مجلة الرسالة/العدد 355/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 355/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940



تأملات في الفن

العشرة الطبية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

منذ زمن طويل والكتاب يدعون أستوديو مصر إلى إخراج العشرة الطيبة للسينما، وقد كان رجال الأستوديو يترددون دائماً حيال هذه الأوبريت الرائعة ويشفقون من إخراجها بسبب واحد وهو أن قصة العشرة الطيبة تصور الحياة المصرية في حقبة من الزمن لا تشرف المصريين، وهي تلك الحقبة التي حكمها فيها الأتراك والمماليك معاً، والتي كان هؤلاء الحكام يعبثون فيها بحقوق الناس عبثاً شديداً سخيفاً ضعف إزاءه المصريون، واستلانوا له وجعلوا شعارهم معه قولهم: (من تزوج أمي قلت له يا عمي) وقولهم: (إن كانت لك عند الكلب حاجة فقل له يا سيدي). . .

ولقد حاولت أكثر من مرة وفي أكثر من صحيفة أن أنزع من أذهان رجال أستوديو مصر هذه الكراهية الخاطئة التي يصبونها على العشرة الطيبة لهذا السبب وحده، ولعلي ضربت لهم يوماً مثلاً برواية هنري الثامن التي مثلها شارلس لاوتون لإحدى الشركات الإنجليزية، والتي لم يتورع ذلك الممثل الإنجليزي الكبير حين مثلها أن يصور هنري الثامن الملك الإنجليزي بصورة هي أقرب الصور لما كانت عليه حقيقة هذا الملك، ولم تكن حقيقة هذا الملك مفخرة من مفاخر بريطانيا العظمى، ولا مثلاً طيباً لحكمها وملوكها، وإنما كانت حياته كما روى التاريخ وكما أظهرتها السينما حياة كلها صيد وزواج، وأكل، وطلاق، وفتك بالنساء وبالحيوان وبالتقاليد، واستخفاف بشريعة النصارى التي لا تبيح انفصال الزوج عن زوجه إلا للسبب الشنيع الواحد الذي لم يحاول هنري الثامن مطلقاً أن يجعله وسيلة إلى التخلص من نسائه لأنه كان يرى نفسه فوق التحقيق والتدقيق واستقصاء الأسباب وإبداء الأعذار. . .

ومع هذه البشاعة كلها، ومع هذه العتمة والظلمة والسواد فإن الإنجليز لم يكرهوا شارلس لاوتون، لأنه أخرج هنري الثامن على حقيقته، بل إنهم على العكس من ذلك أحبوه وقدروه، وبدءوا منذ أخرج هذا الفلم يعتبرونه فنانهم الأول في هذا العصر، وهنري الثامن ذات حقيقية فعل بها شارلس لاوتون هذا كله تحت أعين الإنجليز وأسماعهم، بل إنه استعان على فعله هذا بأموالهم وبكفايات الذين ساعدوه من رجالهم. أما (العشرة الطيبة)، فليس فيها ذات حقيقية واحدة ممن يعتز بهم التاريخ المصري، أو ممن ينتسبون إليه ويخشى إن هو أظهرهم للناس أن يلصقوا به نقائصهم وعيوبهم. . . وإنما هي قصة خيالية تصور كاتبها المرحوم محمد تيمور أن حوادثها جرت في مصر، وقد كان يستطيع أن يتصورها جرت في الهند، كما كان يستطيع أن يتصورها جرت في كوكب آخر غير هذه الأرض، لولا أنه آثر أن تكون حين تنسب إلى مصر أقرب إلى نفوس المصريين، واشد إغراء لهم بالإقبال عليها والاستمتاع بها. وقد كانت (العشرة الطيبة) فعلاً من أحجار الأساس الأولى التي وضعت في بناء المسرح المصري

وقد ترامى إلينا أن أستوديو مصر بدأ يفكر في هذه الأيام في إخراج العشرة الطيبة، وأن رجاله بدءوا يتخلون عن تلك الفكرة العجيبة التي ظلوا يتشبثون بها زمناً طويلاً والتي حالت بينهم وبين إخراج (العشرة الطيبة) هذا الزمن الطويل، ولا ريب أن أستوديو مصر إذا نفذ هذه الفكرة فإنه سيفتح بها فتحاً جديداً في تاريخ أوبريت السينما في مصر، ففي هذه الرواية مجموعة من الألحان يشهد الموسيقيون المصريون جميعاً قبل النقاد وقبل الجمهور بأنها خلاصة الموسيقى التمثيلية المصرية، وأول من شهد بهذا هو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي وضع موسيقى هذه الأوبريت. فقد سئل رحمه الله يوماً بعد أن أنشأ لنفسه فرقة خاصة أخرج فيها روايتي (البروكة) و (شهرزاد) عن أحب آثاره الفنية إليه فقال إنها العشرة الطيبة، وكان السائل يحسبه سيقول عن إحدى هاتين الروايتين اللتين أعدهما لنفسه ولفرقته واللتين لن تأخذهما منه فرقة من الفرق

وإنني لا أشك في أن سيد درويش رحمه الله كان على حق في تفضيله للعشرة الطيبة على غيرها مما لحن، فهي أصفى وأنقى من كل رواياته، ونفسه منطلقة في ألحانها كل الانطلاق لا يقيدها قيد ولا يكتفها شرط

ولعل القراء يعرفون أن موسيقى سيد درويش كانت تصيبها أحياناً آفات لم يجد سيد درويش نفسه بداً من أن يسمح لها بأن تصيب فنه، بل إنه هو الذي كان يبلو فنه بهذه الآفات، لأن احترافه التلحين للفرق المختلفة هو الذي كان يجبره عليه. هذه الآفات تظهر بموازنة ألحان سيد درويش للفرق المختلفة بعضها ببعض. فألحان سيد درويش لمنيرة المهدية، غير ألحانه للريحاني، غير ألحانه (للعكاكشة. . .) وذلك يرجع إلى أن سيد دروش كان يتقمص أبطال الغناء والتمثيل حين يلحن لهم، وكان يتدفق في تلحينه لهم بروح هي أقرب إلى أرواحهم منها إلى روحه هو، وبأسلوب هو أقرب إلى أساليبهم منه إلى أسلوبه هو، وليس معنى هذا أن سيد درويش كان يفقد نفسه في هذه الألحان التي كان يعطيها غيره، وإنما معناه أنه كان يتنكر بصور مختلفة في أثناء تلحينه. . . ومن هذه الصور - صور المغنين والممثلين - ما هو خفيف جميل رائع، ومنها ما هو ثقيل سمج أقتم الظل. . . ومع الثقيل السمج الأقتم الظل لم يكن سيد درويش يستطيع أن يسبل عليه من الحسن إلا بمقدار ما تستطيع شركة السكر أن تبعث الحلاوة في ملاحة رشيد. . .

وكان سيد درويش رحمه الله يعارك الثقلاء من أبطاله، ويسبهم ويلعنهم، وكان يثور على بعضهم ويضربهم لكي يطاوعوه ويسايروه، ويحملوا أرواحهم على التأثر بروحه، وأذواقهم على التبسط في الغناء والتمثيل، وترك الشعوذة والتطريب، ولكنه لم يكن يجني من هذا كله إلا أن يحترق دمه وأن تتهدم أعصابه، ويظل الثقلاء من أصحاب الفرق وكبار المغنين. . . على ما هم عليه من فساد الذوق و (العصلجة)، فكان المسكين لا يرى بداً في بعض الأحيان من أن يعطيهم موسيقى لهم هم، وتروق الناس أيضاً، ولكنه هو كان أول من يعرف أن عنده خير منها وأروع. . .

أما حين وضع سيد درويش ألحان (العشرة الطيبة) فقد كان حراً متحرراً من كل قيد، ومن كل اعتبار خارج على إرادته

ذلك أن نجيب الريحاني كان له في ذلك الوقت فرقتان، فرقة كان يلعب بها (كشكشياته) الرشيقة وفرقة أخرى أسلمها العزيز عيد يخرج بها فناً دسماً. وكانت رواية تيمور هذه أول ما وقع عليه اختيار هذه الفرقة، وكان بديع خيري إذ ذاك لا يزال يشق طريقه إلى مجده الغني الزاهر فلما عهد إليه بوضع أزجال هذه الرواية بثها روحه كلها لم يقتصد ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها، فلما تسلم سيد درويش هذه الأزجال ليلحنها حراً أعطاها هو أيضاً كل نفسه، لم يقتصد كذلك ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها. ولم يزل الريحاني ينفق على (بورفات) هذه الرواية الأشهر الطويلة حتى اكتمل ما أنفقه ألف جنيه، فضج وراح يزور هذه البروفات ليرى أي شئ فيها يستدعي هذا التريث كله، وهذه النفقات كلها. . . ولم تشعر به الفرقة وهو يتجسس عليها متسمعاً لأحد ألحانها، ولكنها شعرت به عندما فرغت من ذلك اللحن وهو يقول موجهاً الحديث إلى عزيز عيد: (لقد كان في عزمي أن أضع اليوم حداً لهذا الإسراف، ولكني بعد ما سمعت هذا اللحن أراني مضطراً إلى أن أترككم وشأنكم فليس هذا الذي تصنعونه بالشيء العادي)

وقد كان نجيب محقا، فالعشرة الطيبة من غير شك معجزة

وهنا قد يسألني سائل: لماذا كانت العشرة الطيبة (درويشية) أصفى من شهرزاد والمبروكة، مع أن هاتين الروايتين الأخيرتين قد وضعهما سيد درويش لنفسه ولفرقته لم يتقيد فيهما هما أيضاً بقيد، ولم يراع فيهما ذوق أحد غير ذوقه الخاص؟

وإجابة عن هذا السؤال نقول: إن سيد درويش لحن العشرة الطيبة أوائل حياته الفنية أو في أواسطها، بينما لم يلحن شهرزاد والبروكة إلا قبيل وفاته. وقد حدث أن تأثر سيد درويش بعد العشرة الطيبة بالأساليب الغربية في الإلقاء المسرحي، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً جلياً في ألحان رواية البروكة الغربية الحوادث والأبطال، كما ظهر هذا التأثر باهتاً غير جلي في ألحان شهرزاد. وليس هذا التأثر بالروح الغربية مما يعيب هاتين الروايتين فلا يزال تقليد الغربيين في الفن الشرقي هو مقياس الفلاح، ولكنني أنا الذي أكره هذا التأثر، كما أحب أن أجد عند كل فنان مصري روحاً مصرية خالصة، هي من غير شك مهما هانت وتواضعت، لن تكون إلا أصدق من روحه إذا قلد بها الغربيين وأساليبهم.

ولكن سيد درويش كان معذوراً في التفاتاته للموسيقى الغربية وآلاتها وأدواتها وطرائقها وأساليبها، وتوزيع الأصوات فيها، فقد شاءت الظروف أن يكون هو الموسيقى المصري الذي ألقت عليه النهضة المصرية أعباء الفن ليثب به من حالة الركود والإنشاد التي سبقته إلى حالة الحياة والصخب والتدفق والتفرع والشمول التي كانت على أيام سيد، والتي يريد من جاءوا بعد سيد أن تكون على أيامهم.

فلو أن سيد درويش عاش أكثر مما عاش لكان قد استتب له تقرير ما يصلح أخذه من الأساليب الغربية في الموسيقى واصطناعه في موسيقانا، ولكان قد أدرك أنه لا يقل شيئاً عن وجنر وفردي وغير هذين من أعلام الموسيقى الذين كان يتوق دائماً إلى أن يكون في صفهم، ولم يكن إلا في صفهم بمواهبه وصفاء روحه، وإن كان قد أعوزه ما لم يعوزهم من التثقيف الفني الذي لا يعدو أن يكون حساب الموسيقى وتطريزها لا الموسيقى نفسها. . .

ولنعد الآن إلى أستوديو مصر لنسأله: هل صحيح ما نشرته بعض المجلات من خبر اعتزامه إخراج العشرة الطيبة. . .

أما إذا كان هذا الخبر صحيحاً فإنه خبر يغتبط له الشرق كله لا مصر وحدها. وإن لنا صحة هذا الخبر رجاء نتجه به إلى أستوديو مصر ورجاله وهي أن يشترك عزيز عيد ونجيب الريحاني معاً في الفلم على أي نحو وعلى أي وجه، فلهما من خبرتهما وذكرياتهما - على الأقل - ما نطمئن به على أن تعود الحياة إلى العشرة الطيبة على النحو الذي أراداه لها مع صاحبها. . .

والله الموفق.

عزيز أحمد فهمي

-