مجلة الرسالة/العدد 352/الأدب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 352/الأدب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1940



توطئة. . .

كتبت - في هذا الباب - منذ أسابيع بعض رأيي في الشعر والشعراء، ولم يكن همي أن أستوفي كل الرأي فيهما وليس من عملي الآن أن أفعل ذلك، وإنما هي إشارات في لمحات يأخذ بها من يأخذ، ويدعها من شاء أن يدع؛ وأنا أحب أن أقدم بين يدي كلامي. . . فإن بعض من يغافل نفسه عن حدود الألفاظ ومعانيها ينطلق من ورائها يمد منها بأوهامه مداً بعيداً حتى يخرج بما نكتبه عن المعنى الذي نريده إلى أحلام ووساوس وخطرات يحم بها ثم يغلى ثم ينتفض. . . ثم لا يكون رأيه فينا إلا وهماً، من فوقه وهم، من فوقه عناد، ظلمات بعضها فوق بعض

فأنا حين أهجم على الغرض الذي أريده من النقد أو البيان، لا أتلجلج دونه لما أخشاه من قالة السوء التي يوكل بها بعض من فرغ زمانه إلا من الفراغ الذي يستهلكه في اختلاق الأوهام واقعة وطائرة، رائحة وغادية، ثم هو يجلس إليها - بعد أن تفصل عنه - ليتأملها ويملأ عينيه وأذنيه من مفاتنها وألحانها! وأنا أحب أن يعلم من ليس يعلم أني حين أكتب عن صديقي وكأن ليس بيني وبينه سبب من مودة، وأكتب عن عدوي وكأن ليس بيني وبينه دخان من غضب. فإذا خُيَل لبعض من يتخيل أني أماسح صديقي أو أتلفف على عدوي فقد أخطأ، وإنما العيب منه لا منا. . . وذلك عيب علمه أن هذا عدو وهذا صديق، فيرى من وراء اللفظ ومن تحته ومن فوقه ومن بين يديه معاني ليست منه ولا تتداعى إليه، وإنما نحن نستوفي الكلام ونعطيه حقه على وجوهه في الرضا والغضب، ونأخذ أنفاسنا بذلك ما استطعنا، فإن الحق في هذا الذي نكتبه هو حق القارئ لا شهوات من يكتبه؛ ثم هو بعد ذلك رأينا أصبنا أو أخطأنا، وليس علينا أن نوافق هوى قارئ لأنه هواه، بل علينا أن نجتهد له في إمحاض الرأي الذي نراه ليأخذ منه أو يدع على قدر من اقتناعه أو مخالفته؛ فهذه كلمة أوَطئُ بها ما بيني وبين القراء، ليسيروا إلينا ونسير إليهم في مهاد مذلّل من الرأي والنصيحة. . .

ويعتَدُه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعُني من ذاك ديني ومنصِبي

الملاح التائه! أما (الملاح التائه) فذاك هو الصديق الشاعر المهندس (علي محمود طه)، وقد عاد بعد خمس سنوات فألقى على شاطئنا ديوانه الثاني (ليالي الملاح التائه) ثم نشر شراعه ومضى. وقد أحدث ظهور هذا الديوان الجديد - في معرضه الأنيق وشعره القوي الجميل - آثاراً في توجيه أنظار الناس إليه وإلى صاحبه ثم إلى الشَعّر خاصة، ثم اختلف الأدباء عليه بأحاديثهم وآرائهم، ولغوْا لغواً كثيراً في الأغراض التي اشتملتْ عليها ضفتا هذا الديوان الثاني من شعر (الملاح التائه). ونحن لن نعرض لشيءٍ مما قيل في ذلك إلا كما يدرج الكلام على أغراضه بالإشارة والتنبيه والبيان على مجاز السياق

والشعر أيضاً

ولاُبدّ من أن نعود مرة أخرى للحديث عن الشعر عامةً، ليكون بعض الرأي فيه مدخَلاً للكلام عن (الملاح التائه)، فإن أكثر ما قيل - عن ديوان هذا الشاعر - إنما مرُّده إلى آراء فاسدةٍ في معنى الشعر، وما هو، وكيف هو؛ وإلى الجَهْل بطبيعة الشاعر وفطرته ومن أين تأتي، وأنى تتوجَّه، وكيف تجري به إلى أغراضِها على نِظامٍ لا ينفَكُّ عنه أراد أو لم يُرِدْ

وليس يشكُّ أحدٌ أن الشَّعْر في أصله هو معانٍ يريدُها الشاعِرُ، وأن هذه المعاني ليست إلا أفكاراً عامّةً يشتركُ في معرفتها كثير من الناس، وأنها دائرةٌ في الحياة على صورتها التي تأخُذُها بها كل عينٍ، ويتداولَها من جهته كل فِكْرٍ، وأنها - إذ كانت كذلك - ليست شيئاً جديداً في الحياة ولا في معانيها وأوصافها وحقائقها، وإنما تصيُر هذه المعاني شعراً حين يعرضُها الشاعر في معرضٍ من فّنَهِ وخياله وأدِائه ولفظه، فيجدد لك هذه المعاني تجديداً ينقلها من المعرفة إلى الشعور بالمعرفة، ومن إدراك المعنى إلى التأثُّر بالمعنى، ومن فهم الحقيقة إلى الاهتزاز للحقيقة، فتجد المعنى القريب وقد نقلك الشاعر إلى أغواره الأبدية وأسراره العظيمة وكأنه قد خرج عن صورته التي ضُربت عليه في الحياة السَرّ الأول الذي أبدع هذه الصورة، وإلى الصلة التي تصل ما بين المعلوم إلى المجهول البعيد الذي لا يُرى ولا يلمس

فالشعور والتأثر والاهتزاز هي أصل الشعر، ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها وتأثيرها إلا كلاماً كسائر الكلام ليس له فضلٌ إلا فضل الوزن والقافية وهذه الثلاثة لا يكتسبها الكلام من المعاني من حيث هي معان معقولة مدركة، وإنما هي فيه من روح الشاعر وأعصابه، ونبضات الشوق الأبدي التي تتنزى في دمه؛ فأيُّما معنًى عرفه الشاعر، وأيُّما صورة رآها، وأيُّما إحساس أحس به، فهو لا يكون من شعره إلا حين يتحول في روحه وأعصابه ودمه إلى أخيلة ظامئة عارية تبحث عن زيها ولباسها من أسلوب الشاعر وألفاظه، ثم تريد بعد ذلك زينتها من فن الشاعر لتفصل عنه في مفاتنها الجميلة كأنها حسناء قد وجدت أحلام شبابها في زينتها وأثوابها. وبقدر نقصان خزائن الشاعر مما تتطلبه أخيلته الظامئة العارية، يكون النقص الذي يلحق العذارى الجميلة التي تسبح في دمه من معانيه

والشعر على ذلك هو فن تجميل الحياة، أي فن أفراحها الراقصة في نسمات من الألحان المعربدة بالحقيقة المفرحة؛ وفن أحزانها النائحة في هدأة التأملات الخاشعة تحت لذعات الحقيقة المؤلمة؛ وفن ثوراتها المزمجرة في أمواج من الأفراح والأحزان والأشواق، قد كُفَّتْ وراء أسوار الحقيقة المفرحة المؤلمة في وقت معاً

وهو على ذلك فلسفة الحياة، أي فلسفة السمو بالحياة إلى السر الأبدي الذي بث في الحياة أسرار المستغلقة المبهمة التي تُرى ولا تُرى، وتظهر ولا تظهر، وتترك العقل إذا أرادها حائراً ضائعاً مشرداً في سبحات من الجمال تضيء فيه بأفراحها كما تضيء بأحزانها، وتفرح بكليهما وتحزن، فرحاً سامياً أحياناً، وحزناً سامياً أبداً

وإذا كان الشعر هو فلسفة السمو بالحياة، فمعنى ذلك أنه النظام العقلي الدقيق الذي يبلغ من دقته أن يكون منطقه إحساساً مسدداً لا يخطئ ولا يزيغ ولا يبطل ولا يتناقض في أسلوبه الفني ونظامه الشعري البديع، وهذا النظام العقلي النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحياناً، ولا يشعر أحياناً، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحى منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام إلى القول حين ظهر (ليالي الملاح التائه) في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث

إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مساقط الوْحي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فِترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها ومدْرجها ثم تكونُ البلاد البعيدة في مطارح الغُرّبة هي التي تنفُض عنها غبارها وتمسحه حتى تجلوها جلاء المرآة، أعداداً لها لتتلقى صُورها التي تجري في مائها إلى دم الشاعر ثم إليها مرة أخرى، ولا تزال كذلك بين الأخذ والإعطاء حتى ينبثق ماءُ الينبوع من صخرة الحياة الشاعرة

فلا يخدعنَّك ما يقول فلانٌ وفلانُ، فإنْ هم إلا أسماء قد ركبتْ على ألقابها تركيباً مزجياً على خطأ وفساد، كما ركَبّتْ حضرمَوت وبعلَبك تركيباً مزجَّياً على صحة وصواب

ليالي الملاح التائه

كل هذا الديوان شعٌر من شعر (علي طه) بعد رحلتيْه من مصر إلى أوربا في خلال هذه السنوات التي انقضت بعد نشره الجزء الأول من ديوانه وهو (الملاح التائه). وقد كانت هاتان الرحلتان وحياً جديداً في نفس الشاعر وأعصابه وأحلامه، وكانتا تغييراً في حياته عامة وفي أفكاره خاصة، ولم يكن بد إذن أن يجد قارئ هذا الديوان فرقاً بيَنّاً بين شعر (الملاح التائه) و (ليلي الملاح التائه). وليس هذا الاختلاف بشيء ألبته، فإن شاعرّيته لم تزل هي ما هي في كليهما على نمط لم يختلف، ولكنه نزع في هذا الطَّوْر الجديد إلى السهولة والرَقة ومعابثةِ المعاني والألفاظ بغزل رقيق من عواطفه. وعلةُ ذلك فيما نرى أنه انطلق من قيود مصر في أول رحلته وخرج شارداً يستجلي روائع الحياة الأوربية الزاخرة ببدائع الفن ومعجزات الحضارة والعلم، ونزلَ المنازل المتبَّرجة بفتَنها في عواصم المدن الأوربية، وعبَّ من مُسكرَاتِ الجمال الفطريَّ والصناعَّي البديع الذي تستجيده أناملُ الحضارة الرقيقة العابثة اللاهية، والتي لم تدع للفنَ معقلاً إلا لعبت به واستخرجت كنوزه وتلاعبتْ بها على أصول أخرى غير التي بنى عليها الفن القديم البارع المحكم، وعرضت له الصور التي تفتن الناس بجمالها وتهدمهم بفتنتها، وتقعُ في دمائهم موْقعاً لا تلبث معه إنسانية الإنسان أن تشتمل من جميع نواحيها بلهيب من اللذة والسكر والفرح. . كل ذلك هزَّه وهزَّ أعصابه وألقى عليه من وحيِه وتركه يقول من الشعر على السجية غير متكلَّف ولا مُنقَّح ولا راغبٍ في الكد والعناء و. . .، والحنبليَّة الفنية التي تريد البديع، فإذا أدركته طلبت الأبدع، فإذا بلغت تسامت إلى ما هو أبدع منهما؛ لا تهدأ ولا تقرُّ ولا تستريح إلى جميل كان هذا - فيما نرى - وكانت نفسه الشاعرة المتلقّفة - والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد - تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثَر الصيد بين يديه، فما يدري ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنيناً وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلونها بألوّانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفاً واستكراهاً وجفوة.

الجندول

وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع (عبد الوهاب) جوّ تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . .

فإن الشاعر حين لعبت به فتن (عروس الإدرياتيك) في كرنفالها المشهور، وَدفِيءَ دَمهُ في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة، وفاجأته فتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في صبابته. . . أرقَّ فِتنة في أحلى جوّ في سِحر الليل المضيء في أجمل فن الحضارة في أحفل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء، حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها - لم يستطيع أن يضبط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:

أين من عينيَّ هاتيك المجالي ... يا عروس البحر يا حلْم الخيال

أين عُشاقُك ُسُمار الليالي ... أين من واديك يا مهد الجمال

ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنة وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:

(أنا من ضيَّع في الأوهام عمره)

بعد أن قال:

ذهبيُّ الشعر شرقيْ السماتِ ... مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات

كلما قلت له: خذ، قال: هات ... يا حبيب الرُّوح، يا أُنس الحياة كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنه نسي الدنيا التي ولد فيها كما (نسي التاريخ أو أنسى ذكره). . . ولكنه لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتاً مؤثراً عجيباً، هو دليل الشاعرية الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:

قال: من أين؟ وأصغي ورنا ... قلت: من مصر، (غريب) هاهنا

(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانها من العاطفة وفي أقصى مدَّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والحنين والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت في شعر (علي طه) بعد رحلته إلى أوربا، لو قال: (من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لا نسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انفتل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموَهها بيده ويمسح أثرها بمنديله - في هذا الجو المرح العابث اللاهي - وهو يقول: (غريب هاهنا)

هذا. . . وقد أخذت هذا الموضوع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطيء معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه

محمود محمد شاكر