مجلة الرسالة/العدد 354/من تاريخ الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 354/من تاريخ الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة - العدد 354
من تاريخ الأدب الإنجليزي
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



في عهد الملكة اليزابث

1558 - 1603

للأديب مصطفى مشعل

مقدمة

تعتبر القصة منذ أقدم العصور فناً قائماً على قوة التخيل، واستخلاص أفضل النتائج التي يحسن توجيه الشعب إليها، وبث العقائد أو المثل العليا التي يدين بها الكاتب

ومن المعروف أن أدب القصة هو الأدب الذي يتأثر به القارئ أكثر من تأثره بسواه، وأنه الأدب المحبوب الذي يتذوقه المطالع تذوقاً شهياً دون ملل، أو إرهاق فكر. فهو إذن أشد الآداب اتصالاً بالروح، وتصويراً للشعور، ووصفاً للبيئة، ومعالجة للحياة في جميع أوضاعها. . . فالقصة هي أحسن أدب يمثل الحياة.

ولا شك في أن الكاتب الروائي يستطيع - إن ملك القدرة على نسج الخيال بالحقيقة، واستطاع سرد قصته دون أن يمل قارئه النجاح - بسهولة في جعل هذا القارئ يعيش ويحيا مع أبطال قصته، فيفرح لفرحهم ويتألم لألمهم كأنهم أشخاص يعيشون على مسرح الحياة لا مسرح الخيال

ومن الحقائق المعروفة أيضاً عن الأدب القصصي أنه أداة فعالة في النفوس، فنحن مثلاً إذا سمعنا قصة حياة شبيهة بحياتنا نشعر بفرح هائل يملك علينا إحساسنا، إذ نرى في احساسات غيرنا وشعوره صورة ناطقة لشعورنا وأحاسيسنا، حتى ولو كان ذلك الشعور وهذا الإحساس ألماً لشيء أو أسفاً عليه، فالطبيعة البشرية تجد في هذه المشاركة في الشعور والوحدة في الألم أملاً جديداً، وشجاعة تواجه بها الأحداث والمتاعب

أما إذا كان الوصف والتصوير الذي نطالعه هو وصفاً وتصويراً لحياة جديدة لا نعرفها ولا نحياها فسرعان ما نلمس في نفوسنا حناناً لهذه الحياة متأثرين بما نقرأ عنها من وصف. . . مشغوفين بما نتخيله عنها سواء كان هذا التخيل الذي يدفعنا إليه الكاتب يتجه نحو النور أو الظلام. . . نحو الفرح أو الحزن؛ وهكذا ينمو ذلك التأثر وهذا التخيل حتى ندخل ف حمأة الحياة الجديدة ونعيش فيها شاعرين بلذة لا توصف، لأننا شاركنا أبطال القصة في حياتهم، وفي فرحهم وترحهم

ونحن نستنتج من هذا أن القصة الواقعية التي تصف حياة رجل أو امرأة وصفاً حقيقياً تفوز بعطفنا وإعجابنا، ولكننا سرعان ما نشعر بفتور يستولي علينا، لأن أبغض شيء إلى المرء هو أن يرى الآم حياته تمثل أمامه أو تسرد عليه مرة أخرى. . إنه يكتسب من ذلك أملاً ولكنه لا يكتسب لذة. . . وذلك لأن القصة الواقعية قد عدمت في سطورها ذلك الشيء المجهول الذي نشعر به ولا نعرفه، واللذة غير الأمل. . . فاللذة التي يحسها القارئ لقصة مزجت فيها الحقيقة بالخيال البلوري هي تلك اللذة التي يحسها كل بشري عقب استطلاع شيء مجهول. . . عقب الخوض في عالم جديد لا يعرفه ولم يحيى في

ومن ذلك نرى أنه كان لزاماً على القصاص أن يخترع المواقف والمفاجآت التي يوحيها خياله ليضمن تتبع القارئ له تتبعاً مستمراً غير منقطع. . . وكان عليه أن يشوق القارئ إلى النهاية المحبوكة، وأن يجعله يعجل القراءة محاولاً أن يصل إلى آخر مرحلة من مراحل هذا الخيال المسترسل وإلى خاتمة هذه المفاجآت المتصلة، لأنه - أي القارئ - لا يستطيع أدارك نهاية القصة ولا يستطيع أن يحزرها حزراً يقرب من الصواب، لأنه لم يشعر ولم يتذوق مثل الحياة التي تصفها القصة وتصورها

ماجن ورولاند

كان هذان الرجلان هما أول من بذرا بذور هذا النوع الذي تحدثت عنه، فأستقبله الكتاب الواقعيون بشيء غير قليل من اللهفة والشغف والرغبة القوية في التقليد، فما زالوا يفكرون بين مترددين ومقدمين حتى جرفهم التيار فإذا بهم مقلدون. وهكذا شاع وذاع هذا النوع السائغ السهل الهضم في المعدة الأدبية، وابتدأ الخيال يلعب دوره في القصة ويشتط شططاً كبيراً ويجمح جموحاً غريباً حتى اعتاده الناس وتقبلوه تقبلاً حسناً ولكن الكتاب أمعنوا فيه إمعاناً شائعاً مبتذلاً، فكان ذلك وبالاً على هذا النوع من القصة إذ تحول القراء عنه. وهكذا راح يخبوا ويندثر ليظهر على أعقابه نوع جديد من الأدب الذي كتب واصفاً بعض حوادث التاريخ القديم وسمي بالقصة

قصة (يوفيسن) لجون ليلي إذا أراد الكاتب أن يتحدث عن العصر الإليزابثي ومخلفاته وأن يتكلم عن القصص الموفق الذي ظهر وأحدث ضجة كبيرة لما وجد أمامه إلا قصة رائعة بل هو أروع آثار هذا العهد إطلاقاً من حيث قوة الفكرة وحسن الأسلوب ولما اشتملت عليه من مغزى

كتب هذه القصة شاب نابه يدعى جون ليلي وكان اسمها (يوفيس)، ونحن إن أردنا تحليل الأسباب والدوافع التي كانت سبباً في ظهور هذه القصة وتفوقها على كل ما عداها استطعنا ذلك بقليل من الاستنتاج. فالقصة لم تكتب جزافاً ولم يضعها صاحبها لمجرد الرغبة في الكتابة أو الشهرة، بل إنه أراد بها مغزى عظيماً، إذ حاول أن يظهر ويصف التأثير السيئ والانحطاط الخلقي الذي كانت الحياة الاجتماعية في إيطاليا تؤثره في صغار الشبان الإنجليز النازحين إليها لتلقي العلم والمعرفة

لقد كانت إيطاليا في ذلك الوقت بلاد النور الخلاب يتهافت عليها طلاب العلم، وتفيض هي على العالم علماً وعرفاناً، حتى لقد كان يحج إليها كل متعلم أراد أن يتم حظه من الثقافة أو يزيد نصيبه من العلم. واقتبست إنجلترا هذه العادة عن غيرها من الأمم منذ رحل إلى إيطاليا بعض المجدين من طلبة العلم الذين أظهروا نبوغاً في الأدب من أمثال: كوليت وليناكر وجركن لدراسة اللغة اللاتينية وآداب الإغريق الكلاسيكية التي كانت دراستها باعثاً قوياً في نهضة أدب المسرح والقصة. . . واستمرت هذه العادة عند الطبقة الراقية كتقليد لابد منه لكل من أتم دراسته حتى بعد أن شرعت الجامعات الإنجليزية في تدريس هاتين المادتين

ولم يكن جون ليلي هو أول من فطن إلى ذلك، بل إن أول من أراد منع هذا التقليد هو مؤدب الملكة روجر آشام فلقد أدرك روجر أن هؤلاء الذين يحجون كل عام إلى إيطاليا بحجة الدراسة إنما يرحلون دون نية أو مقصد حقيقي لذلك. فلقد كانوا يجتمعون هناك في مدرسة واسعة حيث كانت الآداب الإغريقية الرائعة تعتبر فيها مادة للهو والتسلية، إذ كانت تترجم إلى اللغة الإيطالية الدارجة بأسلوب وضيع ولغة فجة، فتحولت عن مغزاها العالي الذي كتبت من أجله إلى أداة للاستهتار والتسلية ليس إلا. فأشار روجر إلى كل ذلك في كتاب ثقافي وضعه وحمل فيه على العقائد والمثل العليا في إيطاليا حملة شعواء، وبيّن الأخطار الهائلة التي تعود على الأمة من جراء إرسال أبنائها وصفوة شبابها إلى بلاد لا يدين قومها بشيء، بل هم ساخرون هازلون بالعقائد الإلهية والقوانين المرسلة. . . ولكن الكتاب رغم ذلك كله لم ينل النجاح الذي قدره روجر له ولم يف بالغرض الذي أراده، لأنه كتب بأسلوب علمي لا يشجع على القراءة، وإن كان قد مهد به لبحث مسألة حيوية لجيل من الشباب.

كان روجر صادق النية في محاولة تخليص أمته من تأثير إيطاليا، ولذا لم يرض هو نفسه عن كتابه هذا. . . كان يريد كتاباً من نوع آخر. . . كتاباً يقرأه الخاص والعام، فيخرج منه متأثراً منضما لروجر في فكرته، مؤيداً له في وجوب القضاء على هذه العادة. . . ولكنه لا يستطيع كتابة هذا الكتاب لقلة فراغه وكثرة مشاغله. . . فماذا يفعل؟. . .

تذكر الشاب المغمور جون ليلي وعرف فيه القدرة على وضع الكتاب المنشود والبراعة في الوصف والتأثير على القارئ، فأوحى إليه أن يضع قصة يبين فيها آفات المجتمع الإيطالي وخطره العظيم على شبيبة ناشئة والنتيجة السيئة لهؤلاء الذين يعيشون في وسطه وما زال دم الشباب يجري في عروقهم حاراً عنيفاً. . . وما زال بهم ظمأ شديد للعب والوثب. . . وظمأ أشد للحب والمرأة. . . وشغف لا يقاوم بحياة الليل المسممة بين رنين الكؤوس وأصوات القبل.

وكان ليلي عند حسن ظنه به فدرس المؤثرات التي يستهدف لها الفتى الإنجليزي في إيطاليا وبلادها وجعلها موضوعاً لقصته العظيمة (يوفيس)

كان اسم (يوفيس) اسماً مقتبساً عن الإغريقية، ولعل هذا هو ما حدا به لأن يجعل بطل قصته شاباً من شباب أثينا المفتونين أنهى دراسته ثم رحل إلى إيطاليا للدراسة، وفي طريقه عرج على (نابلي) وهناك التقى بآخر يدعى إيبوليس. . . ولكن هذا الأخير عاقل في بلدة أجدبت من العقلاء؛ فهو ينصح يوفيس، ولكن يوفيس لا ينتصح. . . وهو يلومه ولكنه لا يرعوي. . . وهو يحاول أن يفيده والآخر لا يريد؛ فإذا ما مل نصحه ويئس من إصلاحه صمت على مضض. . . ولكن رغبته في إصلاح صديقه لا تلبث أن تعود فيضرب على الناحية الحساسة في نفس يوفيس قائلاً:

- أي يوفيس البائس. . . اعمل لأجل الله ولا تعمل لأجل نفسك، واجعل حبه لا حب البشر هو المسيطر عليك، وأحذر أن تغضبه منك، فإنك لو عملت له، وأخلصت لذاته العظيمة، باركك ورعاك، فإنه عادل يحب المخلصين

ولكن أنى للجاهل العربيد أن يثوب إلى رشده ويعود إلى حظيرة الله ما دام الشيطان يطوف حوله ليسكب في أذنيه أغاني الشر وأهازيج الدمار

لقد أنخرط الأثيني الشاب في زمرة الكسالى، وراح معهم يعيشون في أنحاء نابلي فساداً يبحثون عن اللذة أينما وجدت، ويتذوقون كل محرم ويفخرون بما يأتونه كل يوم من ضروب المجون والعبث

وتصل القصة إلى أكثر أجزائها شدة وقوة فيعمد ليلي إلى ختم قصته ختاماً موفقاً حقاً إذ أرجع (يوفيس) إلى أثينا. . . (رجلاً حزيناً عاقلاً). . . بل لقد جعل منه رجلاً آخر مخالفاً لشخصيته الأولى. . . لقد أدرك آثام الماضي وشروره فراح يكتب الرسائل الطويلة إلى أصدقائه باسطاً فيها الآراء الناضجة الكاملة الشيء الكثير، شأن العارف الدارس بأسرار الحياة

ولعلك تستطيع أن تلمح من بين سطور القصة قوة المؤلف الذي استطاع أن يصف ما أراد من نزق وجنون، وعبث ولهو، ثم ندم واستغفار. . . ووقار وحكمة

لقد أراد ليلي أن يجعل الناشئة تتمسك بأهداب الفضيلة بأن أخذ يسرد عليهم سرداً قويا التقاليد السيئة المتبعة ليجتنبوها ودعا فيما دعا إليه إلى دراسة الكتاب المقدس ليستوحوا منه العظات ولكي يستطيعوا التغلب على نزعة الإلحاد التي كانت تنتشر في إيطاليا بلد العلم والعرفان!

وهكذا لم تلبث القصة أن ذاعت ذيوعاً عظيما حتى لقد صارت أحب الكتب الأدبية إلى الناس

كانت حديث الطبقات الراقية. . . بل لقد تناقل الإعجاب بها موظفو البلاط الملكي نفسه

على أنه مما ليس فيه شك أن هذه القصة لو لم يعرف مؤلفها أدواء الجيل لما لقيت من هذا النجاح الفذ قليلاً أو كثيراً، بل لما سمع عنها في هذا الوقت، فإنما قامت شهرتها على قوة أسلوبها وقوة بصيرة مؤلفها وقدرته على معالجة الحوادث الخارجية التي كانت تحيط بالناشئة، والتي كان الشعب يجهلها رغم أنها كانت سائدة بينه. . . فعلى هذا الأساس المتين نالت القصة هذا المركز الفذ الذي لا يداني في العهد الإليزابثي كله الأساليب القصصية

كانت الدراسة الطويلة للآداب الإيطالية وأساليبها من أقوى المؤثرات في الأسلوب الذي ساد في هذا العصر. . . لقد عنى الكتاب بالمظاهر في أسلوبهم أكثر مما عنوا بالفكرة في كتاباتهم. ونحن إذا تعمقنا قليلاً في الأساليب التي استعملت في هذا العهد وجدنا فيها شيئاً غير قليل من محاولة التلاعب بألفاظ وحروف اللغة ومحاولة جعل أوائل أو أواخر الكلمات متشابهة في جرسها أو رنتها الموسيقية كالسجع في اللغة العربية مثلاً

وقبل أن أنتقل بالقارئ إلى نوع آخر استعمل في الأسلوب الإنجليزي لهذا العهد أحب أن أنقل هنا جملة من الأسلوب الذي تحدثت عنه وهي من قصة (يوفيس):

أما النوع الآخر فقد سموه أسلوب التباين أو الموازنة المضادة وأنا أنقل منه هنا بضع جمل لسهولة الفهم:

, وإليك جملة أخرى:

,

وتفيض كتابات هذا العصر بمثل هذا الأسلوب الأخير، كما تفيض بالأسلوب الأول. وبقدر ما كان لهذه الأساليب من ميزة إن صح أن كان لها ميزة، كان الشعور العميق والاختلاجات الحقيقية صعبة الإظهار. . . صعبة البيان. . . تحتاج إلى كثير جداً من المهارة والحنكة والتصرف والإلمام بكلمات اللغة. . . وخلق المرادفات التي لا يستثقلها السمع ولا ينبو عنها الذوق، وفي كل هذا من الإرهاق والجهد ما يفوت المقصد الحقيقي على الكاتب، بل ويمعن به في البعد عن الموضوع إمعاناً معيباً جرياً وراء هذا السجع، أو ذاك التباين، فإنه مما لا شك فيه أن محاولة تصيد الحروف الأولى للكلمات أو الحروف الأخيرة تقف - في غير الشعر - حجر عثرة في سبيل الأسلوب المستقيم.

هذه هي أهم الأحداث في تاريخ الأدب القصصي في هذا العهد الذي ابتدأ عام 1558م إلى 1603م

ولا شك أن القارئ لاحظ معي أنني قصدت الكلام عن قصة يوفيس، ولكني لم أفعل ذلك إلا لأن هذه القصة هي أعظم أثر أدبي لهذا العصر فضلاً عن أنها تمثل في أكثر أسلوبها الأسلوب الذي ساد. . . الأسلوب الذي كان أشبه ما يكون بالطلاء اللامع الذي يخفي وراءه عيوباً كثيرة، حتى لقد سخر عميد اللغة الإنجليزية وليم شكسبير منه إذ كان يجريه على لسان بعض أبطال قصصه البلداء الفكر

قصة جديدة لجون ليلي

كتب ليلي هذه القصة عام 1579 بعد قصته الأولى بعام واحد وهي عبارة عن رواية لزيارة (يوفيس) لإنجلترا وانخراطه في الحياة الاجتماعية الإنجليزية

وكانت القصة محتفظة بروح المؤلف. . . ونقد فيها العادات الإنجليزية والجامعات الإنجليزية، لا بقصد التشهير والهدم، وإنما للإصلاح ووضع القواعد الثابتة الناجحة لمساعدة الشبان الناشئين وكان يوجد بجانب ليلي بعض الكتاب الذين ساهموا بنصيب وافر في خدمة أدب القصة في هذا العصر، ومن هؤلاء كاتبا المأساة لودج وجرين، والأخير كتب عدداً كبيراً من القصص القصيرة اقتبسه عن الإيطالية. . . واشتهّرت كتابته بميسم الحزن والألم؛ ولعل ذلك يرجع إلى المرض الذي عاناه والذي جعله ينظر إلى العالم بمنظار أسود، حتى لقد كتب عن هذا اليأس والحزن قصة طويلة جعل اسم بطلها (روبرت) وهو اسمه الأول

أما الكتاب الآخرون، فلم يظهروا إلى جانب من ذكرت إما لضعف أسلوبهم أو لقلة ثقافتهم

الإسكندرية

مصطفى مشعل