء الشام من بني أيوب فمنهم من انحاز إلى التتر مؤثراً العافية، ومنهم من لجأ إلى مصر مستنجدا. والملك الناصر أكبر هؤلاء ترددت به الحيرة بين حدود مصر والشام فلم يجد إلا المسير إلى هلاكو

وأبت مصر التي تجاهد الصليبيين منذ مائة وستين عاماً، أن تذل للتتر؛ فجمعت ما فيها من إيمان وقوة وخرجت في رمضان سنة658 وصمدت للقوم فالتقى الجمعان على عين جالوت في فلسطين. فأما التتر فلم يعرفوا في الحرب إلا الانتصار منذ سال سليهم على البلاد الإسلامية قبل ثلاثين سنة. ماذا يخشون من جيش مصر وقد مزقوا للمسلمين جيشا بعد آخر، ولم تصدهم البسالة والاستقتال دون غاية. وأما جيش مصر الذي جمع المصريين وعرب البادية من مصر والشام فقد أيقن أنها الموقعة الفاصلة، وأن هزيمة في عين جالوت تفتح طريق العدو إلى مصر فالمغرب، فصمموا أن ينتصروا؛ وكثيرا ما تلد العزيمة الظفر. ولم يزلزل عزائمهم أن رأوا بعض أمراء المسلمين في صفوف العدو - ذلك الأمير الشقي المتسمي الملك السعيد

التقى الجمعان يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة، واحتدم القتال وصبر المسلمون ثم صبروا، ولقوا من حملات التتار ما يوهن العزائم فلم يهنوا. إلى من يكلون الدفاع عن الإسلام والمجد إذا لم يستميتوا في عين جالوت؟

كتبغا قائد التتر قتيل، وابنه أسير، وجنده مصرَّعون في حومة القتال، وبقايا السيوف منهم يلوذون برؤوس الجبال

علم المسلمون يومئذ أنه يستطاع هزم التتر فلم يثبت القوم في بقعة من بقاع الشام وأسرعوا في الرجوع إلى الشرق

جمع التتر شملهم وأعدوا للحرب عُددهم ثم رجعوا فاستولوا على حلب بعد شهرين من موقعة عين جالوت، ولكن عين جالوت قد فصلت في القضية من قبل وعلمت المسلمين أن الأمل والعزم والإقدام تغلب كل عدو ولو كان التتر جنود هلاكو حفيد جنكيز

اجتمع المسلمون على حمص وسار التتر إليهم. فليشهد القارئ قبل المعركة جمعا من أنجاد العرب يسيرون إلى حومة الوغى: قال الشيخ شهاب الدين الحلبي: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار جالسا على سطح باب الإسطبل السلطاني بدمشق إذ أقبل آل مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسّومة والجياد المطهمة وعليهم الكزغندات الحمر، والأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رؤوسهم البيض كأنهم صقور على صقور، وأمامهم العبيد تميل على الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبين أيديهم الجنائب، ووراءهم الظعائن والخمول، ومعهم مغنية لهم تعرَف بالحضرَمية طائرة السمعة سافرة من الهودج وهي تغني:

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... لياليَ لاقينا جُذاماً وحميرا

ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضُمّرا

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض تأَبى النبع أن يتكسرا

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت اصبرا

ودارت الحرب عند حمص يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة تسع وخمسين وتسعمائة، فإن تسألني كيف كانت عاقبتها فهي العاقبة التي بشرت بها موقعة عين جالوت

فارق التتار الشام إلى غير رجعة

عبد الوهاب عزام