مجلة الرسالة/العدد 351/التبشير عدو للسلام

مجلة الرسالة/العدد 351/التبشير عدو للسلام

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1940


وهو في مصر عمل لا يليق

كان التبشير والتجارة رائدي الاستعمار السياسي منذ اعتزم الغرب الطموح الإغارة على الشرق الغافل. وكان التبشير أشد الرائدين تدخلاً في شؤون الناس، وتغلغلاً في أصول المجتمع، لما تهيأ له من شتى الوسائل في التعليم والتطبيب والتمريض والاستشراق والخدمة العامة، فاستطاع أن يرهج بين الأمة المتحدة الغبار الخانق، ويزرع بين الملة الواحدة الزرع الخبيث، ويخلق في كل شعب من شعوب الشرق بالعصبية الدينية والتربية المذهبية قلةً حاقدة تعارض الكثرة في الرأي، وتخالفها في الهوى، وتغري بها الشر، وتمالئ عليها العدو، وتحاول أن تتحيز في السكن والعمل، وتتميز بالشعار والجنس، فلا تكون من قومها في دنيا ولا آخره

ليس التبشير بهذا المعنى ولهذا الغرض من ألسنة الدين ولا من سبل

الحق؛ فإن الدين مهما تعددت أسماؤه وغير فيه أبناؤه لا يزال في

حقيقته الحبل الذي يصل به الله من انقطع ويجمع عليه من تفرق. وإن

الحق مهما تفرقت سبله وتنوعت وسائله لا تزال له غاية واحدة يهتدي

إليها من ضل، ويتوافى عليها من تأخر. وإذن لا يكون هذا التبشير

القاطع المفرق إلا وسيلة من وسائل السياسة الماكرة، أو حيلة من حيل

العيش الرخيص

وأعجب العجب أن الدولة الديمقراطية الثلاث هي التي تحضن هذا النظام الطفيلي وتعوله وتقوده وتحميه. وكان أقرب الظن بها أن تنكره بعد ما أمكن الشرق من يده وخلى بينها وبين ميراثه؛ فإن السلام والوئام والحب هي التي تقرب إليها من تسوس، وتحفظ عليها ما تملك. وهؤلاء المبشرون الذين اضطرهم اليأس أو البؤس أو العجز إلى الاتجار بالدين والعيش على ضلالات العقول وحزازات النفوس وسفاهات الألسن، لا يستطيعون أن يبذروا غير الخلاف، ولا أن يحصدوا غير الضغينة إن ميدان الدعوة إلى الله لا يكون بالطبيعة إلا في بلاد الوثنية والجهالة. هنالك يجد المجاهدون في سبيل الحق والخير ملايين من عمي القلوب يخبطون الظلام ويطئون الشوك ويعانون الحيرة ويكابدون اللغوب، فيخرجونهم إلى نور الله ويلحقونهم بركب الإنسانية. ولكننا لا نرى جمهرة المبشرين ولا معركة التبشير إلا في مصر، كأنما انحصر جهد هؤلاء المتعطلين في فتون المسلم عن دينه، وإخراج المسيحي عن مذهبه! فهل حسب أولئك الناس أن الإسلام بالنسبة إلى المسيحية كفر، وأن الأرثذكسية بالقياس إلى البروتستانتية فسوق؟ لا يمكن أن يقع هذا في حسبان عاقل؛ والقوم قد جاوزوا العقل والفطنة إلى الدهاء والخبث؛ فهم أكيس من أن يجهلوا حقيقة الإسلام وينكروا أثره الإلهي المحمدي في تكريم الإنسان وتنظيم العيش وإصلاح الأرض؛ ولكن الأشبه بالحق أنهم اطمأنوا إلى العيش الغرير في ظلال النيل، فأمنوا وسمنوا وخاروا، وعز عليهم أن يبعدوا عن مصاب الدولار والجنيه والفرنك في بنوك القاهرة، فأدخلوا في روع الشيوخ والعجائز من المؤمنين المثرين في أوربا وأمريكا أن البلد الذي يقوم فيه الأزهر هو المكان الذي لا يزال يصلب فيه المسيح. واستعانوا على خديعتهم بما افتراه قساوسة القرون الوسطى على الإسلام من الزور الغبي والكذب الأحمق. وأوهموهم أنهم إذا أمدوهم بالمال ورفدوهم بالنفوذ جندوا الجنود، وأحكموا الخطط، وهجموا على الإسلام فصرعوه في عقر داره من أجل ذلك كان المبشرون حراصاً على أن يجمعوا الأزهريين للمناظرات أو المحاضرات بشتى الحيل؛ فإذا ما اجتمعوا أخذوا صورهم في أروقة الكنائس أو في أفنية المدارس، ثم بعثوا بها إلى مرسليهم ومموليهم مدسوسة بين صحيفتين بارعتين إحداهما تبشر بتنصير (العلماء)، والأخرى تلح في مضاعفة الجزاء!

وفي سبيل أن ينعم المبشرون بالطعام الدسم، والشراب السائغ، والفراش الوثير، والفراغ الوادع، تتمزق العلائق بين الأخوة في النسب والوطن والعقيدة، وتكون الجفوة بين المسلم والقبطي في مصر، وبين المسلم والماروني في لبنان!

إن التبشير عدو للسلام، لأنه تأريث للعداوة وتشتيت للوحدة في غير طائل. وهو في مصر عمل لا يليق، لأنه إهانة وقحة لدينها وعقلها، وإن لهما في تاريخ الحضارة والثقافة والمجد صفحات لا يزال إشراقها السماوي يضئ جوانب الحاضر ويبدد غياهب المستقبل لقد آن للديمقراطيات التي تقاتل عصبية الجنس في ألمانيا، وتناضل عصبية المذهب في روسيا، أن تخلص سياستها من عصبية الدين؛ فإن ذلك أخلق بالسلام الأدبي الدائم الذي تحارب الطغاة على سلطانه، وتريد أن تقيم العالم الجديد بعد الحرب على أركانه

إن للتبشير في مصر فواجع لا تزال الضلوع محنية منها على نار. ولعل أرمضها للقلب وأبعثها للدمع مأساة ابنة الوزير الذي حال المبشرات بينه وبينها بالقوة لأنها نذرت نفسها للمسيح، ثم أخفوها عن العيون حيناً من الدهر، ثم نقلوها على رغم الأسرة والحكومة إلى فرنسا فانقطعت الأسباب بين أهلها ودينها ووطنها إلى الأبد!

ذلك ما خطر لي أن أكتبه ساعة قرأت ما كتبته مجلة التبشير الدولية عن حركة التنصير في مصر. وإن في ذلك المقال الخبيث من اقتراح تأليف مجلس مسيحي وطني لتنظيم التبشير وتعميمه في المدن، وإنشاء المدارس الإلزامية لفتنة الصبية والأيفاع في القرى، لبلاغاً للقائمين على سلامة التربية وحماة العقيدة من لصوص الضمائر وشياطين القلوب!

احمد حسن الزيات