مجلة الرسالة/العدد 35/عمر بن عبد العزيز يصلي

مجلة الرسالة/العدد 35/عمر بن عبد العزيز يصلي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1934



للآنسة سهير القلماوي

وليس هو عمر بن عبد العزيز الخلفية الأموي المشهور بعدله وتقواه، وإنما هو طفل مصري في الثانية من عمره، لا يقل عن الخليفة شهرة ولا منزلة في نفوس عارفيه. ولئن كان عمر الخليفة حقق للعرب المثل الأعلى للخلافة، فان عمر الطفل حقق لعارفيه المثل الأعلى للطفولة. فليست طفولته خفة وجمالا ومرحا وطهرا، وإنما هي إلى جانب هذا كله يشوبها القليل من الجد والتفكير، وغير القليل من التقوى والدين.

ولعل أهم ما يربط عمر الطفل بعمر الخليفة، غير الاسم، مظهر التقوى والدين. ومظهر الدين غريب عند أطفالنا المصريين اليوم، فقلما نجد طفلا يعرف من أمر دينه ما يجب أن يعرفه أو يؤمن به. أضف إلى هذا أن سن عمر لا تسمح له بالكلام الواضح ولا بالفهم والأفهام، ولكنها، وهنا موضع الدهشة، سمحت له بفهم لروح الدين وتقدير لها عجيبين. ولعلك تدهش كل الدهش إذ ترى عمر يسحب أي غطاء فيفرشه على الأرض، ويجلس القرفصاء لينزع ما يسميه (ألْبِبِسْ) أو ما نسميه نحن (الشبشب) ثم يرفع يديه إلى أذنيه ويتمتم بكلمات لا تفهمها مهما حاولت، ولكنه يتمتمها في حرارة وحمية غريبتين، ويوالي بعدها حركات الصلاة المعروفة من سجود وركوع. والغريب أنه يقوم بصلاته في حمية وحماسة، قلما تجدهما عند أي طفل في أي حال من حالاته، وقد تضطره الحمية أحياناً في السجود إلى ضبط رأسه ضبطاً مؤلماً يصيح بعده (بخ) بصوت فخم عال ملؤه الجد والخشوع. و (بخ) هذه عنده هي (الله أكبر) عندنا. يكفي أن تقول له صل يا عمر، ليسحب أقرب غطاء وينزع في سرعة حذاءه، ويبدأ الصلاة كأشد ما يمكن أن يكون حمية وحماسة. هو لا يعرف للصلاة وقتا، وإنما يصلي كلما ذكر أو ذكر. ولعلك تظنه بعد كل هذا مازحا أو غير مقدر قدسية العمل الذي يقوم به. كلا. فكفى أن تفلت منك ضحكة مهما يكن مبعثها ليكون نصيبك (زغرة) متوعدة، ثم لينالك بعد فراغه من الصلاة كل ما يمكن أن ينزله بك من عقاب. حاول ما شئت أن تخرجه من صلاته فلن تظفر بشيء، وإن استعملت معه القوة واضطرت طفولته الضعيفة أن تخضع لها، فهناك يكون لك الويل والثبور، هناك الضرب واللكم وشد الشعر، وكثير جداً العض والمؤلم القاسي.

مرض عمر يوما فخفتت أصوات البيت، وأصبح وجوه جواً حزيناً كئيباً، أصبح كل شيء باهتا صامتا. وانطرح عمر على ذراع جدته في استسلم هادئ حزين. وعيناه الزرقاوان تدمعان قليلاً من فرط الحمى، وخداه تلتهبان من حرها، والتف أهل البيت حوله وكلهم واجم حزين، يحس أن روحه معلقة تنتظر وترتقب، وتخاف كل الخوف من احتمال يبعده العقل ويقربه الحب والشفقة. وتناول عمر الدواء من يد جدته في ألم وحزن، ثم أغمض جفنيه واستسلملنوم بدأ مضطربا، ثم ما لبث أن هدأ قليلا قليلا. ونام عمر زهاء الساعة هادئا، وقام بعدها وقد خف عنه الألم، وأحس أن الداء فارقه تماما. فما كان منه إلا أن سحب غطاء منضدة الدواء غير مبال بما سقط أو تكسر، ثم فرشه وقام يصلي: يركع ويسجد ويصيح (بخ بخ) في حرارة وحماسة. لم ينس عمر أن يشكر الله في مرضه لأنه أنعم عليه بفترة هدأ فيها ألمه فاستراح.

هذه صورة لك يا عمر من صور طفولتك، لست أعرف أين يضعها لك الزمان بين صورك الماضية وصورك المستقبلة. ولكن خالتك تشفق على هذه الصورة البريئة الحلوة الطاهرة من النسيان، فسجلتها لك لتذكرها أيام تحلو لك ذكريات الطفولة. ترى استقابلها بابتسامة كابتسامة الطفولة فرحة مرحة؟ أم بابتسامة أخرى ستعلمها لك الأيام؟