مجلة الرسالة/العدد 352/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 352/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1940



نشأة النحو

تأليف الأستاذ محمد الطنطاوي

بقلم الأستاذ محمود مصطفى

هذا أول كتاب من نوعه فيما أعلم؛ إذ قد جرت العادة في الكتب التي تؤرخ فيها العلوم والآداب، أن يشغل الحديث فيها عن كل فن أو علم بضع صفحات يلم فيها المؤلف بمجمل من تاريخ ذلك العلم أو الفن. فأما أن يملأ الحديث عن علم واحد كتاباً تصل صفحاته إلى الخمسين بعد المائة من القطع الكبيرة فذلك ما لم نعهده من قبل أن يخرج إلينا الأستاذ الجليل والعالم المفضال صاحب الفضيلة الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه (نشأة النحو)

والحق أن هذه التسمية (نشأة النحو) تسمية يتجلى فيها التواضع العلمي تمام التجلي فالكتاب ليس عن نشأة النحو فحسب ولكنه يتناول نشأته ودروجه ثم شبابه وكهولته ثم شيخوخته وهرمه وليس ذلك في قطر واحد من الأقطار العربية، بل هو حديث مفصل من كل هذه الأطوار في كل قطر من الأقطار. حديث يتناول المذاهب واختلافها وأسباب نشوئها وعلل تمايزها وينوه بالأعلام من رجالها وما كان لهم من آثار بارزة في خدمة علمهم وتجلية غامضة وتسهيل سبله

قد يتناول الباحث في تاريخ العلوم والآداب دراسة علم أو فن لم يدرسه دراسة وافية مستوعبة ولم يكن له به صلة وثيقة، فيكون همه جمع ما كتبه الكاتبون من ذلك العلم وترتيب أقوالهم بما يملك من قدرة على التقسيم والتبويب، فيخرج عمله معجباً من يطلع عليه، مرضياً من يريد الوقوف على تدرج هذا العلم وتسلسل أطواره، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يكشف عن أسرار العلم كما يكشف عنها عالم مارسه ودرس كتبه وألم بمسائله وأطال مناقشتها ووازن بين أقوال العلماء فيها، وتكونت له ملكة الحكم وبيان الصحيح الجيد من الزائف المبهرج. وذلك شأن مؤلفنا الفاضل في هذا الكتاب. فهو إذا وازن بين قولين رأيت الحجة في قوله واضحة المحجة، والبرهان يدعم البرهان؛ كالبنيان يشد البنيان. وكذلك من فضل العالم الذي يؤلف لعلمه أن ترى أثر الاجتهاد ظاهراً في بحثه فهو يضيف إلى أقوال السابقين ما يصبح مادة جديدة في البحث، والفضل في ذلك راجع إلى هداية الفكر الصائب والذهن الواعي لمسائل العلم ومباحثه المتشعبة

وفي هذا الكتاب نجد الأستاذ الطنطاوي ظاهراً موازياً تمام الموازاة لآثار السلف الذين نذكر لهم صنيعهم بالشكر، فقد ذكر المؤلف حفظه الله كثيراً من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين وتلك مسألة ألف القدماء فيها الكتب وأحصوا فيها كل ما كان من ذلك بين أهل المذهبين، ولكن المؤلف حفظه الله لم يشأ أن يكون ناقلاً فحسب بل إنه وازن بين المذهبين وكانت له بينهما جولة رجح فيها بحق مذهب البصريين على الكوفيين داعماً قوله بالشواهد الصحيحة والعلل المعقولة فكان الناقد الألمعي والحكم الرضي. كذلك نراه يعرض لأثر البغداديين أو المغاربة في علم النحو فيجمع من آرائهم التي اشتغلوا بها، ما تفرق في ثنايا الكتب مما لم يعن أحد قبل الشيخ الطنطاوي بجمعه وضم شتاته، فهذا مظهر من مظاهر الاستقلال في التأليف نذكره لصديقنا بالإعجاب الفائق

وبعد فكتاب (نشأة النحو) سجل واف لتاريخ هذا العلم منذ فكر في وضعه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أن انتهى المتأخر ون من تنسيقه وتبويبه فلم يتركوا بعدهم مجالاً لقائل إلا أن يكون في مثل فضل الأستاذ الطنطاوي الذي أرخ لدولة النحو من بدئها إلى ختامها تاريخاً لم يغادر من أمرها صغيراً ولا كبيراً إلا أحصاه، فالله يتولاه ويمنحه على هذا الجهد المشكور أتم سرضاه وأجزل نعماه.

محمود مصطفى

المدرس في كلية اللغة العربية