مجلة الرسالة/العدد 35/في الأدب الفارسي
مجلة الرسالة/العدد 35/في الأدب الفارسي
منطق الطير
القصة الصوفية الخالدة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فريد الدين العطار، شاعر صوفي عظيم من شعراء القرن السادس الهجري، وهو أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم الإمامة (بين شعراء الفرس المتصوفين) والآخران مجد الدين سنائى الغزنوي، ومولانا جلال الدين الرومي
وللعطار من المنظومات الصوفية زهاء أربعين، بعضها يحتوي على عشرة آلاف بيت. وهو أحد المؤلفين الذي حالت كثرة مؤلفاتهم دون معرفة آرائهم معرفة بينة.
وأعظم منظوماته وأسيرها وأدخلها في الشعر، منظومة سماها (منطق الطير) وتعرف أحيانا باسم (هفت وادي) أي سبعة الأودية. وهي زهاء 4600 بيت، قص فيها اجتماع الطير وتساؤلها عن ملكها وتعريف الهدهد اياها بهذا الملك ومكانه ووصفه الطريق إليهن ثم توليه قيادة الطير التي رضيت بالسفر الشاق إلى ديار العنقاء واجتيازه بها سبعة أودية، وما أصاب سفر الطير حين بلغ غايته: ويتخلل هذا قصص عديدة يفصل بها السياق، ويبين بها بعض مقاصده.
وأنا أجمل لقراء الرسالة هذه القصة على طولها في صفحات قليلة، وعسى أن أستطيع من بعد نقلها كلها إلى اللغة العربية:
يبدأ العطار كتابه بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، بكلمات هي غاية ما بلغته فلسفة الصوفية، ثم يثني بفصل عنوانه (نعت سيد المرسلين وخاتم النبيين ويطيل فيه ما شاءت بلاغته وأيمانه، ثم يثلث بمدح الخلفاء الراشدين على نسقهم في الخلافة، وينعى على أهل العصبية الذين يفرقون بين صحابة الرسول (ﷺ)، ويذكر ست قصص لتأييد رأيه
ثم يشرع في مقصوده بعد هذه المقدمة التي تستغرق ستمائة بيت ويعالج الموضوع في خمس وأربعين مقالا وخاتمة.
يبدأ بوصف اجتماع الطير، ويذكر فيما يذكر منها الهدهد والببغاء، والدراج والبلبل والطاوس، والفاختة والقمري والبازي. ويصف شكل كل طائر وطباعه.
اجتمعت الطير فتشاكت ما هي فيه من الفرقة والفوضى، وفقد رئيس يجمع كلمتها ويهديها السبيل، على حين لا تخلو أمة من ملك فانبرى الهدهد يخطب فيذكر خبرته واعتزاله الناس، وجده في طلب الحق، وصحبته سليمان بن داود، وأنه طوف الأرض سهلها وحزنها، وخبر قاصيها ودانيها. ثم قال: عرفت أن لنا ملكا، ولكن عجزت عن المسير إليه وحدي، فان تعاونا استطعنا أن نبلغ مكانه. إن لنا ملكا اسمه سيمرغ وراء جبل اسمه جبل قاف، هو منا قريب ونحن بعيدون. هو في حرم جلاله لا يحيط البيان بوصفه، ودونه آلاف من الحجب - واستمر الهدهد يفيض في وصف السيمرغ، حتى راع السامعين بيانه. قال: وأول عهد الناس به أنه كان طائراً في ظلمات الليل فوق بلاد الصين فسقطت من جناحه ريشة، فقامت قيامة الامم، وأعجب الناس بما فيها من الألوان العجيبة والنقش، وتعلم كل منها فناً. ولا تزال هذه الريشة في الصين، ومن أجل هذا جاء في الأثر: (أطلبوا العلم ولو في الصين) ولو لم يظهر في هذا العالم نقش هذه الريشة ما كان في العالم أحد منكن أيتها الطير.
فلما سمعت الطير بيان الهدهد، هاجها الشوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحلة إليه، ثم ذكرت ما في الطريق من أهوال فبدا لبعضهن أن يؤثر العافية، فادعى كل لنفسه عذرا:
قال البلبل: أنا أمام العاشقين؛ ملأت القلوب وجدا بأغاريدي، فكيف أستطيع مفارقة حبيبي الورد.
وقالت الببغاء: إن جمال هذا الريش أغرى بي الناس، فحبسوني في الاقفاص، فقاسيت الغم الطويل والألم الممض، حسبي ما قاسيت على أنى لا أستطيع أن أطير تحت جناح السيمرغ.
وقال الطاوس: كنت مع آدم في الجنة فطردت منها، وكل همي أن أعود إليها ولست بعد قادرا على مصاحبة السيمرغ
ويذكر البط طهارته وعيشه في الماء وزهده، ويعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة الماء والعيش على اليبس. ويعتذر الحجل بأنه ألف الجبال فلا يستطيع أن يبرحها. وتعتذر الصعوة بضعفها، والبازي بأنه لا يود أن يترك مكانه من أيدي الملوك. وهلم جرا
يجادل الهدهد هذه الطيور ويرد عليها أعذارها، ويرشدها إلى الخير، ولا يألو في النصح لها. فتطيف الطيور بالهدهد تسأله: كيف يقطع هذا الطريق البعيد، وماذا يصلنا بهذا الملك العظيم، في أسئلة كثيرة، فيوبخهن على التواني في الطلب، والركون إلى الدعة، والوجل من لقاء الشدائد. ثم يقول مبينا نسبة الطير إلى السيموغ انه تجلى كالشمس من وراء الحجب، آلاف الظلال على الأرض وما الطير إلا هذه الظلال. ثم يقول: ان العشق إذا صدق استهان العاشق كل شيء في سبيله، واقتحم كل عقبة إلى حبيبه.
(وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق عن طوره. وهي قصة عجيبة تستغرق أكثر من 200 بيت ولا يتسع لها المجال هنا، ولا يحسن إجمالها)
هاجت الطير شوقا، وأجمعت على أنه لابد لها من أمير تطيعه على اليسر والعسر، واتفقت على أن يقرع بينها، فأصابت القرعة أجدرها بالإمارة وهو الهدهد.
فوضع التاج على رأسه وتقدم، واجتمعت إليه أسراب الطيور فأشرف بها على طريق موحشة مقفرة، فسأله سائل ما لهذى الطريق مقفرة؟ قال إن الناس تجنبوها إشفاقا وخوفا. وحكى أن أبا يزيد البسطامي خرج إلى البرية في ليلة مقمرة والناس نيام، فراقه جمال الليل وتهويده. وعجب كيف خلا هذا المقام من المشتاقين، فسمع مناديا يناديه، ان الملك لا يأذن لكل إنسان أن يسلك طريقه، وأن عزتنا أبعدت السائلين عن بابنا.
ثم تقدمت الطير (فرأت طريقا ولا غاية، والما ولا دواء، هنالك تهب ريح الاستغناء، فينحنى لها ظهر السماء، هنالك صحراء لا يعبأ فيها بطاووس الفلك، فكيف بطير هذا الدنيا)
فلما هال الطير ما رأت، حفت من حول الهدهد فقالت؛ إنك طوفت في الآفاق وعرفت كل شيء، فارق المنبر لنسألك عما حاك في صدورنا، فلابد أن نطهر قلوبنا من الريبة. صعد الهدهد وشدا بعض الطير بالحان هاجت الطير وأذهلتها. ثم تواترت الأسئلة فكان أول سؤال أن قال طائر: أخبرني أيها الإمام كيف فضلتنا جميعا. وكيف كان هذا التفاوت بيننا وبينك؟ قال الهدهد: منحتني هذه الدولة نظرة من المليك. إنها دولة لا تنال بالطاعة، فكم أطاع إبليس. لا أقول إن الطاعة لا تجب، فعليك الطاعة. لا تفتر عنها ساعة ولكن لا تقدمها ثمنا. امض عمرك في الطاعات حتى تصيبك من سليمان نظرة. ثم سئل الهدهد عشرين سؤالا أجاب عنها مفصلا مسها ضاربا الأمثال. وكان السؤال التاسع عشر: ما الهدية اللائقة بتلك الحضرة التي نؤمها: وكان جواب الهدهد: لا تحمل شيئا فهنالك كل شيء، وليس خيرا لك من الطاعة والعشق.
والسؤال العشرون يفتح القسم الثاني من الكتاب، وهو الذي يصف الأودية السبعة التي تعترض السائرين إلى حضرة السيمرغ: سأل سائل، كم فرسخا مسافة هذه الطريق. قال الهدهد: أمامنا سبعة أودية لا تعرف مسافاتها، لأن أحداً لم يرجع منها فيخبر عنها. أمامنا أودية الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والغناء.
البقية في العدد الآتي
عبد الوهاب عزام