مجلة الرسالة/العدد 353/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 353/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1940



في بيوت النمل

للأستاذ أحمد علي الشحات

ما من حشرة أكثر انتشاراً على سطح المعمورة من النملة، وقد يبدو عجيباً أن تستطيع هذه الحشرة الصغيرة أن تهيئ نفسها للأجواء والبيئات المختلفة؛ فكما أنها تعيش في أوربا تعيش كذلك في أفريقية - وفي الجبال والأودية، وفي الغابات والصحارى، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات. وقد أحصى العلماء ستة آلاف نوع من النمل تختلف في الحجم والشكل والعادات واللون، فمنها ما لا يزيد طولها عن ملليمتر ومنها ما يصل طولها إلى بوصة. ومنها الأسود والأحمر والبني والأصفر والأخضر وما تضاربت وجهات نظر العلماء كما تضاربت في تعليل عادات النمل ونشاطه وهل مصدرها التفكير أم الغريزة؟

والنملة في الاجتهاد والمثابرة يضرب بها المثل. فمن الهزيع الأخير من الليل إلى غروب الشمس تظل دائبة على العمل في نقل غذائها وتخزينه، أو بناء مأوى لها، وتستطيع أن تحمل ما يزيد على أضعاف وزنها من المواد، فقد أجرى العالم فوريل بعض التجارب فوجد أن النملة تستطيع أن تحمل ما يفوق وزنها ستين مرة.

وقد درس فرولوف وهو عالم روسي يشتغل بدراسة الأحياء بعض عادات النمل، فأتى بصندوق ونزوع أحد جوانبه واستعاض عنه بلوح زجاجي شفاف حتى يشاهد منه حركات النمل، ونزع كذلك السطح العلوي ليدخل الهواء منه إلى الصندوق، ولكنه وضع نسيجاً شفافاً مكانه حتى لا يهرب منه النمل، وسد ما قد يكون من ثغرات دقيقة بمعجون ليضمن عدم خروج النمل، ووضع أمام اللوح الزجاجي ستاراً ليحجب الضوء عنه - وبمجراف ودلو أخذ جزءاً من كوم طبيعي صغير للنم - بما احتواه منه ومن بيض وبقايا نباتات، وما يكون قد وجد فيه غير ذلك - من غابة تبعد ثمانين ياردة عن معمله ووضعه في الصندوق. فلما استعاد النمل هدوءه بعد نقله من موطنه الطبيعي بدأ نشاطه وأخذ ينظم بيته الجديد فخصص مكاناً أميناً للبيض ونقله بعناية إليه، وأقام مما حوله بيتاً منظماً ذا غرف عديدة، وفتحات للدخول وأخرى للخروج، وردهات يجتمع فيها. وظل النمل يومين كاملين يشتغل في موطنه الجديد كأن قد طاب له المقام فيه، حتى إذا ما أقبل الصباح الثالث ورفع العالِ الستار ليرى النمل، فلشد ما كانت دهشته حين وجد أن ما قد أقامه النمل وتعب في تنظيمه قد دك دكاً، وأن البيت الجديد قد هدمت قواعده فتطرق إلى ذهنه أنه لظروف ما غير ملائمة قد مات النمل ففتح الصندوق ولكن كانت دهشته أعظم حين لم يعثر على نملة واحدة أو بيضة واحدة رغم ما قد اتخذه من احتياطات تكفل له عدم هروب النمل فعاد إلى الكوم الصغير ثانية، فوجد أنه قد أعيد بناؤه ولو أنه لم يبلغ في ارتفاعه ما كان عليه أولاً، فأخذ منه كمية أخرى، وزيادة في الاحتياط طلى ظهر أغلب النمل المأخوذ بلون أحمر ونقله إلى الصندوق فبدأ النمل يعيد سيرته الأولى في البناء والتنظيم ليومين متتالين، إلى أن كل الصباح الثالث فوجد كما وجد في مثيله. البيت تهدم والنمل لا أثر له وكذا البيض، فعاد إلى الكوم الصغير فتملكه العجب أن وجد هناك النمل المطلي على ظهره قد عاد أغلبه إليه؟ أما الباقي فربما كان قد وصل إلى الكوم ثم خرج يبحث عن غذاء، أو قد علك في الطريق، أو لم يصل بعد إلى الكوم، ووجد بعد بحث دقيق بعدسة مكبرة أن النمل قد أحدث ثغرة دقيقة في النسيج الشفاف الذي يقوم مقام السطح العلوي للصندوق ومنها هرب

ولكن كيف اهتدى النمل إلى بيته الأول مع أنه يبعد ثمانين ياردة عن الصندوق وقد حمل حملاً في دلو حين نقل إليه؟ وكذلك ما الذي جعله على عزم أكيد للعودة إلى بيته الطبيعي؟ ففي مرتين يهرب، وكذلك لم حمل البيض معه؟ وإذا كان النمل قد عزم على العودة، فلم كان يشقى كل مرة ويجد في بناء البيت الجديد ثم يهجره بعد بنائه؟ أغلب الظن أن النمل لم يفكر في مثل هذه الأمور، ولكنها الغرائز هي التي دفعته إلى تنظيم موطنه الجديد، وهي التي دفعته إلى الحنين إلى بيته الأول، وهي التي دفعته إلى حمل البيض حفظاً على النوع

ويعيش النمل في جماعات تتكاتف أفرادها في عمل ما ينفعهم كبناء بيت، أو الحصول على زاد وتخزينه، كما تتكاتف في دفع الضر كمهاجمة عدو، فتشتبك الجماعات في معركة يستعر أوارها بسبب القوت غالباً، إذ تتنافس جماعتان في الحصول عليه، فتشتبكان في الملحمة، ومن انتهت رأيت مكان الموقعة، وقد تناثرت عليه أشلاء القتلى، فمن أرجل مبتورة إلى رؤوس مقطوعة إلى أجسام ممزقة. وكثيراً ما تشاهد هذه الظاهرة في النمل الأبيض الذي يعيش في أمريكا. وقد يندفع الفريق الغالب نحو بيت المغلوب ويلتهم البيض. وما العجيب أن الفريق المغلوب قد يتجه نحو بيضه ويشاطر الغالب التهامه بعد أم كان يحرص عليه حرصاً شديداً

ويختزن النمل غذاء كافياً ليستهلكه في الشتاء، إلا أنه في بيوت بعض الأجناس لم يعثر العلماء على غذاء مخزون للشتاء، كما أن مثل هذا النمل لا يخرج شتاءً للبحث عن غذاء له. وبعد بحث وجدوا أن مثل هذا النمل يكون شتاء في حالة ركود أشبه ما تكون بالنوم. فلا يحتاج في هذه الفترة إلى قوت، حتى إذا لاحت تباشير الدفء في الجو بإقبال الربيع خرج يسعى لرزقه.

وقد توجد حشرات أخرى تشاطر النمل مسكنه وغذاءه، وقد أحصى العلماء خمسمائة حشرة مختلفة تعيش معه نظير أن تقوم ببعض الخدمات كتنظيف البيت، أو إعطاء بعض لإفرازات من جسمها حلوة الطعم كالتي يمنحها إياه بعض أنواع القمل، إذ تضغط النملة بقرني الاستشعار على مؤخر جسم القملة، فيخرج سئل تمتصه. إلا أن بعض الحشرات قد لا ترعى أصول الضيافة وتلتهم الغذاء المخزون للشتاء، عندئذ ينتقض النمل عليها يطاردها وقد يلتهمها

وللنمل أعداء كثيرة أشهرها: (آكل النمل الذي يستطيع أن يبتلع الآلاف منه دفعة واحدة رغم ما يخرج من جسم النمل في فم آكله من سائل حمضي هو حامض النمليك. ويمكن استحضار هذا الحامض كيميائياً من جسم النمل بالتقطير

ويتعهد النمل إحدى يرقاته الصغيرة حين تخرج من البيضة بغذاء خاص حلو الطعم يعرف بالغذاء الملكي. وتصبح هذه اليرقة فيما بعد ملكة على النمل، وهي وحدها القادرة على وضع البيض؛ أما اليرقات التي لا تطعم هذا الغذاء فتصبح ما يسمى (الشغالة) وظيفتها استحضار الغذاء والتنظيف ومهاجمة العدو؛ ولكن لا تستطيع أن تضع بيضاً

وللنمل في سبيل المحافظة على النوع مشاهد عجيبة، فقد أخذ العالم (لوبوك) يوماً نملة من كوم صغير النمل ومعها مئات من البيض ووضعها جميعاً في كأس صغيرة، فما كان من النملة إلا أن استمرت طيلة اليوم ترجع واحدة ثم واحدة من البيض إلى الكوم وقد أخذت هذا العمل المضني على عاتقها بدون مساعدة، حتى أفرغت وحدها الكأس كلها

أحمد علي الشحات

بكالوريوس العلوم ودرجة الشرف