مجلة الرسالة/العدد 35/من أحاديث القهوة:

مجلة الرسالة/العدد 35/من أحاديث القهوة:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1934



في الحب. . .

. . . ولم تكن إلا سنة واحدة حتى تمزق ذلك الثوب. وبدت من ورائه امرأة كهذه المئات من النساء: نبصرهن كل يوم فلا نكاد نحس بهن ولا يهجن فينا شعوراً

وكيف تبدلت؟ ألم يكن يهيم بها ويراها جميلة فتانة؟

بلى. ولكنه كان يراها جميلة لأنه يحبها. والمرء - كما يقول ده كارت - يرى من يحب جميلا، ولا يحب من يراه جميلا، وإذا هو أحب امرءاً أسبغ عليه من خياله ثوبا يراه به أجمل الناس

- وذلك الحب المضطرم، الذي كان يخفق به قلبه في صدره. وبه تجري دماؤه في عروقه؟. . أليس عجيباً أنه قد مات؟ أليس لها هاتان العينان العميقتان كالبحر. الصافيان كأديم السماء. . أليس لها ذلك الجسم الأبيض الغض، أليس لها تلك الرشاقة الفاتنة، فكيف إذن يسلوها ويموت حبه إياها؟

- قد مات هذا الحب. لأنه لم يكن عذريا صافيا. وهي جميلة لا تزال، ولكنه شبع منها كما يشبع الإنسان من الطعام مهما لذ وطاب. ولو تنزه حبه عن مأرب الجسم، وعقد الصلة بين الأرواح لكتب له بالبقاء.

وكان الأستاذ صالح عاكفا على نار جيلة لا يتكلم، فرفع رأسه وقال:

- أي بقاء؟ أسمعت أن حبا كتب له البقاء، إن الحب يا صاحبي كالزهور العطرة ينعشك عطرها ويعجبك لونها ولكنها لا تعيش طويلا. ثم ما هو هذا الحب العذري الذي تتحدث عنه؟ انه لا يوجد إلا في مكانين: القاموس، وأدمغة أمثالك من الناس!

وأقبل على نار جيلته يصلحها ويدعو لها بجذوة من نار. ولم يلق بالا لجواب فوزي، فجذبه من طوقه وصاح به:

- إلا تسمع؟ أنت دائماً هكذا. . . تريد ان تتكلم ولا تتنازل للإصغاء.

فاصلح ثيابه باسما وقال له:

- ولماذا تريد أن أصغي إليك؟

- لأنك مخطئ. . . مخطئ. . . أريد أن أوضح لك الحقيقة.

- أشكرك، لا أريد أن توضح لي شيئا

بل ستسمع وأنفك راغم: إن من الحب حبا لا يفكر فيه الإنسان في شيء من اللذاذات الجسمية، بل ليس فيه مكان، فهو اتصال في الأرواح وتمازج، هو ان يفنى كل من المحبين في الآخر!

- شيء جميل. من أين تعلمت هذا؟ أمن شعر المجنون، أم من قصص لامارتين؟

- من أي كان؟. . ماذا يهمك أنت؟ لماذا تتهكم دائماً؟

- ذلك لان لامارتين نفسه كان من أجرأ الناس على اللذة الجسمية وأشدهم تهالكا عليها، وما كتب قصصه بهذا الأسلوب الفاتن الممتع! إلا ليسخر منك ومن أمثالك

- أنا عرفت هذا الحب بنفسي

- وأنا أيضا قد عرفته، انه حب لا تجد فيه الرغبة الجنسية سبيلا إلى الظهور فتبقى مخبوءة في قرارة النفس، حتى إذا اتسع السبيل ظهرت على أتمها، ولو انه كان خاليا منها لأحب الرجل أخته الجميلة!

- شيء فظيع. . . إن طبيعة الإنسان تأباه

- نعم تأباه لان الطبيعة تفهم الحب على انه لون من ألوان الصلة الجنسية، بل هو المخدر الذي ابتدعته الحياة لتمام هذه (العملية) اللازمة لبقاء الجنس البشري. ثم. . . تصور فتاة جميلة تحبها حباً عذرياً. . هل تصورتها تماما

- نعم.

- وتصورت انك تحبها لنفسها لا لجسمها، ولا تطمع منها إلا بهذه الصلة الروحية؟

- نعم.

- وانك ستقيم على هذا الحب؟

- نعم. . وماذا بعد؟

- تصورها الآن وقد أصابها مرض عضال، بدد محاسنها، وبتر أعضاءها. وجعلها قطعة من اللحم المنتن، هل تبقى على حبها؟

- نعم، إنني أشفق عليها وأحميها

فضحك الأستاذ صالح وقال: - ها أنت قد اعترفت. . إن الشفقة شيء غير الحب. . أرأيت كيف اتضحت الحقيقة؟

وأراد فوزي وقف الجدال فقال:

وصديقنا جميل. . . ماذا فعل بعد ذلك؟ قد أضعت علينا قصته.

أعاد إلى زوجته الجاهلة القذرة التي تلقاه وعلى يديها أثر الصابون وفي ثيابها رائحة البطيخ؟. . كيف يطمئن إليها، ويأنس بها بعد أن عرف لويزا؟

فقال صالح:

- إن يكون للويزا جمال الأصباغ والعطور - والثياب الشفافة - والأعضاء العارية - فان لهذه الجاهلة القذرة، جمال الإخلاص والأصباغ والعطور تهيج من نفوسنا مكان الشهوة، أما الإخلاص فيهيج منها مكان الروح

- ما هي الروح وما هي الشهوة؟. . إني لم افهم! أتريد أن تقول إن هذه المرأة التي لا تعرف كيف تتحدث إلى صديقنا جميل. ولا تدري كيف تسايره في شارع أو تصحبه إلى سينما، ولا تدرك أفكاره ونفسه، توائم روحه ويراها جميلة أكثر من لويزا؟. . مستحيل!

- قد تكون دونها جمالا ورشاقة، ولكنها امرأة شرقية تفنى في زوجها: تعيش من أجله. وتقف حياتها على راحته وتسهر عليه لينام، وتحرم على نفسها الطيبات لتوفر عليه ماله، وإذا رأته محتاجا نزعت حليها من نحرها وأخذت لقمتها من فيها لتسد حاجته، وإذا مرض فدته بنفسها. وإذا أصابه مكروه طارت نفسها عليه شعاعا، ثم هي الراضية أبداً، القانعة بالقسط الأقل من حبه أو من ماله، أحب هذه العاهرة وانتزع المال من فم زوجته ليصبه على قدميها. ونال زوجه بالأذى من أجلها، فما شكت ولا حملت له كرها ولا حقدا، ثم هي تفرغ عليه من الإجلال ما يجعله معصوما عن الزلل والخطأ، أفتقيسها بتلك؟

- هاها. . إنها لا تصلح خادما. فليضح بها من أجل لويزا.

- إنها هي الزوجة يا سيدي

- وإذا كانت هي الزوجة؟ إن الحب الذي عقدته الطبيعة بين قلبيهما أوثق وأقدس من الزواج الذي عقده إنسان!

فألقى صالح أنبوبة النرجيلة من يده. وصاح به في شدة وغضب:

- أنا لا أستطيع أن اسمعهذه الآراء التي تنسف حياتنا من أساسها، وإذا هي صحت في المجتمع الغربي، فما كانت لتصح عندنا، ومن الجنون أن نقيس عن الغرب كل ما يأتينا به، فنلبسه وهو ثوب فصل لغيرنا، فيجيء واسعا نضيع فيه، أو ضيقا يتمزق من دوننا. . إن الحب الذي تعقده يد الشهوة، ويعيش في جو مشبع بالرذيلة، ويولد في ليلة ليموت في أسبوع لا يمكن أن يكون أوثق ولا أقدس من الزواج الذي ينشئ إنساناً كاملاً من نصفي إنسان! وإذا جعلنا الحب أساس الحياة، لما عرف امرؤ اباه، ولما بقيت زوجة لزوجها؟ لأن القلوب تنقلب والمرأة التي تحبك اليوم قد تحب في غد غيرك، والقلب الذي يميل إليك قد يميل عنك، افنهدم الحياة يا سيدي من أجل خاطر هذه (المودة)،. . (مودة الحب)، ونقتل زوجاتنا الوطنيات الشريفات، أمهاتشعب المستقبل. من أجل خاطر هؤلاء (الارتستات) اللاتي يبعث بهن إلينا الغرب فيما يبعث به إلينا من سموم ومهلكات. . أليس خيرا لنا أن يقال انا رجعيون من أن نشهد بناتنا وأخواتنا عاريات على الشواطئ في الصيف، ونساءنا مهجورات باكيات في البيوت وفي الشتاء، وأبناءنا ناشئين بين الألم والرذيلة، والسفالة والشقاء؟

ألا إن الحب لذيذ ممتع، والمدنية ساحرة فاتنة، والتجديد ضروري واجب. . . ولكن يجب أولاً أن نحيا. . . . . وكان جميل قد وصل فانقطع هذا الحديث، وأخذوا في حديث آخر

دمشق

علي الطنطاوي ليسانسييه في الحقوق