مجلة الرسالة/العدد 354/الأدب في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 354/الأدب في أسبوع
نقد
كتب الأخ الفاضل الأستاذ سلامه موسى في مجلة اللطائف (8 إبريل سنة 1940) كلمة يتعقب بها كلامنا في (الفن الفرعوني، وتمثال نهضة مصر) المنشور في عدد الرسالة 345 في 12 فبراير سنة 1940 وجعل عنوان نقده (تعارض التيارات الفكرية، وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي) وسنلخص لك نقده ثم نتبعه ببعض ما يجب علينا من تحرير رأينا، وتقدير رأي الأستاذ الفاضل، يقول: إن الأفكار تتعارض في كل أمة حرة ولكنه لا يخرج بها عن أسلوب الحياة العامة من التوافق إلى التناقض والتنافر، فيفضي ذلك إلى اختلال التوازن الاجتماعي، فيعتاقُ الأمة عن الرقيّ والإصلاح. ويقول: إن بعض الآراء في مصر ليتناقض كما يكون التناقض بين أمتين متخالفتين، وإن (العقلية المصرية) التي تفكر بها مصر في أنظمتها الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتعليمية، والحربية: هي ضرورة الوضع الجغرافي والاحتكاك السياسي بأوربا، وإننا لا نعيش فقط في القرن العشرين، بل في سنة 1940 من هذا القرن. ويقول ما نصه:
(ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا الاختلاف الذي يقارب التنافر. فقد ألَّفَ الدكتور طه حسين بك كتاباً يدعو فيه إلى أن نجعل من الفن الفرعوني أحد العناصر في (الغذاء الروحي والعقلي للشباب) فتناول هذه الدعوة الأستاذ محمود محمد شاكر بالاستنكار حتى قال في مقاله بالرسالة: وعلى ذلك، فيحب أن نقرر أن الفن المصري الفرعوني - على دقته، وروعته، وجبروته - إن هو إلا فنٌّ وثنيٌّ جاهلي قائم على التهاويل، والأساطير، والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرَّة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية - سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أم إسلامياً أم غير ذلك من أشباه الأديان). . . ثم استمر فنقل بعض رأينا في الذي قلناه عن تمثال نهضة مصر
وهذا تعارض عجيب، كما يرى الأستاذ سلامه موسى، واختلاف في التيارات الفكرية يحمله على أن يدعو الاجتماعيين أن يحاولوا التوفيق بين هذه الآراء حتى لا يصير اختلاف الرأي الحر تناقضاً في العقائد المجزومة، وحتى نُصْبح أمة متمدنة تستطيع أن تنصت إلى الرأي المخالف في تسامح وأن تعبر عنه في اعتدال ينأى عن الحدة والتهور
ثم يقول الأستاذ الفاضل إنه يتوهم مما كتبته أن الدكتور طه أو المثال مختار يريدان منا أن نحنط الموتى ونعبد (رعْ) مع أن حقيقة ما طلبه كل منهما أن نستوحِيَ هذا الفن المصري القديم. ثم يقول عني وعن الدكتور طه: (إن الاختلاف بين الكاتبين هنا يرجع إلى أكثر من ذلك، وهو أشبه بالتنافر بين القائلين بعقيدتين متناقضتين، ومصلحة الأمة تقتضي إزالة هذا التنافر بين الذين يكلفون هذه المهمة، وكل رجل مثقف يهتم بالانسجام الاجتماعي في الأمة)
وهذا نهاية الرأي في كلام الأستاذ سلامة موسى نقلنا أكثره بنصه أو ما يقربُ منه. ونحن نشكر الأستاذ سلامة موسى على حُسن مقصده ورغبته في تحقيق الإصلاح الاجتماعي بإزالة كل العوامل المفرَّقة بين الناس
التيارات الفكرية
ومن الغريب أن اليوم الذي صدرت فيه هذه المقالة في اللطائف، هو نفسه اليوم الذي كتبنا فيه عن (الرأي العام وسياسته) في العدد الماضي من الرسالة، وقلنا إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره، حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدءِ لا ينتهي، وفي اختلاف لا ينفضُّ. وكما يرى الأستاذ سلامة موسى أن هذا التعارض البغيض بين الآراء مما يعتاقُ رقيَّ الشَّعب، ويمنعه من الاجتماع على رأي، ويحرمه فضيلةَ القوة التي تنفُذُ به إلى غاياته. . . كما يرى نحن نرى، ونرى وراءَ ذلك كله ما هو أسوأ وأقبحُ - مما يستعاذ منه وتخشى مغبَّتُه. فهذا إذن أمرٌ مفروغٌ من تقريره بيننا وبينه، وهي رغبة نتوافى جميعاً على العمل لها، ونَشْريِ أنفسنا في سبيل إنفاذها
وكان جديراً بالأستاذ سلامة موسى أن يرى مثل هذا الرأي في الذي كتبناهُ ويعلم عِلمْ ما طوبناه في نقدنا لرأي الدكتور طه، ولعلّه لم يقرأ كل ما كتبناهُ في العدد 344، 345 من الرسالة، ولعلّه لم يتتبَّع ما نقولُ به من الرأي في باب (الأدب في أسبوع)، ولو قد فَعَل لعرف أن الرأي بيننا وبينه في ذلك غير مختلف إن شاء الله
القرن العشرون وما دمنا في حديث تعارضُ هذه التيارات الفكرية، فقد كنت أحبُّ أن ينزّهَ الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض. . . وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه. فهل يَظُنّ الأستاذ أننا نعيش في غيره أو أننا نرى أنفسنا رِمَماً تاريخية عتيقةً قد انبعثتْ في أجلادِ إنسان (القرن العشرين)!
. . . الزمن لا يكون هو العلة في إنشاء الحضارة، وإنما تُستجدُّ الحضارة بالروح الإنسانية وبالإنسانية الروحية، وإنما الزمن وحدوده تبع للإنسان الحي، ولا يكون الإنسان تبعاً للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية، وتفقد الإنسانية روحانيتها السامية. . . وترتد الحكمة والحضارة والتهذيب وجميع الفضائل إلى منزلة الغرائز الدنيا التي تصرَّف العجماوات من الأحياء في سبيلها، وعلى سنتّها، وبقانونها، ومن مدارجها النازلة إلى أغوار الحيوانية الفطرية
إن من أخطر التيارات الفكرية التي تهاوى فيها أكثر كتاب القرن الماضي، والمخضرمون من كتاب القرن العشرين اعترافهم بالقرن العشرين وما فيه اعترافاً (تعبُّدياً) يكاد يكون إيماناً وعقيدة، فما أقنع منه بالبرهان والحجة فهو ببرهانه وحجته، وما لم يقنع فهو مردود إلى الأسرار الأزلية للحضارة، وأنه هكذا كان. . . وأنه هكذا خلق، وأنه ما دام موجوداً في حضارة القرن العشرين، فوجوده هذا هو برهانه وحجته. . .!!
وأنا - مع الأسف - لا أعتقد في هذا القرن العشرين اعتقاداً قلبياً مطمئناً بالإيمان، لا لأني أريد أن أرتدَّ إلى الماضي لأعيش في ظلماته وكهوفه وتهاويل خرافاته، بل لأني أرى أن حضارة الإنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية التي كل أجزائها فضائل. أما هذه الحضارة الأدبية العصرية للقرن العشرين، فهي حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة. ولا نقول هذا في العلم - معاذ الله - فإن العلم الحاضر قد استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات، ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليساً في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المستقلة
الحرب ويكفي أن تكون هذه الحرب التي أحدَّث أنيابَها ونشرت مخالبها، وزأرت زئيرها، ثم أسبابها التي نشأت عنها من المطامع الاستعمارية المستكلبة الضارية، ثم ما سيكون من آثارها في الأرواح الإنسانية والمدنية الروحية. . . يكفي أن تكون هذه الحرب - من جميع نواحيها وأطرافها، وبجميع خلائقها وزمن هذه الخلائق - توصيما كتوصيم الفجور الأسود في الأعراض النقية البيضاء
هذه الحرب الفاجرة المتعرَّية من جميع الفضائل برذيلة الكذب والخداع مما يسمونه الدعاية والسياسة - هي البرهان الحي في أذهاننا جميعاً - أهلَ القرن العشرين، على أن مدنية هذا القرن، مدنية حيوانية الأصول والفروع، هي مدنية مفترسة متوحشة، لا تعترف بالحق ولا تعرف الحق، وليس إلا. . . الغذاءَ الغذاءَ. . . الصيدَ الصيدَ. . .: هذا نداؤها وهذا دينها وهذا إيمانها. ثم لا تكون مغبّة أعمالها إلا تمزيقاً وقضقضة وقضما، وتدميراً لبنيان الله الذي يسمى (الإنسان)
الحرية!!
إن هذا القرن العشرين أُسطورة مهَولة قد انحدَرت من القدم إلى هذا الزمن، في دمها كل الأساطير الحيوانية المرِجفة في تاريخ الإنسانية. إنه أسطورة عظيمة كاذبة مكذََّبة على الناس، وإن في مدنيته من الباطِل مِلئ علوِمها حقا. إنَّ الأجيالَ الإنسانية النبيلة لتصرخ من وراءِ أسوار التاريخ تريدُنا أن ننقذ أنفسنا من أوهام (القرن العشرين)، ومن خرافاته الجميلة المزينة بالعلم، المثيرة باللذة، المندلعة بألسنة من نيران الشهوات والأهواء، الصاخبة بعبادةِ الأوثان التي تجُولُ في أدمغةِ البشر حاملة ندها وبخورها ومجامرها وطيبها، وكل ما ينفذ عطره إلى أعمق الاحساسات يثيرها لتقديس البشرية المتجسدة بلذاتها وشهواتها
يجب - في هذا الزمن - أن نتحرر من أباطيل القرن العشرين وأباطيل القِدَم معاً، يجبُ ألا نعرف الحاضر بأنه هو الحاضرُ وكفى، ولا الماضي بأنه هو الماضي وحسْبُ، يجبُ إلا نَتعبَّد بشيءِ من كليْهما، يجبُ أن نأخذَ الحاضر والماضي بالعقل والعلم والفضيلة، وما لم يكن كذلك مما مضى ومما حضر فهو نَبذٌ يجب أن ننبُذَه ونتجافى عنه، يجب أن نتحرر، يجب أن نتحررَّ. . .
إننا الآن أمم تريدُ أن تسيرَ إلى غايتها في إبداعِ حِضارتها التي سترث جميع الحضارات التي سبقتها، والحضارة التي تأتي من التقليد ليستً حضارة، وإنما هي تزييفٌ وكذبٌ ووثنية جاهلية تنحدر إلى هذا الزمن عن السلالات التي قال الله فيها: (وإذا قيلَ لهم: اتّبعوا ما أنزلَ اللهُ، قالوا بل نتَّبعُ ما ألفيْنا عليه آباءِنا، أو لوْ كان آباؤهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدون؟!)
لن نبلغ شيئاً حتى تكون (الحرية والحب) نقيين طاهرين مَبَّرأين كاملين متواضعين، فهما القوة التي تسير بهما الحضارة إلى مجدها وروائعها. إذا عرفنا الحرية وجرتْ في دمائنا فيومئذ تتهدّم كل هذه الأباطيل التي تعوقنا وتقف بين أيدينا من قمامات الرذائل الإنسانية التي قُذفِتْ في طريقنا من أباطيلِ الماضي وترهات القرن العشرين!!
الفن الفرعوني
والأستاذ سلامه موسى قد بنى نقده على ما يسميه (العقائد المجزومة)، وعلى عقيدته في (القرن العشرين)!! ونحن - مع الأسف - لا نبني أبداً كلامنا على (العقائد المجزومة)، ولا على التعصب (للقرن العشرين)، ولو رجع الأستاذ إلى المقالين اللذين نشرناهما في الرسالة عدد 344 و345 عن محاضرة الدكتور طه، ولو رجع خاصة إلى حديثنا عن (الفن) ما هو، وكيف هو؟ وعن الفنان وعمله في فنَّه - لعرفَ أن دعوتنا كلها مبنيةٌ على تحرير أعمالنا من قيود الماضي والحاضر معاً على أساس من العقل والعلم والفضيلة، فلا يُزرِي عندنا بالقديم قِدمَه، ولا يُرغَّبنا في الجديد جدّته. وإن القول في (القديم والجديد) على إطلاق اللفظ، وجعله لفظاً تاريخيَّا زمنيَّا محصوراً باليوم والسنة، إنْ هو إلا تلذذ بالكلام كما يتمطق آكل العسل بعد أكله من تحلب الريق وشَهْوة الُحلْو، ولو كان في هذا العسل السم الناقع
إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئاً يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا، لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد، ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحي كما يقول الأستاذ سلامة من فنون غيره. بل إن الفنان عندنا هو القلب النابض الذي يفضي إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، والفن إن هو إلا نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، والعقائد التي تسيطر على الشعب وتملأ قلبه بالإيمان بها والفكر فيها، فإذا لم يكن الفن ناشئاً من ثَمّ، فاعلم أنه ليس بفن وإنما هو كذب مضرَّج بتحاسين قوس قزح، وما أسقط الفن الرفيع في زماننا وفي بلادنا إلا أنه نتاج العقول المزيفة بالتقليد، والخيال المدلس بالسرقة، وهذا الهمج الهامج من الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء أيضاً ممن يعيشون بأدواتهم تحت جناح الليل الأسود وفي ستره، ثم يقبلون على الناس إذا أصبحوا فيقولون: أين كنتم؟ يقولون: كنا نستوحي، ثم يخدعون الناس بزيفهم وبهرجهم. لأنهم لا يعلمون من أين يأتي هؤلاء هذا الوحي. . . ولو علموا إنما وحيهم وحي اللص الذي يبدع له المال، وإنما هو دبيب واستخفاء وحرص، و (طفاشة) تهشم بها أقفال خزائن بعض الناس، يستخرجون كنوز غيرهم ليتنبّلوا بزينتها وجمالها
الحرية هي أصل الفن كما بينا، وكما هو ظاهر كلامنا، وأما الاستيحاء من فنون القدماء لإنتاج فن لا يتصل بمدنيتنا بسبب إلا القدم والوراثة وتاريخ هذه الأرض، فهو إبطال للفن ومعنى الفن وقيمة الفن، وإلا فما الذي فعله الأستاذ المثال القدير (مختار) إلا أن نقل صورة لا معنى لها في عقائد الشعب المصري الحاضر، هي صورة أبي الهول، وليس فيها معناه القديم الباسط ذراعيه في جوف رمال الصحراء هناك، ثم ماذا؟ ثم جعله مقعياً بعد أن كان باسطاً متطامناً، ثم ماذا؟ ثم ألصق إلى جانبه فتاة تضع يدها على رأسه. . . سبحان الله هذه نهضة مصر، وهذا هو فن القرن العشرين!!
إذا كان الأستاذ سلامه موسى أو غيره يريد أن يناقشنا في هذه الآراء، فليناقش على أساس واحد، هو أساس الفن، وما هو، ومن هو الفنان. أما (القرن العشرين)، وأنظمة مكافحة الأوبئة، والنظام الاقتصادي، والعلوم، وما إلى ذلك، فليس له مدخل أو سبب في الطبيعة الفنية، وتقدير الآثار الفنية، وهل يمكن أن تكون فناً إذا كانت تقليداً واستيحاء وتشاكلا ذكياً بارعاً؟
كل فن يأتي من التقليد واستيحاء فنون الناس، وكل فن يتولد من شهوة التقليد وبلادة العزيمة وعبودية الروح، فهو فن كالمولود السَّقط في آخر تسعة أشهر من حمله. . . فيه صورة الحي ولكن ليست فيه الحياة، فيه قوة المشابهة للحي ولكن ليست فيه قوة استمرار الحي على الحياة محمود محمد شاكر