مجلة الرسالة/العدد 355/في سبيل الأزهر الجديد

مجلة الرسالة/العدد 355/في سبيل الأزهر الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940


من بشائر الأمل في النهوض ودلائل الثقة بالفوز أن النفوس الشابة مهيأة لدعوة التجديد ورسالة الإصلاح؛ فهي كالأرض الطيبة تشتمل على مذخور الحياة وموفور البذر ثم لا تنتظر غير الفلاح والغيث

منذ أخذنا على بعض العلماء اشتغالهم بالمراء الباطل والبحث العقيم، وقوفهم عند المماحكة في اللفظ والمعاياة بالاعتراض، وتركهم أصول الدين تشتجن عليها الأضاليل والبدع، والرسائل تنثال علينا من شباب المراغي في أقسام الأزهر وكلياته يشايعوننا على الرأي ويسألوننا أن نزيد.

و (شباب المراغي) تعبير لم نضعه، وإنما وجدناه في جميع الرسائل التي أُلقيت إلينا؛ فهو إما إلهام جاء من اتحاد النية، وإما اتفاق أُبرم على إدارة الإصلاح.

نعتقد مخلصين أن الأزهر إذا استكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.

كذلك نعتقد مخلصين أن رجعة الأزهر إلى ماضيه البعيد خير له وللناس من جموده على شأنه الحاضر. والرجعية لا يمكن أن تكون في منطق الطبع سبيلاً إلى التقدم، ولكنها في نظام التعليم الأزهري خرق لهذا القانون لا ينكره العقل. ذلك لأن رجعية الأزهر معناها العودة في استنباط الدين إلى منابعه الأولى من صريح الكتاب وصحيح السنة، وفي فقه الأحكام إلى مثل كتابي الأم والرسالة للشافعي، وفي تعليم النحو إلى كتاب سيبويه وخصائص ابن جني، وفي تدريس البلاغة إلى كتب عبد القاهر وأبي هلال. وفائدة هذه الرجعية الخلوص من أمثال الجمع والهمع، وما حشد الأعاجم في عصور الشروح والحواشي والتقارير مما أفسد الملكات وأفند العقول وصرف الأذهان عن جوهر الدين ولب العربية وسر البلاغة.

إن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة. فإذا حثر ذوق العربية في رجاله بما قمش السكاكي والفنري وملا جلبي من الغثاء والهراء، تقطعت الأسباب بينهم وبين محمد فضلوا سبيله وجهلوا علمه. فالدين الإسلام والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ أو الفكر والأداء. ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ والزمخشري ومحمد عبده ورشيد رضا والمراغي. أما المضمضة بالألفاظ الاصطلاحية والجمجمة بالجمل المعقدة على أنها هي العلم والأدب، فتطور إلى العكس لا يجوز أن ينتج إلا ما نحن فيه

من الطبيعي أن ينشئ هذا الكلام في ذهنك هذا السؤال فتلقيه عليَّ: إذا كان المراغي أجدر الناس بإصلاح الأزهر كما نعتقد؛ وكان شباب الأزهر راغبين في هذا الإصلاح مؤمنين بقدرة شيخهم عليه كما نرى؛ فما الذي يعوق هذا الإصلاح ويعارض هذه الرغبة؟. . . والجواب المفصل عن هذا السؤال يقتضي شيئاً من الصراحة لا تحتمله بعض النفوس فيما أظن. فإذا وقفنا عند الأسباب الظاهرة المباشرة قلنا إن إصلاح الأزهر لا يمكن أم يتم في سنتين أو في أربع، لأن ملاك هذا الإصلاح منوط بأمرين اثنين: أحدهما إعداد المعلم، والآخر تأليف الكتاب

فأما إعداد المعلم فيقوم على أن يكون متمكناً في علوم الدين وصاحب ملكه في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفى نصيب. وهذا الإعداد على هذه الأساس لا يؤتي ثمرة قبل عشر سنين إذا أخذوا منذ اليوم يتنخلون ممن تخرجهم أقسام التخصص المختلفة في كل سنة نوابغ الفقهاء والأدباء، ثم يبعثون بهم إلى جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا ليبلغ كل منهم أقصى الدرجات في العلم الذي أخصى فيه. ولك في الأساتذة البهي وماضي ومحمد يوسف موسى شاهد صادق على فضل هذا الإعداد وأثره

وأما تأليف الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه. ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة صح لك أن تقول: (إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تُدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة)

ذلك فيما نعتقد ما كان يعنيه صاحب الجلالة المغفور له الملك (فؤاد) حين قال لأحد كبار العلماء: (إن أنجع الوسائل في إصلاح الأزهر أن يغلق عشر سنين ثم يفتح من جديد) وذلك فيما نعتقد أول الإصلاح الأزهري وآخره. وما دام التعليم الديني قائماً على براعة المعلم في حل المعميات وخلق الاعتراضات، وإمعان الكتاب في الاستطراد والاستغلال والحشد، فهيهات أن يتجدد الأزهر وإن شيد بالمرمر وفرش بالطنافس وأنير بالكهرباء!

أحمد حسن الزيات