مجلة الرسالة/العدد 352/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 352/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1940



تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير

للدكتور محمد محمود غالي

من الفكرة الشيئية إلى فكرة الأثير - هجرة العلماء الفكرة

الشيئية واعتناقهم الفكرة الحديثة - تجربة (ميكلسون) والأثير

- هجر العلماء الفكرة الحديثة وترددهم فيها - تطور يتفتح

عن تعديل في الميكانيكا النيوتونية - لا تعديل في الضوء

نرافق القارئ في مرحلة من العلوم تضاربت خلالها الآراء، تلك المرحلة التي حاول الإنسان فيها أن يفهم الظاهرة الضوئية، ويتعمق في معرفة كنه (الفوتون)، وهو الذرة التي تتكون منها الأشعة على اختلاف أنواعها، والتي كانت عند (نيوتن) جسيما صلباً، وعند (فرنل) موجة، وهي اليوم عند (دي بروي) جسيم وموجة مستصحبة له، وقد شرحنا للقارئ النظرية الشيئية للضوء التي أسسها (نيوتن) والتي موجزها في أن الضوء مكون من جسيمات صغيرة مقذوفة في الحيز في خط مستقيم وبسرعة كبيرة، وذكرنا أن ظواهر الضوء الهندسي من تكوين ظلال الأجسام عند وضعها أمام منبع ضوئي ومن انكسار الأشعة الضوئية عند اختلاف نوع المادة التي يخترقها الضوء، يجوز تفسيرها بالنظرية الشيئية النيوتونية، وعرضنا للقارئ ظواهر أخرى للضوء مثل ظاهرتي التداخل والاستقطاب اللتين كشف إحداهما أيمكن تفسيرها بالنظرية الشيئية المتقدمة، ويمكن ذلك باللجوء إلى فكرة فرضية، فكرة أثيرية أسسها الرياضي (ويجانز) والمهندس الطبيعي (فرنل) ونذكر للقارئ اليوم أن ظاهرتي التداخل والاستقطاب لم تكونا وحدهما سبباً لهجر الفكرة النيوتونية واعتناق المذهب الأثيري، بل إن ثمة ظاهرة أخرى من أهم الظواهر المعروفة وهي ظاهرة (الحيود) في الضوء يتيسر تفسيرها أيضاً باللجوء إلى فكرة نيوتن، وأمكن تعليلها بالنظرية الأثيرية أو الموجية المتقدمة، وتتلخص هذه الظاهرة في أنه قد ثبت بالملاحظة، عند ظروف معينة، أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كما هو المعتقد منذ القدم، بل إن الأشعة الضوئية عند مقابلتها جسماً محدداً بحافة مستقيمة تميل بحالة تدل على حيدها عن مسارها، وتتضح نتيجة ذلك من ظاهرة تشبه ظاهرة التداخل التي تكلمنا عنها

وأمام ظواهر طبيعية لم يكن يعلمها الأقدمون شيد (ويجانز) الهولندي هيكلا رياضياً رائعاَ، وقام (فرنل) بتجارب بالغة حد الإتقان وحسابات لا يتطرق إليها الشك، وهجرا، عن عقيدة، النظرية الشيئية للضوء، وأسسا افتراضاً لفهم الظواهر الضوئية موجزه في أن الضوء حادثة أو أمواج وقعت في مادة تملأ الكون بأسره، وهي مادة الأثير التي طالما سمع القارئ عنها في الكتب العلمية البحتة وفي البحوث الفلسفية، والذين يراجعون اليوم منا تلك الحسابات الباهرة لويجانز وفرنل ويعيدون بعضاً من هذه التجارب الرائعة يتجولون في الواقع في هيكل من أجمل الهياكل التي شيدها الإنسان المفكر ويشاهدون ناحية من أبدع مناحي العلم التجريبي، وهكذا كانت ثقة فرنل بالوسط الأثيري الذي افترضه افتراضاً ثقة علمية ذهبت به إلى حد معاملة (الأثير) معاملة الأوساط المادية، وذلك بالقيام بحسابات رياضية حاول أن يعلم منها الدرجة التي يتحرك بها هذا الأثير عندما تتحرك المادة فيه، وقد دلت تجربة فيزو الذي قام بقياس سرعة الضوء في أنبوبة تحمل ماء متحركا على أن سرعة الضوء في اتجاه حركة الماء تختلف عن سرعته في الاتجاه المضاد، وبذلك بيَّن بطريقة تجريبية حركة للأثير توهمها فرنل الذي نظر إليه كمادة موجودة في الوجود تسري عليها قوانينا الطبيعية ونعاملها معاملة ميكانيكية، ولم يصبح الأثير بذلك فرضاً رياضياً فحسب، بل مادة كائنة في الوجود نطبق عليها قوانين: (جاليليه) و (نيوتن) الميكانيكية، وكانت ظواهر التداخل والاستقطاب والحيود السبب في انتصار هذا النوع من التفكير، وفي تأييد نظرية أثيرية موجية يصح أن نسميها هنا لأول مرة: (النظرية الفريجانزية) نسبة لاسمي فرنل وويجانز.

ولكن رغم هذه الانتصارات المتتابعة ظل الأثير وسطاً عجيباً، إذ يجب أن يكون له خواص الأجسام الصلبة بحكم أن الضوء أمواج مستعرضة، وليس أمواج طويلة، وكانت الفكرة في مولد الأثير عن فرض نظري لتفسير وقائع معينة سبباً جعل العلماء ينظرون إليه بشيء من عدم اليقين، ولم يكن هناك لإثبات وجوده وحركته غير تجربة واحدة لفيزو، لا تكفي باعتبارها تجربة واحدة وصادرة من مصدر واحد أن تقوم دليلاً قاطعاً على وجوده هذا الشك في الوسط الوهمي الذي افترضه العلماء افتراضاً جعل العالم الكبير ميكلسون يقوم بتجربته الشهيرة التي وإن مضى عليها الآن ستون عاماً إلا أن الأثر الذي أحدثته لم يكن بالأمر الهين، وهي التجربة التي أراد أن يعرف منها كيان هذا الأثير، بل يعرف شيئاً عن وجوده أو حركته

لجأ ميكلسون إلى استنباط جهاز يتركب من ذراعين اب اج طولهما واحد وأحدهما عمودي على الآخر، ووضع مرآة في طرف كل ذراع كما هو مبين بالشكل (1) ووضع عند امنبعاً ضوئياً وأرسل منه في الاتجاه اب شعاعاً ضوئياً يصل للمرآة ب وينعكس مرة أخرى إلى امتتبعاً السهمين اب ب ا، كذلك أرسل من اوفي الاتجاه اج شعاعاً آخر يصل للمرآة ح وينعكس إلى اوفق السهمين اح ح ا

وبديهي أنه في الحالة التي لا يتحرك فيها الجهاز في الأثير، فإن الضوء يأخذ الوقت ذاته لعمل الرحلة اب ا، والرحلة اح ا. كذلك في الحالة التي يتحرك الجهاز فيها في الاتجاه اب مثلاً، ويتحرك الأثير في الاتجاه ذاته بنفس السرعة، فإن الزمن للشعاعين يجب ألا يتغير، ولكنا نعرف من تجربة فنرو السابقة أن الأثير يتحرك بحالة ضعيفة في اتجاه الجهاز، وعليه فيجب أن يكون هناك فارق في سرعة الشعاعين، ويدل الحساب على أن الشعاع اب ا، يجب أن يأخذ فترة من الزمن أطول من الفترة التي يأخذها الشعاع اح ا؛ ومن الواضح أنه يجب لنجاح التجربة أن يتحرك الجهاز بأكبر ما يمكننا من السرعة، حتى يكون في الإمكان قياس الفرق بين الحالتين، نظراً لعظم سرعة الضوء، ولا شك أن القارئ يتساءل الآن: أنَّى لنا هذه السرعة للجهاز التي تجعلنا نستطيع أن نقيس الفارق بين سرعته وسرعة الضوء التي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية؟ ولكن ميكلسون وجد ذلك في الأرض نفسها، ذلك أن الأرض غير ثابتة، وتسير حول الشمس سيرها الأبدي بسرعة تبلغ 30 كيلومتراً في الثانية، وعلى ذلك، فقد كان على ميكلسون أن يعتبر الأرض ذاتها كجزء من جهازه، ويبحث دون تحريك الجهاز عما إذا كان هناك فارق في الوقت الذي يتخذه كل من الشعاعين

ترى ماذا كانت النتيجة التي وصل إليها (ميكلسون)؟ لقد وصل إلى نتيجة غير منتظرة بل نتيجة عجيبة. ذلك أنه لم يجد أي فارق بين سرعة الشعاعين رغم أن دقة التجربة كفيلة بأن تظهر أقل من ذلك الفرق. وهكذا كانت تجربة ميكلسون بمثابة ضربة قاضية على وجود الأثير.

ومع ذلك فإن وجود حالة موجية للضوء أمر لا يقبل الجدل وهي حالة تستدعي وجود مادة أثيرية لها خواص الأجسام الصلبة - من ذلك حصلت أزمة علمية عصيبة، فلا المتذهبين بمذهب نيوتن بقادرين على تفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب وغيرهما ولا الآخذين برأي الموجية ووجود الأثير وهم التابعون لفرنل وويجانز بمستطيعين أن يفسروا لنا تجربة (ميكلسون)

وإزاء هذه الصدمة العنيفة كان يجب أن يبحث العلماء عن طريقة جديدة، وقد انتهى بهم البحث بعد وقت ليس بالقصير إلى أن الضوء ليس هو الذي يجب أن يكون موضع التعديل إنما هي معارفنا عن الميكانيكا وعن الحيز والزمن هي التي يجب أن تعدَّل، وكان على العلماء أن يتفهموا الكون وقوانينه بطريقة غير الطريقة النيوتنية، التي اعُتبرت صحيحة سنوات طوال، والتي كانت في الواقع طريقة تقريبية لكي نفهم الدار التي نعيش فيها، ولكنها لم تكن كافية لكي نفهم تفاصيل هذه الدار

هنا ينحني جيلنا أمام معادلات لورنتز التي سنتكلم عنها، وهي المعادلات التي أدمج فيها الزمن في الحيَّز والحيز في الزمن، بل وينحني جيلنا أمام تفكير أينشتاين الذي أفاد من هذه المعادلات فخرج بنا من المأزق السابق، وأفهمنا الكون على صورة غير التي عهدناها له، ولعل القارئ قد أفاد من تتبع هذه الأزمة الطبيعية التي بدأ بتمثيل الدور الأول منها شيخ علماء الأجيال المنصرمة (نيوتن) والتي ظهر في آخر فصولها شيخ علماء الجيل الحالي (إينشتاين)

ولكنا نورد، قبل الدخول في تفسير معادلات (لورنتز) ونظرية (أينشتاين)، ملخصاً عن الضوء كظاهرة كهربائية وعنه كظاهرة مادية، وسيعلم القارئ منها أن الموجات الضوئية ما هي إلا سلسلة تموجات عامة في الكون، تبدأ بموجات كبيرة أطوالها بضعة كيلو مترات، وهي الأمواج الكهربائية أو (الهرتزية) نسبة للعالم (هرتز) والتي نعرف منها الأمواج الطويلة والوسطى التي تتنقل من مكان إلى مكان متتبعة منحني سطح الأرض ونعرف منها الموجة القصيرة، وهذه الأخيرة تصل من مكان إلى آخر بالانعكاس على الطبقات العليا من اليونات الجوية

تلي هذه السلسلة من التموجات الموجات تحت الحمراء ثم الموجات المرئية من اللون الأحمر إلى البنفسجي، ثم تلي ذلك الموجات القصيرة غير المرئية، التي تبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتستمر إلى الأشعة السينية بإشعاع الراديوم وبالأشعة الكونية التي كتبنا عنها

وسيتبين للقارئ من استعراض الضوء كظاهرة مادية ما للضوء من ضغط على المادة، وهو الضغط الذي أمكن حسابه وقياسه، كل ذلك يقودنا إلى فكرة النسبية وإلى نظرية الكم نتناولهما قبل أن نتناول موضوع التفتت الذري الموضوع الذي يتطلب الإنسان من ورائه مستقبلاً أرقى مما وصل إليه، ويتطلع إلى نوع من المدنية عجيب، قد يختلف جد الاختلاف عن المدنية التي نستمتع بها اليوم.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة