مجلة الرسالة/العدد 353/خواطر يثيرها سائل

مجلة الرسالة/العدد 353/خواطر يثيرها سائل

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1940


للأستاذ عبد المنعم خلاف

إلى السائل المجهول في بيروت

أحسب أن ما عندك من العلم والرأي كفيل أن يردك إلى الاطمئنان متى حرصت على أن ترى دائماً بدهيات الحياة ولا تنساها، وعلى ألا تترك النظرات الفلسفية الشاردة تقودك إلى الخروج عن حدود الواقع العملي الذي لا نرى غيره في الحياة متسلطاً على عقول الناس.

إن النظرات الأولية للحياة، هي التي تفرض علينا الإيمان، فإذا جاوزناها، لابد أن يكون لنا من القدرة على الرجوع إليها ما يضمن لنا الاعتصام بصخرة النجاة والطمأنينة على الحياة وقيمتنا فيها.

وينبغي لرجل الفكر أن يتذكر دائماً أن إنكار وجود الله، أو القيمة السامية لحياة الإنسان هنا، أو المصير السامي لحياته الأخرى هناك: معناه تخبيل العقل وتشريده. ولئن كان في الإثبات بعض الإشكال عند من لم يتصل بأصول الحياة، ففي الإنكار كل الإشكال.

وأمامك فرصة من التسامح المطلق لتوازن بين فكرتي الإثبات والإنكار؛ وأنت مجرد من أي تأثير نحو إحداهما، لترى النتائج العملية لكل منهما.

وعلى هذا، هب أن كل ما في نفسك من الإيمان تحول إلى كفر ونكران، وكل ما في خلقك من البراءة والطهر تحول إلى نجس وعهر؛ أفتتخيل أنك واجد الطمأنينة والسعادة ووضوح الحياة بعد هذا التحول؟ لا شك أن مثلك يجيب: كلا. . . ذلك لأن الكفر المبني على فكر، ليس معه طمأنينة ولا استقرار على شيء، بل هو في ذاته كل القلق وكل الضياع الذي يجعل الإنسان في الحياة كطائر في قفص يرى قضبانه محكمة متينة، ومع ذلك يطفر ويحاول تحطيمها والانطلاق منها، وليس له على ذلك طاقة، (ولن نُعجزَهُ هرَباً).

فالإيمان ضرورة فكرية للراحة في الحياة قبل أن يكون تقليداً موروثاً عن الأم والأب والبيئة. ثم إن حياة الإثم والانطلاق وراء الشهوات والآثام ليست مبعث سعادة عند ذوي الأفكار ولا عند الأغرار والسفهاء أنفسهم. واسألهم ينبئوك أنها ظمأ لا يرتوي. دع عنك عقابيلها من الأوجاع والضياع؛ ولا يمكن للجماعة أن تقرها، لا لأن الدين ينهي عنها بل لأن حياة الاجتماع تأباها وتعلن الحرب عليها بعد أن اختبرت نتائجها السيئة فالدين لم ينزل بالفضيلة من المساء، وإنما الاجتماع الإنساني هو الذي قررها. ثم جاء الوحي فأقرها، لأن الحسن والقبح عقليان يدركان بالعقل قبل الوحي، ولذلك عبر القرآن عن الحسن والقبيح (بالمعروف) و (المنكر) أي ما يتعارفه الناس، وما ينكرونه بطبائعهم العامة وأذواقهم المشتركة

ثم الواقع أن الخير الشخصي جزاؤه فيه والشر الشخصي جزاؤه فيه في هذه الدنيا قبل الآخرة. وكذلك الخير الاجتماعي والشر الاجتماعي جزاؤهما معهما في هذه الحياة إذا ما كان المجتمع حارساً متيقظاً لحقوقه وواجباته

هذا دفاع سلبي عن فكرة الإيمان بالله وفكرة الخير كأصل من أصول الحياة الاجتماعية. وقد سبق لي في العام الماضي أن كتبت في هذه المجلة سلسلة مقالات في الإيمان كحقيقة من الحقائق العليا في الحياة، وعرضت فيها لكثير من القضايا والشبه التي تشغل بالك وأوردتها في كتابك الأخير إليّ، فأرجو أن ترجع إليها فلعل ما فيها وما أنا بسبيله الآن يقع من قلبك الموقع المأمول

إن الذي عناني أكثر من غيره مما أوردته في كتابك هو شكك في القيمة السامية للإنسان ومحاولتك أن تجعل حياته كحياة النبات والحيوان والحشرات: ليست أكثر من ظواهر طبيعية ودورات أبدية تأنى بها أيام وتذهب بها أيام

ومعرفة قيمة الإنسان هي في رأيي أول المعاني الدينية؛ لأن الذي يذهل عن قيمة حياة الإنسان لا يمكن أن يتيقظ لشيء آخر. فلن يفكر في الكون ولا خالقه. فالذي لا يسترعي انتباهه هذا الجسم المتحرك المريد الناطق المتنوع الفكر لا يمكن أن يتنبه للصمت المطلق والسكون المطلق والاطراد المطلق في الطبيعة. ودع ما وراءها من العالم الخفي الذي لا يناله الإنسان بالحواس. . .

وأسألك: هل رأيت نوعاً آخر متسلطاً على الأرض بغير أوضاعها ويتصرف في موادها ويسخر قواها وينقح الطبيعة، يزيد فيها وينقص منها، متنوع المرافق متجدد الأفكار، له حياة فكرية وقلبية تكاد تكون لا حدود لمظاهرها؟

وهل رأيت غير الإنسان اخترع شيئاً يزيد عن ضرورات حفظ حياته؟ هل رأيته يكتب تاريخه أو يتطلع لمستقبله، أو يركب آلات معقدة، أو يغني أغاني مُفّنَّنَة، أو يستخرج أصواتاً موسيقية من الجلد والخشب والمعادن، أو يقيم أهراماً وعمارات ذات أرصاد وأوضاع محبوكة وفنون بارعة؟

وهل رأيت نوعاً آخر اخترع طيارة وسيارة وراديو وتلغراف وتليفون وتلفزيون وغيرها وغيرها مما يصيد به الأصوات ويقتنص الأضواء والمسافات؟

ثم هل رأيت نوعاً آخر يسكر (ويحشش) ويدخن (ويشم) ويقامر ويقيم مهازل ومساخر بذكاء ومهارة؟ هل رأيت غيره يزارع ويتاجر ويضارب بعمليات اقتصادية معقدة غاية التعقيد؟

هل رأيت غيره يحارب بآلات كلها إبداع وبراعة تكاد تجعلها عند المتطلعين لما يولد في الكون من عجائب والمتوسمين لما في حياة الإنسان من بدع، فرجة من فرج القلوب تعلى شأن الحروب؟!

تخيل جميع الأساطيل الجوية والبحرية وجميع الجيوش البرية انطلقت في الجو والبحر والبر، يعبئها ويزجيها وينسقها الإنسان ذو الجمجمة العجيبة. . . تملأ الأثير بلمعات فكره وومضات خواطره لتعلم أيُّ فن إلهي هذا الإنسان المخلوق من ماء مهين!

تخيل مدينة عظيمة كنيويورك أو لندن أو برلين أو القاهرة بما فيها من فنون الحياة والأفكار والشعور. وما يغمرها من الأضواء والألوان وما يضطرب في أحشائها من المصانع والمعاهد والمعابد، وما يثوي فيها من دور الكتب والآثار ومخازن التحف وأدوات الجمال، وما تسيل به شوارعها من وسائل الأنتقال، وما تضج به من الأصوات والمقالات والخطب والأسمار ولأحاديث، وما يتوزع فيها من الأعمال والأموال والحرف تخيّل هذا ثم قل: هل رأيت في الحياة منذ دخولك إليها نوعاً غير الإنسان يقيم أسواقاً للحياة مثل هذه الأسواق؟ ثم هل رأيت نوعاً آخر يعلو بالحياة حتى يأتي في علوه بالعجب العجاب. . . ويسفل بها حتى يأتي في السفالة بالعجب العجاب؟. . . وهل رأيت نوعاً آخر يتفنن في وسائل متاعه هذا التفنن الذي تراه في السينما والمسرح ومخازن الملابس والفرش وأدوات الزينة؟. هل رأيت. . وهل رأيت؟

وأخيراً هل رأيت نوعاً آخر يترقى في سلم الحياة باطراد وخطى ثابتة وقياس متناسب بعد أن أتى عليه (حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) كما قال القرآن؟ فكيف بعد هذا تسوي بين قيمة هذا الإنسان أبي العجائب وبين قيم النبات والحيوان، وتريد أن تسلكه في سلك الفناء المطلق الذي يأتي على أجسامها وأرواحها بدون مآل أسمى ومصير أكمل؟!

وكيف تريد أن تضرب عليه ما ضربته عليها من الأحكام المنحطة وتحشر أفراده في مليارات أفراد الحيوان والحشرات التي تعيش على العشب والجيف والروث والعفونات؟!

إني لأستعرض تنوع حياة الأمم والأفراد وأتصفح الوجوه والنفوس، وأسمع حديث الأطفال والعجائز والنساك والفتاك والفقراء والأغنياء والعلماء والجهلاء والذكور والإناث. . . فأجدني بعد هذا الاستعراض في دوار من الفكر!

وإني لأخرج بعد هذا الاستعراض وأنا أشعر كان لابد أيضاً في الأرض مما نسميه الشر والضلال ليدوم ظهور أسرار التكوين!

إن الإنسان خلق ليكون أشبه بمِجْهَزٍ تمر من خلاله الطبيعة الأرضية بخصائصها التي كانت (غَيْباً) مستوراً قبل ظهور هذا النوع. فكل شيء في الطبيعة الأرضية كان لابد أن يمر من حواس هذا النوع وفكره ليأخذ حدوده ومميزاته ويرمز إليه بكلمة بيانية يضعها خليفة الله في الأرض. . .

وإذا صح ما أثبته علم تحليل ضوء العناصر من أن العناصر التي في النجوم والكواكب هي بعينها العناصر التي في الأرض كان في هذا زيادة في النظر لقيمة الإنسان كمترجم أيضاً ومحدد لعناصر الطبيعة في غير الأرض. . .

إن شئت فقل إن الإنسان آلة في يد الخالق يتمم بها التنويع والتفريع والتركيب في خلق المادة الميتة الجامدة وتصويرها وصقلها وتزويقها وتوشيعها حتى تصل إلى الدقة المتناهية في تركيب تروس الآلات ومساميرها الصغيرة، وإلى الزركشة والنمنمة و (المونوكير) في ثياب المرأة وأظافيرها! وعندئذ يكون الإنسان امتداداً لعوامل التكوين والإنشاء والتعمير التي في يد الله. . . يكون إزميلاً في يد الفنان الأعظم، وريشة بين إصبعيه يشكل بهما المادة أشكالاً ويملؤها بهما تزاويق وتهاويل!

وإن شئت فقل: إنه (مِجْهر) يلتقط آثار الصنع العظيم في المواد (الخام) فتتساقط على عينه أنوارها وظلماتها وعلى سمعه نغماتها وأصواتها، وعلى خياشيمه عطورها ونفحاتها، وعلى ملامسه نعوماتها وخشوناتها، ويقع على إحساسه العام ثقل المادة وصعق الكهرباء وشد الجاذبية، ويمر على فكره معاني الوجود ومعاني العدم. . . . ثم يترجم كل هذه الكلمات الصامتة بكلمات ناطقة من بيانه الذي اختصه به بارئ الطبيعة. . .

إن رب الطبيعة أراد أن يترجم هذا الطين الذي سواه بيديه ونفخ فيه من روحه بعض كلماته الصامتة في أسرار التكوين والخلقة، وكانت قبل الإنسان غيباً في السموات والأرض لا يعلمها أحد غيره حتى الملائكة

ولذلك كان العلم بأسرار الطبيعة أشرف عبادات هذا النوع ما دام متوجهاً فيه إلى رب الحياة ومتعرفاً إليه به. أما الملائكة فعبادتهم طاعة عمياء ليس لهم على غيرها طاقة

واقرأ إن شئت بعد هذا قصة خلق الإنسان في القرآن لترى منها العجب الذي رأيناه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيه من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعَلْم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكة. فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانَك لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أْنِبئْهُم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلمُ غَيْبَ السموات والأرض وأعلمُ ما تُبدُون وما كنتم تكتمون؟)

وأرجو أن تقف طويلاً أمام قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) رداً على سؤال الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. . .) لتعلم أن الله نظر نظرة سماح واغتفار لما تستلزمه حياة الإنسان في مجموعه بالجسم الحيواني من بعض الآثام والشرور، إذ علم ما وراء فتوح الإنسان في (غيب السموات والأرض) من آثار علمية ترجح على ما يرتكبه من شرور. . .

فلا يهولنك ما تراه من الجريمة والفساد والأوباء والنكبات التي تحتاج حياة لإنسان. . . فإن الذي خلق هذا النوع متيقظ له دائم الرعاية عليه يسوقه في طريق مرسوم حتى يبلغ غايته برغم كل ما نسميه الشر والفساد لأن الشر والفساد والباطل ما خلقه إلا للحق والصلاح. . . فلولا الأمراض ما ظهرت علوم الطب التي كشفت لنا عن ملايين من عوالم الجراثيم. . . وكانت حياتها مستوردة في (غيب السموات والأرض). . . ولولا الحروب، والجرائم ما ظهرت أدوات الانتقال السريع، واختزال المسافات وما تنافس الناس على استخراج ما في المناجم من الركاز. . . وكان كل ذلك (غيباً) محجوباً في الأرض. . . ولولا الغرائز السفلى كالطمع والجشع والأنانية ما رأيت في الأرض هذه الحياة العنيفة الحركات في التعمير والاقتناء والتسابق على كشف بقاع الأرض المجهولة وإظهار عيوبها، وإقامة الحياة العلمية المتحضرة فيها

ولولا البأس الشديد في الحديد والنار ما تكونت الإمبراطوريات الواسعة التي ربطت بين كثير من أمم الأرض برباط التفاهم والحب والخدمة المشتركة. . . وما ابتدأت البشرية الآن تفكر في جامعة عامة لجميع الشعوب والأمم تجمعها على حدود العدالة والسلامة الإجتماعية، وخدمة العلم خدمة مشتركة، وتقيها من شرور التدمير والتخريب وما تتجه الحروب

ونظرة إلى تاريخ البشرية ترينا التقدم المطرد في سبيل التجميع والتوحيد. فقد كان الإنسان فرداً ثم صار أسرة ثم صار قبيلة ثم صار أمة ثم صار إمبراطورية وولايات متحدة ثم بدأ يصير (جامعة أمم) ولا بد من ذلك في يوم ما قريباً كان أم بعيداً. والشر هو الذي يدفع دائماً إلى الجهاد للخير. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) فإن الأرواح لا تقوى إلا بالمجاهدة كما أن الأجسام لا تقوى عضلاتها إلا بالمقاومة. فلا تذهبن من نفسك قداسة الإنسان فإنه الابن البكر للأرض يعمر ديارها ويستقبل ليلها ونهارها

وقد كان يجوز الشك في قيمة الإنسان السامية أيام الجهل والغفلة والحيرة قبل عثوره على مفاتيح العلوم الطبيعية وابتدائه فتح أبوابها باباً فباباً. . . أما الآن بعد أن تيقظ الإنسان لحياته وابتدأت الأرض والسماء تحدثه أخبارها وتوضحت أمامه معالم طريق الحياة؛ فلن يرضي لنفسه الارتداد ولن يجوز الشك في قدسيته وامتيازه

وإن قيادته إلى الله رب الطبيعة قد صارت الآن من أسهل الأمور لأن العلم قد ألقي كثيراً من أشعته على مواقع يد الله في الطبيعة وعلى كثير من الأبواب التي توصل إليه. . .

ولكن كثيرين جداً من الذين يحترفون قيادة الأرواح أغبياء محدودون عميان. . . فكيف يقودون في طريق مملوءة بكثير من جثث الخرافات والأباطيل التي لصقت بالدين في زمن الجهل والظلام، والتي صرعها العلم الواضح والعقل الطلق المستنير؟! (القاهرة)

عبد المنعم خلاف