مجلة الرسالة/العدد 355/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 355/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940



ليالي الملاح التائه

ديوان الأستاذ علي محمود طه

للأديب عبد العليم عيسى

الشعر كالحياة من حيث مظهره ومصدره؛ فهو من حيث المظهر متفاوت التقدير عديد الألوان، ومن حيث المصدر واحد لا يتجزأ ولا يقاس ولا يتنوع. . .

فالحياة في الثعلب هي بعينها الحياة في الأسد؛ ونحن لا نعظم الحياة في الأسد لأنها أشرف وأجمل من الحياة التي تسير الثعلب، ولكن لأنها قد اتخذت لها في الأسد مظهراً واسعاً مكتملاً عريضاً أوسع وأكمل وأعرض من المظهر الذي اتخذته في الثعلب. . .

على هذا القياس الحق، ترانا نفضل هذا الشاعر على ذاك الشاعر، وترانا نستحسن هذا الشعر ولا نستحسن ذاك، ونحن في هذا التفضيل والاستحسان لم نرد إلا أن المظهر الذي ظهر فيه شعر الأول أحسن وأتم وأوسع من المظهر الذي ظهر فيه شعر الثاني؛ أما شعرها من حيث القيمة فهو واحد لا تفاوت فيه. . .

من بين شعرائنا الذين نقدرهم ونستحسن شعرهم، شاعر رقيق رشيق هو الأستاذ علي محمود طه فهو شاعر يسقي قلمه من ينابيع قلبه الجياش بالعواطف، وروحه الهائجة السبوح. وهو شاعر عانقت روحه الكون الجميل، فجاءت أشعاره واسعة متفتحة ناعمة، تسمع فيها دقات أنباض الحياة، وتتنسم منها نسمات الجمال والخلود. . .

قرأت (لياليه) فشعرت بلذة روحية عجيبة، وأحسست بانفعالات تهزني وتنعشني، وتوقظ نفسي وترهف حسي، وتفتح أمامي آفاقاً من النور والجمال والبهاء. . .

وهل أنا أطلب من الشاعر غير هذا؟. . . كفى بالشاعر أن ينقلني من عالمي المادي الحقير، إلى عالم سماوي نضير، تحير فيه أطياف الحسن والسحر والفتون، فأنسى فيه - ولو قليلاً من الزمن - رغبات الأرض وشهوات ابن التراب!! وأنت لو ذهبت تعد شعراءنا جميعاً علك تجد فيهم من يسمو بك إلى عالمه، ويشعرك بالحياة المتدفقة الفائزة مثل هذا الشاعر، ما وجدت - للأسف - غير شاعرين أو ثلاثة على الرغم من وفرتهم وتبجحهم وجعجعتهم!

إن من بين شعرائنا من هم إذا كلفوا بشيء آخر كلفهم بالشعر، لجاءوا بالعجب العجاب ولب اللباب؛ ولكنك إذا ذهبت تصارحهم بهذا رأيتهم هاجوا وماجوا، كأنك تريد أن تسلبهم أرواحهم! ومن العجيب أنك لا تلبث أن تسمع منهم من يقول في غطرسة وكبرياء: (أنا المجلي وغيري نابع تال). . .

وآخر يقول:

قد صرت وحدك في الملو ... ك وصرت في الشعراء وحدي

وثالث يقول:

لولا غنائي وشعري ... لمات روح الوجود

وهكذا وهكذا تسمع ما يؤلم قلبك. . . ويشجي روحك!

إذن يجب علينا أن نفرح بظهور الشاعر الحق فرحنا بظهور الوليد الجديد، ويجب علينا أن نحبه ونقدره ونجله؛ وما حبنا وتقديرنا وإجلالنا، إلا حب وتقدير وإجلال للحق والخير والجمال وهي القيم المنشودة التي تسعى إليها البشرية وتبحث عنها في جميع أطوارها ومراحلها. وشاعرنا المحظوظ (علي طه) هبة سماوية أطلعتنا على آفاق جديدة فيها جمال وخير وفيها أحلام وآمال. . .

قلت إن شاعرنا محظوظ، وأنا أقصد بهذا أنه يحيا حياة شعرية مليئة بالأفراح واللذات، مترعة بالأحلام والمغامرات. فليس فيها آلام ولا أحزان، وليس فيها أهوال ولا شكوك، ولا تردد ولا حيرة. . . وأنت لو فتشت في ديوانه كله ما عثرت على بيت واحد يشعرك أن هذا الشاعر مرت عليه أوقات فيها تنغيص وفيها ألم، ولكنك تعثر على أبيات كثيرة فيها اللذة السامية، وفيها النشوة السارية، وفيها الفرح الشامل. . .

هو اليوم في مدينة (فينيسيا) عروس الأدرياتيك حيث الجمال والحسن المشاع، وحيث الجنادل المزدانة بالمصابيح الملونة والضفائر الوردية. فلا يلبث أن يوحي إليه هذا الجو الفاتن أنشودة (الجندول) الموسيقية الرائعة الرقيقة الخالدة. . .

وهو اليوم في (بحيرة كومو) التي جذبت إليها كثيراً من الشعراء فألهمتهم أرق أشعارهم وأعذب أغانيهم؛ فلا يلبث أن تلهمه أنشودة بارعة، ويهديها إلى صديقة أمريكية كانت ترافقه

وهو اليوم في مدينة (زيوريخ) على شاطئ بحيرتها، حيث الاحتفال بعيد سويسرا الوطني الأكبر، بين المواكب الصاخبة المرحة، وأنوار المشاعل، والأسهم النارية، وأضواء معرضها العظيم؛ فتوحي إيه المفاتن الساحرة. . . أنشودته الساحرة (تابيس الجديدة)

وهو اليوم على ضفاف (نهر الرين) ذلك النهر الذي يتفرد بجنبات أعنابه، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية؛ فيوحي إليه هذا الجو الرائع الجميل قصيدة (خمرة نهر الرين) ثم يهديها إلى صديقة سويسرية التقى بها هناك. . .

وهكذا وهكذا ترى شاعرنا سارحاً متنقلاً في أمكنة الفتون والجمال، وهو في كل مكان سعيد محظوظ مغامر. له فيه محبوبة سعيدة محظوظة مغامرة؛ فجاءت أشعاره لها طابع خاص تمتاز به من بين سائر الأشعار. . .

أكبر الظن أن شاعرنا ليس عاشقاً متيماً ولا غزِلاً متهالكاً فهو يوافق (دانزيو) الشاعر الإيطالي العظيم في قوله: (ما معنى أن يخلص الشاعر لامرأة واحدة، وهل في وسع الشاعر أن يجمع الجمال كله في وجه واحد أو في منظر واحد؟ لابد لخيال الشاعر من أفق لا نهائي دائم التجدد دائم التحول دائم الحركة) ولقد أجهدت نفسي في أن عرف لشاعرنا من شعره محبوبة واحدة تشقيه وتسعده وتهجره وتصله حتى يشعر في حبه بالحرمان والسعادة فما وصلت إلى ما أردت أن أعرفه. . . وقد يكون هذا (في عقيدتي) هو السر في أن شعر شاعرنا غنائي فطري، له جرس ورنين في مفرداته وتراكيبه، تشيع فيه المسرة والبهجة وتغمره البشاشة والطلاقة. . .

يعجبني من شاعرنا أنه صريح صادق، يعبر عن إحساسه وشعوره وحياته بلا تدجيل أو مداواة؛ فأنت لا تكاد ترى شاعراً من شعرائنا المعاصرين من يصرح فيقول:

ملأت بتفاحتها راحتي ... وبت لكرمتها عاصرا

أو يقول في التي (علمته كيف يحب وكيف يكره):

إذا فتح الباب تحت الظلام ... فكيف ارتماؤك في صدرها؟

وكيف طوى خصرها ساعداك ... ومرت يداك على شعرها

وما هذه؟ رعشة في يديك ... أم الكأس ترجف من ذكرها لقد دنس الجسد الآدمي ... حياة حرصت على طهرها

بكى الفن فيك على شاعر ... تسائله الروح عن ثأرها

نزلت بها وهدة كم خبا ... شعاع وغيب في قبرها

كذلك لا ترى معاصراً يقول مثل قوله يحث صديقته في (بحيرة كومو) على أن تنفي الحذر عنها وأن تعذره إن طغت روحه، أو ثأر جسمه:

ما تسرين؟ أفصحي ... إن في عينك الخبر

الغريبان ههنا ... ليس بجديهما الحذر

نحن روحان عاصفان ... وجسمان من سقر

فاعذري الروح إن طغى ... واعذري الجسم إن ثأر

أو مثل قوله في تاييس الجديدة):

أأنا الغريب هنا وملء يدي ... أعطاف هذا الأعيد المرح

خفقت على وجهي غدائرها ... فجذبتها بذراع مجترح

عرضت بفاكهة محرمة ... وعرضت لم أنطق ولم أبح

يا رب صنعك كله فتن ... كيف الفرار، وكيف مطَّرحي

هذا شعر رائع جميل، له وقع في النفس، ونشوة في القلب وما روعته وجماله إلا من صدق تعبيره، وصراحة أدائه، ثم من حيويته واتساعه وغليانه. . .

كذلك يعجبني من شاعرنا الرقيق أنه شاعر مصري صميم - على الرغم مما يعيبونه به من أنه شاعر الطبيعة الغربية - فهو لا ينسى بلاده حتى في تلك الأوقات الجميلة التي يقضيها في هذه الأجواء السحرية الناضرة. بل إنه ليكون غارقاً في لذته وبهجته وسكرته، ثم يهزه الحنين لنيله الجميل، فيمسك قيثارته ويغني في فخر ومباهاة:

قلت: والنشوة تسري في لساني ... هاجت الذكرى فأين الهرمان

أين وادي السحر صداح المغاني ... أين ماء النيل أين الضفتان

آه لو كنت معي نختال عبره ... بشراع تسبح الأنجم إثره

حيث يروي الموج في أرخم نبره ... حلم ليل من ليالي كيلوبتره

وهناك في (بحيرة كومو) - حيث الجمال والسحر - يهز الشاعر حبه لوطنه، فينطلق قائلاً، وهو جالس بين كؤوسه وغادته، غارق في نعيمه وحظه وصفائه:

أين وادي النخيل أم ... قاهرياته الغرر؟

إن مما يزيدني إعجاباً بهذا الشاعر أنه صاد في شعره. وفيّ لفنه، وأنه ذو شخصية مستقلة لا تندغم في شخصية أخرى، وأن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها من بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. . .

لكم وددت لو كان بإمكاني أن أتخطى بالقارئ خطوة خطوة مع شاعرية صاحب (ليالي الملاح التائه) فهي في تجوالها قد سلكت شعباً كثيرة، وطرقت أبواباً عديدة، ومن كل سياحة ساحتها قد عادت بآثار طريفة وتذكارات ثمينة. والديوان حافل بمثل هذه الآثار والتذكارات التي تفسح مداه وتفرج صدر قارئه. . .

وأخيراً. . . لقد انتهيت بدون أن أنقد شاعرنا الملهم، ويعلم الله أنني كنت أود أن عثر على أغلوطة أو سقطة؛ ولكني عبثاً حاولت. غير أنه يسرني أن أطلع شاعرنا على هنات طفيفة ما أخالها شيئاً، فمثلاً قول الشاعر في أغنية الجندول):

قلت والنشوة تسري في لساني ... هاجت الذكرى فأين الهرمان

كان الأحسن من ذلك أن قول (في كياني) لأني لا أتصور ولا يتصور أحد معي تلك النشوة التي تسري في اللسان. وفي الأغنية نفسها اضطراب في صورها، فليس فيها وحدة ولا اتساق. ولقد رزقني الله حلاوة الصوت. فكنت إذا غنيتها على عودي وأنا منتقل على خيالي في الجو الذي نظمت فيه شعرت باصطدام وحواجز تقفني عن متابعة طربي خصوصاً في مقطعها الأول. وفي الأغنية مقطع رائع وهو:

آه لو كنت معي نختال عبره ... بشراع تسبح الأنجم إثره

حيث يروي الموج في أرخم نبره ... حلم ليل من ليالي كيلوبتره

وأنا أذكر أني قرأت هذا المعنى الجميل البارع الذي يعد أحسن ما في الأغنية مترجماً عن الإنجليزية. فهم يذكرون أن الشعراء الثلاثة كيتس وشلي وليهند اتفقوا على أن ينظم كل واحد منهم قصيدة في النيل فكان مما قاله ليهند هذا المعنى الجميل. وما كنت لأشير إلى هذا لولا أن الأدباء يرفعون هذا المعنى إلى السماء. فأردت أن أبين أصله. . . ويقول الشاعر (في بحيرة كومو): ثمر ناضج الجني ... كيف لا نقطف الثمر

وأنا أفهم أن الثمر هو الجني

ويقول الشاعر في (مصرع الربان):

وغاب كل مشيدٍ غير قبعة ... ذكرى من الشرف العلي وتذكار

والذكرى والتذكار معناهما واحد

ويقول الشاعر في (مهرجان الزفاف) يريد السيوف:

أو ما لها الماضي فجن حديدها ... حتى تكاد بغير كف تمشق

والمتنبي يقول: (حتى تكاد بغير كف تضرب) وهو طبعاً أحسن من الأول. فكان حقه أن يأتي بالمعنى كاملاً

وهذه طبعاً هنات طفيفة لا تغض من قيمة شاعرنا العزيز. وكفاه رفعة وسمواً أن تكون هذه مآخذنا في وقت أصبحت فيه الدواوين الشعرية مهزلة وسخفاً!. . .

عبد العليم عيسى