مجلة الرسالة/العدد 349/(وحي الرسالة)
مجلة الرسالة/العدد 349/(وحي الرسالة)
3 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
والزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم والشكر منا)
قالت زميلتنا المقتطف في عددها الصادر في أول مارس:
قال الزيات: (قارئي العزيز، اخترت لك هذه الفصول مما كتبته للرسالة في ست سنين. وكان من عادتي أن أكتب الفصل منها أصيل السبت من كل أسبوع، ثم لا أكتبه طوعاً لتأثير قراءة، أو تحرير فكرة، أو تخمير رأي. وإنما كان أثراً لوحي ساعته أو حديث يومه أو صدى أسبوعه. فالزمن جزء منه متعمم لمعناه: يبين ملابسته للحادث، ويعين مناسبته في التاريخ، لذلك أعقبت كل فصل بذكر اليوم الذي كتب فيه ليتضح موضعه بفعله وحاله وظرفه)
هذا خير ما يوصف به هذا الكتاب. فأنت ترى أني لا أستطيع أن أزيد في صفته من حيث التأليف والتبويب، ولكني أستطيع أن أقدم بين يدي قارئه بعض الرأي في أدب صاحبه
وأنت إذا تناولت هذا الجزء فقرأت فهرسه، رأيت مائة وعشرين بابا من أبواب القول قد افتتحها (الزيات) بقلمه وسناها برأيه، ومهدها بحسن بيانه، ولكل باب منها غرض، ولكل غرض أسلوب، ولكل أسلوب لفظ يصلح عليه ولا يصلح عليه غيره. وإذا كان الكتاب كذلك كانت المشقة فيه أعظم من مشقة التأليف المرسل إلى غرض واحد لا يتميز إلا بالاتجاه، فإن الغرض الواحد قلما يخرج أسرار البيان من قلب الكاتب ولسانه، لأن الأسلوب إليه قلما يختلف. فإذا اختلفت الأساليب باختلاف الأغراض محصت قدرة الكاتب على ما اعترض له وهمّ إليه من الكتابة
فإذا أنت أخذت هذا الكتاب بين يديك وسايرته فصلاً فصلاً وأسلوباً أسلوباً، عرفت الجهد الذي لقيه صاحبه في إبداعه، ورأيت (الزيات) في كل أسلوب هو (الزيات) لا يختلف ولا يتنافر، والكاتب إذا صار إلى هذه المرتبة - حيث تراه هو هو مهما اختلفت الأغراض وتباينت الأساليب - فاعلم أنه إنما يشتق لك كل ما يكتبه من حر نفسه، فيضنيها ويهلكه مخلصاً صابراً لا يملّ. وإذا كان الكاتب كذلك فهو كاتب لا يزيف لك ولا يقبل الزيف، وهو يعطيك ولا يسألك، ويبذل لك ولا يمن عليك، ويعلمك ولا يدعي لك إنه أعلم منك. . . ذلك بأنه قد بلغ من العقل والفكر والصفاء والبيان حيث يعلم أنه ملك قارئه لا أن القارئ ملك له، وأنه مرشد لا مسيطر، وأنه أخوك الذي يناقلك الحديث وإن كان بمنزلة الأب
و (الزيات) - كما عرفته من كتابته - روح هادئة متكتمة مسترسلة، يكاد يختفي في نفسه حين يفكر كأنه فيلسوف من فلاسفة الصين: يمشي هادئاً، ويفكر ساكناً، ويحاسب نفسه ولكن على التسامح والرضا والاستسلام؛ فإذا أراد أن يقيد أحلامه وأفكاره وهواجسه كان هو الهادئ الساكن المتسامح، فإذا اشتد وحمس وأراد أن يتفجر، خيّل إليّ إنه عينٌ حَّمةٌ ترسل لواذعها سكْباً ساخناً حامياً كالماء إذا إلى ثم هدأ أول هدأة لا يضرب بعضه في بعض. ولذلك ترى نقده إذا نقد شديداً بالغاً، ولكنه رفيق غير عنيف، ولكنه على ذلك مما تخشى صواعقه. وهذه الروح التي وصفناها هي التي تجعل كل كلامه قطعاً مزينة ناضرة محكمة مقدرة الألوان لا يختلط شيء منها بشيء، ولا يجوز لون منها على لون. وهي التي تجعل كل لفظه مبنياً على الإيجاز دون الإطناب، وعلى مذهب الحكمة دون المذهب الكلامي؛ وإذا أردت أن تتبين كل ذلك حقيقة التبين فلا تتكلف أكثر من أن تقرأ إهداء كتابه. يقول لولده (رجاء) الذي احتسبه عند ربه في سنة1936:
(إلى روحك اللطيفة العذبة - يا ولدي رجاء - أقدم هذا الكتاب، فلولاك ما أنشأت الرسالة، ولولا الرسالة ما أنشأت هذه الفصول)
فإن في هذه الكلمات القلائل لوعة مستكنة باقية إلى يومها هذا، ولكنها ساكنة راضية هادئة لا تثور ولا تتأجج، ولكنها تسري وتدب وتمشي في روحه الهوَينا الهوَينا
هذا سر أسلوبه. وأما أسلوبه وبيانه واقتداره على عربيّته وحسن تصريفه لألفاظه في وجوه أغراضه ومراميه، فالزيات - ولا أشك - هو بقية أصحاب الأقلام العربية التي لا تخلط ولا تتقَّمم من هنا وهنا - فأنت إذا نفذت إلى كل جملة من كلامه في هذا الكتاب لم تجد إلا عربية خالصة مطاوعة لينة، لا ينافر حرف منها حرفاً - على كثرة الأغراض التي رمى إليها واختلافها، وعلى ظن من لا يعلم أن العربية لا تطيع في التعبير عن الضرورات الحديثة التي قسرتنا عليها مدنية القرن العشرين من ميلاد المسيح فلو أتاح الله لهذه العربية من يخلص لها في معاهد التعليم على اختلاف أغراضه وأنواعه، وأراد أن يرد على العربية شباب أيامها حتى تكون لغة مدنيتنا في الأدب والعلم والفن، لوجد في الذين أبادوا شبابهم بالعمل لإحياء اللسان العربي في هذا العصر قوماً قد استطاعوا أن يجعلوا عربيتهم أصلاً في الحياة، إذ جعلوا الحياة أصلاً فيها، وبقية هؤلاء هو (الزيات)