مجلة الرسالة/العدد 353/أفانين

مجلة الرسالة/العدد 353/أفانين

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1940



أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

في عصر بني أمية لعمت ثلاثة مت الرُّجاز، زاحموا الشعراء بالمناكب على أبواب الخلفاء والولاة، وقاسموهم جزيل الصَّلات وسنيّ الهبات، بل أكرهوهم على أن ينظروا إليهم بعين الجلّة والإكبار، ويروا فيهم منافسين يُخشى بأسهم، وترهب صولتهم، فاضطروا إلى مجاراتهم في هذا الفن الناهض، ليفوزوا بالحسنيّين، فكان جرير والفرزدق من الشعراء الرجاز

هؤلاء الثلاثة الذين سمْوا بالرجز من الحضيض إلى الذروة، واستنفذوا أهله من الخمول والضّعة: هم: العجّاج التميمي وابنه رُؤبة، وأبو النجم العِجْلي، وفيهم يقول أبو عبيدة: ما زالت الشعراء تقصر بالرجاز حتى أبو النجم:

الحمد لله العلي لأجلل

وقال العجاج: قد جبر الدين الإله فجُبرْ

وقال رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق

فانتصفوا منهم!

لم يكن للرجز في الجاهلية نباهة شأن، فقد كان البدوي يصوغ منه بضعة مشطورات في الحرب والمفاخرة والسَّباب، أو يرسها في غرض تافه كوصف ظبي أو ظلم أو ثور وحشي، حتى جاء شيخ الرجاز وأرصنهم قولاً: الأغلب العجلي من المخضرمين؟ فأطاله قليلاً على عهد الرسالة، فكان مثله في الرجاز مثل المهلهل التغلبي في الشعراء

ولكن في هذا العهد - عهد بني أمية - وثب الرجز وثبة قوية موفقة، فبارى الشعر في جُلّ خصائصه كما بارته الرسائل الأدبية في أواسط العصر العباسي، فاستعمل في المدح والهجاء والفخر والرثاء، وذكر الديار والظعائن، والوقوف على الأطلال والرسوم والدَّمن، وبكاء الشباب ووصف الرحلة إلى الممدوح، والتمهيد بالنسيب، والتخلص منه إلى المدح والذم إلى غير ذلك من أغراض الشعر الصميمة

وحسبك فيما بلغه الرجز من رفيع المنزلة، قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علمت ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك علم الموالى لا أبالك! علمهم الرجز فإنه يُهَرِّت أشداقهم (يوسعها)

ويقتضينا الإنصاف أن نقول: إن السابق إلى تقصيد الرجز وتضمينه فنون الشعر: العجاج. ولذلك عده الرواة في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء

والذي يعنينا من هؤلاء الثلاثة الصدور المقدمين هو أبو النجم العجلي

واسمه المفضّل أو الفضل بن قدامة، يرتفع نسبه إلى عجل ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل

وقبيلة بكر من القبائل المعرقة في الفصاحة والبيان! ويكفيها فخراً أنها أخرجت للعرب الأغلبَ وأبا النجم من الرجاز، وطرفة ابن العبد والحارث ابن حِلّزة وأعشى قيس من الشعراء أصحاب المعلقات!

كان أبو النجم يمتاز من صاحبيه: العجاج ورؤية - على ما لهما من مزايا - بأشياء:

كان بارعاً إلى الغاية من البراعة في النعوت

وكان حاضر البديهة سريع الخاطر: يحدث الأصمعي أنه قال أرجوزته: الحمد لله العلي الأجلل، في قدر ما يمشي الإنسان مسافة غلوة أو نحوها (مقدار رمية سهم)

وكان أحسن الناس إنشاداً، وكانت له في الإنشاد عادة غريبة! وهي أنه يُرغى ويُزيد ويرمي بثيابه فيضفي عليه ذلك رهبة وهيبة!

وروعة الإنشاد لا يفكر أثرها في الغلبة والفلج! وبخاصة في عصر يعتمد فيه على المشافهة والسماع، ويتلاقى فيه الخصوم وجهاً لوجه في المواسم والأسواق

بل إن الإنشاد لم يفقد روعته في عصرنا هذا - عصر القراءة والكتابة - فقد كان عدة (حافظ) في لتلعب بعقول الجماهير، وانتزاع التصفيق منهم، حتى لقد كان يقوم له ذلك مقام البراعة والإبداع في شعر (شوقي)

ومن شعرائنا المعاصرين من تسمع شعره ثم تقرؤه، فإذا الفرق بين ما سمعت وما قرأت كالفرق بين الدر والخزف لكثرة ما يتحاسن في إنشاده ويتصايح ويمعن في التأوّه والتباكي والشهيق والزفير!

وكان أبو النجم - فوق تمكنه في الرجز - شاعراً مجيداً وقد تغنت في بعض مرّفقاته عُليْة بنت المهدي، كما أنه انتصر على الفرزدق وجماعة من الشعراء من مجلس سليمان بن عبد الملك، وحاز الجائزة دونهم بقصيدته الفخرية التي أولها:

(علق الهوى بحبائل الشعثاء)

ومن المقرر في عرف النقدة: أن كل مقصّد يستطيع الرجز - وإن لقي في ذلك بعض المشقة - وليس كل راجز يمكنه التقصيد. والشاعر الراجز أعلى مقاماً ممن حظه الشعر أو الرجز فحسب، فإذا اجتمع الشعر والرجز والمقطعات لإنسان سمي: الكامل. وقد ظفر الفرزدق بهذه المرتبة، ثم أبو نواس من المحدثين.

ولم يكن بد أن تستحرَّ المنافسة بين أبي النجم وبين العجاج وابنه رؤبة، وقد أظلهم عصر واحد، وجمعتهم صناعة واحدة. ولكن الباحث المتقصي يستطيع أن يرد هذا الصراع إلى سبب أعمق من المعاصرة: وهي العصبية القبلية؛ فالعجاج وابنه من تمي ثم من مضر، وأبو النجم من بكر ثم من ربيعة، وبين تميم ابن مُرّ وبكر بن وائل إحن ومضاغنات في الجاهلية والإسلام! وبين مضر الحمراء وربيعة الفرس حقود وحزازات حملتها قبائلهما إلى كل بلد نزلت فيه!

وكان العجاج ورؤبة يحذرن أبا النجم ويداريانه، لما عرف عنه من شكاسة الطبع وزعارة الخلق!

يقول عامر بن عبد الملك السمعي: كان رؤبة وأبو النجم يجتمعان عندي، فأطلب لهما النبيذ، فكان أبو النجم يتسرع إلى رؤبة حتى أكفَّه عنه!

ويحدثون: أن فتيانا من عجل قالوا لأبي النجم: هذه رؤبة بالمِرْبَد يجلس فيسمع شعره، وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من تميم، فما يمنعك من هذا؟ قال: أو تحبون هذا؟ قالوا: نعم قال: فأتوني بعسِّ نبيذ، فأتوه به فشربه، ثم نهض قائلاً:

إذا اصطبحت أربعاً عرفتني ... ثم تجشّمعتُ الذي جشّمتني

فلما رآه رؤبة أعظمه، وقام له من مكانه وقال: هذا رجّاز العرب

ثم أنشدهم أبو النجم أرجوزته اللامية، فقال رؤبة: هذه أم الرجز

ومن طريف مراجزاته للعجاج: أن العجاج خرج محتفلاً، عليه جبة خزّ وعمامة خزّ، فوق ناقه له كَوْماء (عظيمة السنام) قد أجاد رحلها، حتى وقف بالمِربد - والناس مجتمعون - فأنشدهم أرجوزته الرائية:

(قد جبر الذين لإله فجبر)

فذكر ربيعة وهجاها، فجاء رجل إلى أبي النجم، فقال له: أنت جالس، وهذا العجاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس.

فقال أبو النجم: صف لي حاله وزيه الذي هو فيه، فوصفه له، فقال: ابغني جملاً وأكثر عليه من الهناء، فجيء بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، وأتزر بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، واتزر بالأخرى! وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده حتى أتي إلى المربد

فلما دنا من العجاج قال للقائد: أخلع خطامه؛ فخلعه، وأشتد أبو النجم أرجوزته:

(تذكر القلب وجهلاً ما ذكر)

والجمل في أثناء ذلك يدنوا من الناقة ويتشّممها! والعجّاج يتباعد لئلا تفسد ثيابه ورحله بالقطران!

حتى إذا بلغ أبو النجم إلى قوله:

إني وكلُّ شاعر إذا شعرْ=شيطانه أنثى، وشيطاني ذكرْ

فما رآني شاعر إلا استترْ ... فِعْلَ نجوم الليل عايَنْ القمرْ

وثب الجمل على الناقة!!

فهرب العجاج والناس يضحكون قائلين:

(شيطانه أنثى وشيطاني ذكر)

وكان أبو النجم ينزل سواد الكوفة وينتجع بقصيده ورجزه خلفاء بني أمية وولاتهم، فيحسنون لقاءه وينفحونه بالعطاء

وله مع الخليفة هشام بن عبد الملك أخبار طريفة ونوادر حِسان كان يجري فيها على سجية الأعراب لا يُوارب ولا يحتشم!

فمن ذلك: أن هشاماً قال له يوماً: حدثني يا أبا النجم. قال: عني أو عن غيري. قال: بل عنك. قال: إني حين علتني الشيخوخة كان يعرض لي البول في اللهيل، فوضعت عند رجلي شيئاً أقضي فيه حاجتي. فقمت ذات ليلة لأبول، فخرج مني صوت! فتشدّدت وتماسكت، وعدت مرة أخرى، فخرج مني صوت آخر! فأويت إلى فراشي، وهتف بزوجي: يا أم الخيار هل سمعت شيئاً؟ فقالت: لا، ولا واحدة منهما!

فضحك هشام وأمر له بصلة

ومن نوادره المضحكة المبكية: أن ورد على هشام في الشعراء، فقال لهم: صفوا لي إبلاً، فقطروها وأوردوها وأصدروها، حتى كأني أنظر إليها

فأنشده الشعراء وانشده أبو النجم أرجوزته التي مر ذكرها:

(الحمد لله العلي الأجلل)

وهشام يصفق بيديه استحساناً لها! ومضى أبو النجم في إنشاده غلى أن بلغ قوله في وصف الشمس:

حتى إذا الشمس جلاها المجتلي ... بين سِمَاطيْ شفق مرعَبل

صَغواء قد كادت ولما تفعل ... فهي على الأفق. . . . . . . . .

كان تمام البيت: كعين الأحول

وهنا تذكر أبو النجم - بعد فوات الأوان - أن هشاماً احول! فامتُقع لونه، وتخاذلت أوصاله، وجمد لسانه في فمه!

وأراد أن يغير البيت فخذله شيطانه! وحار في أمره فأطرق واجماً!

ولم يفطن هشام للسبب، فضجر وصاح به: أجز! فلم يسع أبا النجم إلا أن يصدع بالأمر فقال:

كعين الأحول!

نطق بها كحشرجة المحتَضر! والقافية (تعذر)

وكان هشام - على عقله وكيْس - فظاً غليظاً خشناً!

فاستشاط غضباً! وأمر بوجْء عنقه! فتبادر إليه الخدم يدفعون في قفاه! حتى خرج من المجلس وهو لا يصدّق بالنجاة!

ولم يكتف هشام بذلك، فأمر الربيع صاحب شرطته ألا يريه وجه أبي النجم بعد هذا! وأن ينفيه من الرصافة!

ولكن وجوه الناس شفعوا له عند الربيع، فأقرّه فيها ولم يكن أحد يُضيف في الرصافة، غير سليم بم كيسان الكلبي، وعمر بن بسطام التغلبي؛ فكان يتغدى عند سليم، ويتمشى عند عمر! ويؤم المسجد ليلاً فيبيت فيه!

(البقية في العدد الآتي)

علي الجندي