مجلة الرسالة/العدد 356/القصص

مجلة الرسالة/العدد 356/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1940



عيد الربيع

للأستاذ محمد سعيد العريان

منذ عام لم تكن (نُضار) في مثل حالها اليوم. . . شتان بين ما كانت وما صارت!

هاهي ذي تخرج اليوم من محبسها الذي اعتزلت فيه الناس أشهراً لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!

لم يكن ثمة ما يربطها بالناس بعد ما مات أبوها وهجرها خطيبها؛ فما شأنها وشأن الناس وما ترجو منهم وما يرجون؟

لقد عرفت من طباع الناس وهي معتزلة بعيدة أكثر مما كانت تعرف وهي تخالطهم وتعيش بينهم؛ وكذلك لا تتكشف حقائق الأشياء لمن يراها إلا على مبعدة!

منذ عام مات أبوها، وما كان لها في الحياة غير أبيها وغير خطيبها (رشيد)، وكانت تعيش من بيت أبيها في نعمة سابغة وظل وارف؛ ولم يكن لأبيها - منذ ماتت زوجهُ - غاية يسعى لها غير إسعاد ابنته؛ فَقَصر عليها عواطف قلبه ونوازع وجدانه وعاش لها، لا يرى لنفسه حقاً في متاع من متاع الرجال ما دامت ابنته سعيدة!

وكان لأبيها وظيفة ذات أبهة ومظهر، وكان لها جمال يفتن ويسحر؛ فتهافت الشبان على التماس رضاها والحظوة عندها، ولكن فتى واحداً هو الذي استطاع أن يحملها على الإذعان والرضا؛ وعرفها رشيد وعرفته، وعرفه أبوها، وتواعدا على ميعاد تنتقل فيه (نضار) من بيت أبيها إلى بيت رشيد!

. . . وعاشت حيناً سعيدة بأحلامها، لا يشغلها همٌّ من هم الحياة واستيقظت فجأة من أحلامها حين وجدت أباها مُسَجَّى في فراشه والطبيب بجانب سريره ناكس الرأس أسوان؛ ورأت في عيون الرجال من عُوَّاد أبيها دموعاً تترقرق فصرخت في لهفة: أبي. . .! وتلاشى الصدى ولم تسمع جواب أبيها. . . ودنا منها خطيبها يواسيها وفي صوته نبرة حزن، ولمعت دمعة بين أهدابه فأطبق جفنيه ولوى وجهه. . .

وخرج أبوها من الدار إلى غير مَعاد، وخرج خطيبها يشيع الجنازة فلم يعد، ولبثت الفتاة وحدها تنتظر. . .

وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد. . . وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائداً من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادماً لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها. . .

بلى لقد عرف رشيد من شئون صاحبته ما لم يكن يعرف. . فاتخذ طريقاً غير الطريق التي كان يسلكها كل يوم، وماذا يحمله على الزواج من فتاة ليس لها جاه من أهل ولا غنى من مال، وهو لو شاء لوجد عند غيرها الجاه والمال والسعادة. . . هكذا قالت له نفسه، فمضى وخلّفها. . .!

لقد كان أبوها هو كل ما تملك من غنى وجاه، وقد مات أبوها، فماذا بقي؟

ومضى شهر، وراحت نضار تقبض (المعاش) الشهري الذي فرضته لها الحكومة بعد موت أبيها. . . وعادت وفي يدها ثلاثة جنيهات. . . ذلك كل ثروتها، وكل العوض من أبيها الذي مات!

وفي اليوم التالي كانت عربة نقل كبيرة تحمل متاعها من البيت الذي عاشت فيه هي وأبوها ما عاشت. . . إلى غرفة مفردة على سطح بيت كبير من بيوت الحي؛ وكانت الخادمة تحمل صرة ثيابها ذاهبة. . .

وتغيرت منذ اليوم عيشة نضار، وانقادت صاغرة لما فرضت عليها الحياة!

ولزمت غرفتها على السطح، لا تفارقها إلا لحاجة، واعتزلت الناس لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!

ومضى عام. . . وهاهي ذي اليوم تفارق محبسها لغير حاجة، تلتمس جديداً في حياتها المملولة الجافة التي تحياها منذ مات أبوها. . . اليوم عيد الربيع. . . وقد خرج الناس من بيوتهم جماعات مبكرين إلى شاطئ النيل، وإلى حدائق الجزيرة ورياض الجيزة والقناطر الخيرية، يتملون جمال الحياة ويتمتعون بما أحل الله وما حرم من طيبات وخبائث. . .

وذكرت نضار ما كان من ماضيها. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذاك على المقعد الخشبي في شارع (مسبيرو) وعليها ذلك الثوب الأسود الحائل، وفي عينها تلك النظرة الساهمة، وفي وجنتيها هذا الشحوب. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذلك فيعرفها ويذكر ما كانت. . .؟

لقد آثرت ذلك المكان القصي الذي لا يطرقه أحد ممن تعرف من سكان الحي، لتكون بنجوة من عيون الفضوليين؛ أفكانت تحسب أن أحداً من أهل الحي يعرفها حين يراها، أو يذكرها؟. . . ولكن فيها بقية من حسن الظن بالناس!

ومرت بها مواكب الأطفال في ثيابهم وزينتهم، يحملون في أيديهم طاقات الزهر، وينفح من أعطافهم عطر الربيع وريحانه؛ وتتابعت أسراب الفتيات في غلائلهن الموشاة وأزيائهن الفاتنة يتمايلن ضاحكات عابثات عبث الصبى والدلال؛ ومضت طائفة من الفتيان في آثارهن يغنون ويتطارحون أناشيد الهوى والشباب والأمل المنشود؛ وكان على الشاطئ فتيان يقرعان كأساً بكأس؛ وعلى المقعد القريب فتى وفتاة يتناجيان في همس؛ ومرت سيارة تتهادى وفيها اثنان ينشئان قصة حب. . .

ونضار جالسة على مقعدها وحدها، تسمع وترى وتذكر صوراً من ماضيها، وذكرت فتاها الذي كان، وذكرت أباها. . .

في مثل هذا اليوم. . . منذ عام. . . كانت وكان. . . وعادت إلى ماضيها، واستغرقت في حلم طويل. . .

ومر بها فتى، وتبادلا نظرتين، وأطرقت نضار من حياء وعادت إلى ذكريات ماضيها، وخطا الفتى إليها خطوة، وكانت على شفتيه ابتسامة. . . وفي عينيه نظرة تعبر عن معنى. . . وقال لها: أنت وحدك وأنا وحدي!. . .

وتضرمت وجنتاها حياءً وغضباً وسكتت؛ وعاد الفتى يتم حديثه. . . ونظرت إليه ثانية وهمت أن تتكلم، ثم أمسكت. . . فليقل ما يقول ثم يمضي لشأنه؛ ليس ينبغي لمثلها أن ترد على مثله. . . وخطا الفتى خطوة أخرى جلس على طرف المقعد؛ فجفلت الفتاة ونهضت وفي عينيها غضب وسخرية!. . .

واستيأس الفتى فمضى لشأنه، وعادت الفتاة لشأنها. . . وتعاقبت على عينيها صور. . . وترادفت مواكب الفتيان والفتيات، وتجاوبت أناشيد الهوى والشباب، ورن الصدى في أذنيها؛ وذكرت فتاها. . . وحنت إليه، واصطرعت في نفسها عاطفتان، فرضيت ثم سخطت، وترقرقت في عينيها عبرة. . .

. . . واتخذت نضار طريقها إلى مأواها وفي نفسها ألم، وإن ضحكات المرح والمسرة تتجاوب حواليها؛ ومضت تحدث نفسها وتستمع إليها، وفجأة برز لعينيها منظر. . . هذا رشيد وفتاة معه، يا ويلتا! إنه لهو، وتلك صديقتها (سعدية) وما لرشيد وسعدية؟. . . وأين وأيان اجتمعا؟. . . أتراه حين هجرها أبدل بها صديقتها؟. . . ولكن سعدية مسماة منذ سنوات على ابن عمها. . . أتراها هجرته بعد أن مات أبوه. . .؟

وخنقتها عبرة، ودار رأسها وكادت تسقط، فاستندت إلى الحائط؛ وتوارى الفتى وفتاته في زحمة الناس؛ وثابت نضار إلى نفسها، فاستأنفت السير؛ وكان فتيان وفتيات يزحمون الطريق مثنى مثنى، وكأن كل اثنين من نجواهما في خلوة. . ومضت تشق طريقها وفي نفسها عواطف تصطرع وتثور؛ وهتف هاتف في أعماقها: أكل أولئك. . . وأنت وحدك. . .؟

وهمت أن تعود من حيث أتت، فتجلس ساعة على المقعد الذي كانت تجلس عليه في شارع مسبيرو، على الشاطئ النيل. . . حيث قال لها فتى منذ قليل: أنت وحدك. . . وأنا وحدي. . .! فمالها طاقة على مثل هذه الوحدة الذليلة. . . واليوم عيد الربيع. . .!

وصرت أسنان الفتاة، وقمعت خواطرها، واستأنفت السير، وراحت تسائل نفسها: أكذلك الحياة؟ ليتني لم أكن أعلم. . .!

وراحت تصعد السلم درجة درجة وهي تعد، وكان البواب جالساً يهمس في أذن ضيفه؛ ورنت ضحكة البواب وصاحبه في أذنيها، فوقفت وأحمر وجهها من الغضب؛ أتراه يحدّث صاحبه عنها؟ فماذا يقول؟. . . أم تراه يحسبها فتاة كبعض مَن رأت اليوم؟ ومِن أين له أن يعرف حقيقتها؟. . .

وما ظنُّ الناسِ بفتاة عزباء، تعيش وحدها في غرفة على السطح، ليس لِباب السطح بواب، تخرج حين تخرج وحدها وتعود حين تعود، لا يعرف أحد أين ذهبتْ ومن أين جاءتْ؟

. . . وتماسكتْ من ضعف، واستأنفت الصعود. . . وبلغتْ غرفتها فارتمت على سريرها باكية!

وأخذتها غفوة واستيقظت أحلامها؛ ولما صحْت من غفوتها بعد ساعة؛ كانت نظرتها إلى الحياة غير ما كانت. . . وماذا يجديها أن تحرص على التزام الجادة والناس هو الناس، وكل فتاة عندهم ككل فتاة؟

. . . وجلستْ نضار إلى المرآة تتزين - المرآة التي لم تجلس إليها منذ عام مجلسَ فتاةٍ إلى مرآتها، ونفضت الغبار عن حقيبتها، وراحت تبحث فيها عن شئ من تراث الماضي. . . وخلعت ثوب الحداد الذي لم تغيره منذ لبسته. . .!

وسمعتْ طرقاً على الباب. . . وفتحت. . . فابتدرها البواب يُؤذنها أن فتى بالباب يسأل عنها، وابتسم. . . وشحب لونها، وقالت في صوت يرتعش: ما اسمه؟ وماذا يريد؟. . .

ولكن البواب لم يكن يعرف أسمه ولا ماذا يريد؛ فما كان يعنيه إلا أن يؤذنها أن زائراً يسأل عنها، ثم هبط مسرعاً. . .

وأطلَّتْ الفتاة وراءه لترى، ولكنها لم تر. . .!

. . . لقد غشيتها الدموع وحضرتها الذكرى فما تستطيع أن تسمع أو ترى أو. . . تفكر!

منذ عام لم يهتف هاتف باسمها ولم يزرها زائر. . . فمن يكون هذا الطارق؟. . .

وعاد إليها البواب برسالة في يده قبل أن تجد نضار جواب سؤالها؛ وتناولت منه الرسالة بيد ترتجف، وراحت تقرؤها وهي في طريقها إلى غرفتها. . . وسقطت دمعتان على القرطاس في يدها وكانت تبتسم. . . ولم تفطن إلا بعد حين أن البواب لا يزال منها على مقربة؛ ولأول مرة منذ سكنت هذه الغرفة المفردة، شعرت أن من الواجب عليها أن تمنح البواب شيئاً. . . فعادت حقيبتها الصغيرة ومدت يدها إليه بقروش. . .!

وأغلقت بابها وراحت تعيد قراءة الرسالة؛ ثم رفعتها إلى شفتيها فقبلتها قبلة، وهمست: نعم، أحبك لأنك أنت. . .

وحتى في خلوتها لم تنس أنها امرأة. . فعادت تقول: نعم. . .

لأنك أنت تحبني حين لم يذكرني أحد!

ثم طوت الرسالة وأخفتها في صدرها. . .

كان (سامي) يعرفها من زمان، وكانت تعرفه؛ ورآها ذات ليلة تحدثه في منامه ويحدثها فطمع. . . وكان مجمعاً أمره على خطبتها حين جاءه النبأ بأنها سمَّيت علي رشيد، فطوى جوانحه على آلامه وسكت. . .

وضربت بينهما الأيام فصعدتْ بها إلى غرفة في السطح، ورمت به النوى من بلد إلى بلد إلى بلاد، ثم عاد ليعرف من أمرها ما عرف. . . فكتب إليها. . .

. . . وتم أمرهما على ما أرادا وأظلهما سقف واحد، وابتسمت لها الأيام بعد عبوس! ومضى عام وجاء عيد الربيع، وقال لها: أين تريدين يا عزيزتي أن نمضي يوم العيد؟

وتغشَّتها الذكرى فأطرقتْ وفي قلبها عواطف تصطرع، ثم رفعت رأسها وقالت وهي تبتسم: أتريد يا سامي؟. . . إنني أفضل أن نجلس على مقعد خشبي على شاطئ النيل، في شارع مسبيرو، ثم نعود. . . . . .

وضحك سامي دَهِشاً وهو يقول: على مقعد خشبي؟ في شارع مسبيرو؟ يالها فكرة! بربك لماذا؟ وأي خاطر ألهمك؟

قالت وفي عينيها بريق وفي صوتها حنان وفي أعطافها نشوة: تسألني لماذا. . .؟ لأنكَ أنت هناك. .! حيث التقينا أول مرة في خطرة فِكر وخفقة قلب، وكنتُ وحدي هناك ولكني كنتُ معك. . .!

محمد سعيد العريان