مجلة الرسالة/العدد 351/الإنتاج العقلي للأمم
مجلة الرسالة/العدد 351/الإنتاج العقلي للأمم
للدكتور جواد علي
كانت الفكرة السائدة حتى أوائل القرن الثاني عشر تقول بتطور البشرية تدريجياً من نقص إلى كمال، ومن جهل إلى علم. وقد اختلفوا في المبدأ، هل كان الإنسان في بدء خلقته كاملاً، ثم انتكس وتدهور لخطيئة وقع فيها، ثم بدأ يستغفر من ذنبه، ويكفر عن سيئاته، أو أنه بدأ كما نعرفه الآن، ثم هو آخذ في التطور إلى التكامل شيئاً فشيئاً، حتى يعود الإنسان الكامل ذا المثل العليا التي يريدها بعض الفلاسفة وأصحاب الأحلام البعيدة. غير أن تطور العلم الطبيعي، وانتصار أوربا في ساحات الفن والصناعات الضخمة والاستعمار، زلزل هذه الفكرة وولد في نفوس العلماء من أبناء تلك القارة، فكرة الاستئثار بالزعامة والقيادة العالمية. فقسمت الشعوب العالمية إلى طبقات وأجناس لكل منها خواص وأوصاف كما هو شأن عالم الحيوان والنبات. وإذا كان علماء النبات أو الحيوان يقسمون العالم النباتي أو الحيواني إلى فصائل وأجناس، فلم لا يقسم علماء الأجناس البشرية، البشر إلى فصائل وأجناس كذلك؟ تستأثر أوربا بالفصائل العالية والأوصاف الراقية؛ ثم تعطى ما تجود به للفصائل التي تمت إليها بصلة وقرابة، ثم الأبعد فالأبعد.
وبعض الآراء المعتدلة ترى العالم مؤلفاً من مجموعة حضارات مستقلة لكل منها روحية خاصة ونفسية سماها (نفسيات الحضارة كما هو رأي الفيلسوف تمر عليها جميع أدوار الحياة المعروفة من ولادة وطفولة وسباب ثم شيخوخة فممات، تستغرق هذه المدة حوالي ألف سنة، وأن ثلاث حضارات جاءت على التوالي تكمل الواحدة الأخرى وهي الحضارة اليونانية وسمتها والحضارة العربية وخاصيتها والحضارة الأوربية الجرمانية وهي بينما رأى الفيلسوف الألماني الآخر (كراف هرمان كيسرلنك مؤسس مدرسة الحكمة في مدينة دارمشتد) تنوع الحضارات البشرية كذلك واختلاقها ولكنها ترجع كلها إلى أصل واحد ومنبع منظم هو القوة الخارقة الموجودة في البشر التي تدفع الأمم بالسير إلى الأمام. قد تكون هي الحكمة لذلك كان يرى وجوب الاستفادة من الحكمة بدلاً من العلم المجرد
وقد نشأ من جراء البحث المتوالي في اختلاف عقليات الأمم وقابليات إنتاجها بحث خاص يسمى التعمق في دراسة أمم الأرض، واستخراج الأسباب التي أدت إلى ازدهار الحضارات أو هبوطها. وقد قسم العالم إلى أربع طوائف:
1 - الشعوب الفطرية، أو التي تعيش على الطبيعة الأولى ?
2 - الشعوب المتوحشة ?
3 - ? أو الشعوب المتمدنة
4 - المتحضرة. ولكل من هذه الأقسام درجات ثلاث: واطئة، وسطى، وعليا
ولكن هنا مشكلة عظيمة تجابه الباحث، وهي الدوافع الخفية التي تدفع بالشعوب إلى الحضارة وإلى إنتاجها الروحي، هل هو عامل داخلي يدفعها إلى ذلك دون مؤثر خارجي، أو عامل خارجي بحت كما يذهب إليه الماديون وأتباع كارل ماركس، أو دوافع المحيط الخارجي كالزمان والمكان كما هو رأي (ولد1873) (أنظر ص 193 ? وبين المبدأين بدون شاسع كما يظهر. ومن أتباع المذهب الأول العالم (1841 - 139) في ألمانيا في أمريكا. جعلوا العنصرية العامل الأساسي في تكوين الحضارة. ومن هذه النظرية استحدثت النازية رأيها من أن الحضارة العالمية نتيجة العقلية الآرية فقط، وأن العالم يتألف من طبقات ثلاث حسب رأي هتلر مؤسس هذا المذهب، من:
1 - شعوب أسست
2 - وشعوب تنقل الحضارة دون أن تضيف إليها شيئاً أو تغير فيها، ?
3 - وشعوب هدمت الحضارة وأفسدتها سماها: ? هذه الشعوب الروسي البلشفي، ولا أدري أغير رأيه الآن بعد اتفاقه مع البلاشفة أم لا
وتتلخص فكرته في أن الحضارة البشرية نتيجة عاملين فقط: الدم والأرض والعنصرية هي المظهر الخارجي للروح
على عكس هذه النظرية تماماً نظرية (كارل ماركس) (1818 - 1883) مؤسس المذهب المنسوب إليه والبلشفية والشيوعية التي تتخذ المادة كأساس في كل شيء إذ يقول: (الآراء السائدة في زمن ما تمثل آراء الطبقة الحاكمة في ذلك الزمن) وكذلك قوله: (غيروا الوضع السياسي والوضع الاقتصادي تغيروا بذلك البشر) ولذلك تحارب البلشفية النظام الرأسمالي لأنها تعتقد أنه مصدر كل شر، وبإزالة هذا النظام تتغير العقلية البشرية وتفكيرها ويظهر تفكير عالمي جديد. وهذا الرأي مأخوذ بصورة مكبرة عن المبدأ المادي الذي يجعل المادة أساس كل شيء والروح نتيجة عمل الدماغ. بل لقد غالى الفيلسوف فويرباخ (1804 - 1872) قال: (الإنسان يكون حسبما يكون أكله)
لست بمعترض للنقد هنا ولكن أقول: للطرفين غلو عظيم، وكلا الرأيين قديم في تأريخه يرجع إلى عصور اليونان وربما يرجع إلى أقدم من ذلك. وإني أرى أن هنالك آراء عامة تطرق إليها عقل كل إنسان، كل على حسب قابليته ومحيطه، ومن هذه الآراء هذه المشكلة، ولكن الأساليب في معالجتها تختلف والكلمات تتغير؛ والاكتفاء بالدم والأرض في تعيين الإنتاج العقلي للأمم أمر يخالفه الواقع. ونرى أن التطور الاقتصادي مثلاً قد قلب أوربا رأساً على عقب وغير مقاييسها الأدبية والأخلاقية والنزعة الروحية التصوفية التي سادت ألمانيا والعالم بعد الحرب العظمى، وأن حب التشاؤم الذي ساد كذلك، وظهور ما يسمى ? الميول الشاذة بأجلى مظاهرها ومعالجتها علناً، وظهور مذهب ومذهب على أن المادة مؤثرة في الروح لا محالة. وكذلك من باب المغالطة جعل الإنسان آلة تتحرك بمؤثر خارجي كالآلات الصماء التي تشتغل في المعامل. وما نجده من العوامل الروحية في الطفل وفي حالات المجرمين بالطبيعة، والذكاء أو الجمود الفكري يناقض النظرية المادية تماماً
ولكن ما هي المقاييس التي ستنتخب للحكم على أمة بأنها متحضرة وعلى درجة حضارتها؟ أجد أن الأساليب المتبعة الآن في أوربا في تعيين الحضارات كلها مقاييس واهنة، إذ هي تقيس كل حضارة بالنسبة إلى المقاييس التي لديها، وبالنظر إلى العرف أو العادات أو الذوق الذي تراه، وهذا ما يدعو إلى الحكم المخطئ طبعاً. أضف إلى ذلك أن دراسة الإنتاج الروحي أمر عسير جداً ويحتاج إلى إلمام كثير بالظروف والأحوال التي تحيط بتلك الأمة التي ستدرس أو يحكم عليها. فالعزم يجعله كتاب أوربا اليوم من أهم ميزات الأوربي، وكذلك حبه لو حللنا الظروف والأحوال التي حطمت هذه الميول، وجو الشرق المحرق وخيراته الكثيرة لوجدنا أن تلك لم تعد ميزة عقلية، إنما هي ناحية وردت عن طريق الحاجة والمحيط
إن الفيلسوف نيتشه يجعل الحضارة ترادف (العزم على العمل) التي يرددها دائماً. وقد أخذت الفاشية ذلك، وموسوليني من أكبر المحيين لفلسفة نيتشه، فجعل الإمبراطورية تشمل الناحية الروحية كذلك، فهو ينص في كتابه الذي ألفه في مبادئه على أن السيطرة والاستيلاء لا تقصر على السيطرة بكثرة الجنود والأراضي، بل تشمل سيادة العالم الروحي وتقوية الإرادة والعزم. وضعف هذه معناه الانحطاط والتدهور
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا