مجلة الرسالة/العدد 353/الأدب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 353/الأدب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1940



الربيع

أَيَّامُهُ كالغِيدِ، نَضَّرَها ... تَرَفُ الصِّبا وَغَضَارةُ الحبِّ

زُهْرُ نَوَاعِمُ في نَضَارَتِها ... سَحْرُ الحَياةِ وَفِتْنَةُ القَلْبِ

تَمْشي بأَنْفَاسٍ مُعَطَّرَةٍ ... تُحْيي بِرَيَّا الحُبِّ أَوْ تَسْبي

تَنْسَابُ في الصَّبَوَاتِ عَاِبثَةً ... عَبَثَ الدَّلاَلِ بِرِقَّةِ العَتْبِ

وَتَدَبُّ في الأرْوَاحِ نَشْوَتُها ... هَفَّافةً، نَفَحَاتُها تُصْبِي

عَطرُ الحَبِيبِ عَلَى نَسَائمَهاَ ... يُذْكِى غَرامَ الهائمِ انصَّبِّ

تُدْنِى إِلَيْهِ خَيَالَ مَمتَنَعِ ... بالدَّلَِ، مُبْتَعِدٍ عَلَى القُرْبِ

وَتُرِيحُ أَشْوَاقاً مُعَذّبةً ... ظَمْآي، بلَذَّةِ مَنْهَلٍٍ عَذْبِ

هّذّا رّبيعُ النَّاسِ، واحَزَني، ... وَرَبيعِيَ الأشْوَاكُ في قَلْبِي!

أَغْضَي شَبابي في مُلاَوَتِهِ ... كالشَّيْخِ تَحْتَ عَمائمِ الشَّيْبِ

وَدَلفْتُ بالأيَّام مُتَّئِداً ... حُمْلْتُها خَطْباً عَلَى خَطْبِ

أَمْشِي بأفْكاَرٍ مُحيَّرَةٍ ... بالشَّوْقِ آوِئةً وبالرُّعْبِ

هَذَا شَبَابي، سَائرٌ أَبَداً ... برَبيِعِه في مْقْفِرٍ جَذْبِ

أَحْيَا الشَّبابَ رَبِيعُ حُبِّهمُ ... - نَعِمُوا بِهِ - وَأَمَاتَنِي حُبِّي!

(شاكر)

الرأي العام

كتب الأستاذ (الزيات) في العددين الماضيين من الرسالة كلمتين جليلتين، إحداهما عن (التبشير) والأخرى عن (فقهاء بيزنطة): أي فقهاؤنا وعلماؤنا. وهما تنزعان جميعاً إلى بيان أصل واحد، وهذا الأصلُ هو غفلتُنا وإمهالنا، ثم غثاثة آرائنا وضآلتُها؛ وهذه مردّها إلى عِلل كثيرة قد توغَّل داؤها في أعصاب الأمم الإسلامية، حتى صار الدواء لها باطلاً أو كالباطل، وذلك لغلبة الجهل علينا، وفي الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أمٌ ولودٌ كل أبناءها أباطيل، ومنْ طلب علاج الأباطيل وتِرك أمهاته تَلدِ، فقد جعل علاجَه باطل الأباطيل

وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرض وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المستغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدّبرة، فعرفت صيدها وقالت له: أعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزّق الظُّلَلَ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاع الوحش المجوّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمٍلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأي أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى. فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفاً يكفل لهم معها أمرين:

الأول التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوا أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشئوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهدة كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقرون أصولاً تؤدي بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهدة جيلاً يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل؛ ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع

والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم - بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك - في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام - أي أهله - عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية؛ وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيداً يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر

وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين - حين استيقظنا وأبصرنا - أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة؛ فاستشَرى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملاً حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوار بعد أطوار ولا نزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عاماً بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير ولوضع وحَضَانة المذكرات!!

وكذلك احتل نظام الرأي العام، وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضاً مكوَّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في ذلك منزلتها، فتكَون من الصحف المختلفة المبادئ آراء متخالفة، لا بل متباعدة، لا بل متعادية؛ كلا بل هي في الواقع لا تمس جوهر حياة الشعب العامل المستَهلك في الزراعة والصناعة والجهْل أيضاً. . . وحتى لا نجد صحيفة واحدة قد بَنَتْ دعوتها على أصولٍ بينة موافقة لحاجة هذا الشعب، وعلى هذه الأصول تأخذ وتدع، وتحبذ وتنقد، وتهدم وتبني، على تعاقب السنين وتغير الظروف والأحوال

التبشير

وأحدُ الأمورِ التي ابتُغىَ بها العملُ على إضعافِ الشعب والتفريق بين أهله، وإيجادُ ضروب من الثقافات في بلد واحد يجب وجوباً قطعياً - كما يقولون - أن تتوحد ثقافته - هو ما اتخذوه من التبشير ومدارسه المختلفة، وما يبطن أصحابها وما يظهرون. وليس التبشير هو الدعوة الصريحة إلى الدين المسيحي، فإن هذا لا يمكن أن يكون في بلد جل أهله من المسلمين، وخروج المسلم من دين الإسلام إلى دين غيره يكاد يكون مستحيلاً في العامة من الشعب، ويكاد لا يصح عند المتعلمين وأشباه المتعلمين. وهذه حقيقة يعرفها المبشرون قبل أن يعرفها المسلمون، وإذن فليس الغرضُ من التبشير هو المفهوم من لفظه، ولكنه الذي أشار إليه الأستاذ (الزيات) في مقاله، ثم إيجاد ضرب من الثقافة الأدبية والخلقية والعقلية يناقض ضروباً أخرى من الثقافات المختلفة في مدارس الأجانب والمدارس الوطنية، وبذلك تتعدَّد المناهج الفكرية في حياة الشعب، ويعسر بعد ذلك أن تتحد هذه الثقافات على رأي عام يقوم عليه الشعب ويحرص على تنفيذه، ويأخذ في الإعداد للوصول إليه درجة بعد درجة. وكذلك يبقي الشعب إلى النهاية وهو بدء لا ينتهي وفي اختلاف لا ينفضُّ، بل يصير ولابد إلى المعاداة والمنابذة والأحقاد التي تورثها السياسة الاجتماعية الخفية التي طغت على الشرق من قِبَل حضارة قوية باهرة عظيمة كالحضارة الأوربية

ولا يزال أهل الشرق مختلفين ما بقيت هذه الثقافات المتعددة من مدارس التبشير إلى المدارس الإلزامية، تمد الرأي العام بأصحاب الآراء المختلفة والعقول المتباينة. ولن يصلح أمر هذا الشعب حتى يناهض ذلك كله بانصرافه إلى مدارسه ابتغاء توحيد ثقافته على أصل واحد. والأصل الضعيف الموحد في ثقافة الشعب خير وأنفع من الأصول المتعددة القوية، لأن هذه تغري بالتفرقة والعداء، وذلك يؤلف ويوفق ويضم أشتاتاَ ويقيم القلوب على الإخلاص والتفاهم

فقهاء بيزنطة

وهذا مثل جيد ضربه الأستاذ الزيات لاختلاف عامة المسلمين على بعض أحكام الفقه الإسلامي والسنة النبوية، وبغي بعضهم على بعض في ذلك، وتركهم الأصول الإسلامية التي ترفع المسلم إنسانية فوق إنسانية، وتمحِّصه من الجهل والضعف والفساد والذلة. وكيف يختلف علماء المسلمين على فروع من دينهم ويدعون الأصل لا ينفذ نوره إلى قلوب هذه الملايين من المسلمين، فيطهر أدرانها ويزيل غشاوة العمى التي ضرب عليهم أسدادها.

وضرب الله مثلاً فقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

فقد بين الله سبحانه أن اختلاف من سبقنا لم يكن إلا بغياً من بعد أن جاءهم العلم، وأنه جعل المسلمين على شريعة من الأمر وحق ذلك ألا يقع الاختلاف بين المسلمين إلا في رأي لا يفضي إلى فرقة، وعلى ذلك كان السلف من أصحاب رسول الله فاتبعوا قوله: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقد نهى عن الجدل والمراء وتناهي أصحابه عنه حتى قال ابن عمر: (لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو مُحِقّ)

ونحن قد صرنا الآن إلى زمن قد غلبت فيه بدع كثيرة ليست من الدين ولا تنزع إليه، ولكنها من محدثات الأمم وفتن الأهواء. ونحن أيضاً في زمان ضعف وقلة وتفرق، والأمم من حولنا تتباغى على أنفسها وعلينا، فما يكون اختلافنا على البدع والمحدثات وبغي بعضنا على بعض، ومصير ذلك كله إلى العداوة والبغضاء وأن يكفر بعضنا بعضاً - إلا إعانة لهؤلاء على النيل منا ما شاءوا. ثم نحن في زمان جهل بالدين، فليس من أمر الله أن ندع أصل الدين مجهولاً، وننصرف إلى فروع نحاول على إبطالها أو تحقيقها

وقد روي البخاري: (قال رسول الله اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)، فإذا كان من سنة رسول الله أن يحسم أصل الخلاف بترك مجلس الخلاف في القرآن وهو أصل الإسلام كله، فأولى أن نقوم عن مجلس الخلاف في فروع وسنن، لئلا يفضي ذلك إلى مثل الذي نراه بيننا اليوم من التعاند على بعض السنن بالعداوة، حتى صار لكل صاحب رأي فريق يحامي دونه ويعادي عليه، ثم يقع بعضهم فيما هو أشد نكراً من أصل الخلاف، ألا وهي الغيبة والتفريق بين المسلمين

سياسة الإسلام

والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة، وجعل المسلمين يداً على من سواهم، وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى، وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي، كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام

والإسلام في أصله أيضاً لا يعرف من نسميهم اليوم (رجال الدين) فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل، كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي. وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملاً من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة، وإلا فهو شرٌ كبيرٌ يجب على المسلمين أن يحسموا أصله

فإذا استقرَّ البناءُ الاجتماعي للأُمم الإسلامية على أصولِ الإيمان المُبِصر والتقوى الهادية، وتبرأت النفس والقلوبُ من غوائل الضعف والذّلةِ والخُضوع، وقام على الأمم الإسلامية قرآنُها يَهديها، ويُهذِّبُ شُعوبها، ويرقِّق أفئدتها لدين الله، ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد، ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي، ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعاً بريئاً من فتن الغواية ومحدثات الشر، ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها، - إذا كان ذلك كله - فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقي من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس وإذن فأجدرُ العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عاماً سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام. . . وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد

محمود محمد شاكر