مجلة الرسالة/العدد 357/فن الحياة

مجلة الرسالة/العدد 357/فن الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1940



للدكتور إبراهيم ناجي

الحياة فن جميل. لا، بل عدة فنون متصلة مندمجة، تكون فناً واحداً، هو فن الحياة

وأكثر الناس لا يعرفون كيف يعيشون. أجل، أكثر الناس يتخبطون في ظلام دامس. ولذلك تكون حياتهم شقاء هم السبب فيه

قد تعترضون بأن من أسباب الشقاء ما لا قبل لنا به ولا يد ولا رأى؛ ولكني أرد بأن أكثر الشقاء - ولا أقول كله - هو من مخيلتنا ومن اعتيادنا ومن البيئة التي نوجد فيها

قلت أن الحياة فنون!

ولكن ما هي الحياة أولاً؟ وما هي الفن ثانياً؟

الحياة مطابقة لما بين الدنيا الخارجية والدنيا الداخلية. والفن هو المعرفة مضافة إلى الطبيعة؛ أي الملاءمة بين الداخل والخارج فالحياة والفن من عنصر واحد. فالحياة الفن والفن الحياة

قلت إن الحياة ملائمة بين ما في الخارج والداخل. ويسمى العالم الخارجي (الما كروكزم) أو العالم الكبير، والعالم الداخلي (الميكروكزم) أي العالم الصغير

فما معنى هذا؟

معناه أن انعكاس العالم الخارجي على مرآة أنفسنا هو الذي يشكل الحياة ويعطيها الصورة الخاصة بكل منا، وكلما كانت الصورة المنعكسة على مرآة أنفسنا مطابقة للأصل كانت الحياة أقرب إلى الفن والكمال

وكلما كانت الصورة مشوهة أو مقلوبة أو مبتورة كانت الحياة بعيدة عن الفن والكمال

كيف إذن نجعل هذه الصورة مجلوة على حقيقتها، كحقيقة السماء في أعمق بحيرة في صيف جميل؟

إننا في الحياة نقوم بأشياء كثيرة ملخصها ثلاثة أشياء:

التفكير والحب والعمل

والتفكير فن والحب فن والعمل فن. . .

وقد قسم العلماء التفكير إلى نوعين: التفكير بالجسد، والتفكير بالكلمة. . .

والتفكير بالجسد أقواها وأضبطها، ولكنه محدود ضيق الأفق. فمن ذلك التفكير تفكير القطة التي تثب، والملاكم الذي يضرب. فهذان يفكران بالعين واليد أو القدم، وهذا يسمى تفكير الغزيرة. ويقول أندريه موروا: إن أرقى أنوع التفكير هو الذي ينتقل من التعقل من الغزيرة. يعني بذلك الذي ينتقل من دور التحليل والمنطق إلى دور التنفيذ السليم بوساطة الغزيرة التي تملي على أعضاء الجسد فتقوم بالعمل وتؤديه على أحسن حال.

وهناك التفكير بالكلمة، وهو أشد أنواع التفكير خطراً وأبعدها مدى، وهو كذلك أكثرها تفككاً وإبهاماً. فإن كلمة واحدة تثل عروشاً، وتقلب دولاً، وتغير نظاماً. وإن كلمة واحدة في ميدان السياسة أو الاقتصاد لتفسر ألف تفسير وتؤول ألف تأويل

ما هي قواعد التفكير السليم؟

إن التفكير السليم لشيء نعتاده كما نعتاد أي شيء

فالإنسان (حزمة) من العوائد كما قال ويليم جيمس

والتفكير السليم يكون أساسه أمرين:

الأول: الإيمان بالقواعد التي أثبتت الأجيال صحتها، واتفقت التقاليد المتوارثة على التسليم بها. تلك أصول ثابتة في النفس الإنسانية لا سبيل إلى إنكارها ولا الخلاص منها، وعبث محاولة التفلت من جذور امتدت في أعمق أعماق السرائر الإنسانية وبقيت هناك، وإنما الشجرة التي تنمو من تلك الأعماق وتصل إلى النور والشمس هي التي يباح لها أن تحلق وتتساءل وتبحث. مثل ذلك مثل الطيار الذي يستكشف وهو بعد جزء من الجيش الذي ينتظر إشارته ليهتدي، ثم ينتصر

والأمر الثاني، الأساس الثاني للتفكير هو أمر ديكارتي محض. ديكارتي أي يوقن بعظمة العقل الإنساني وإمكانه التحليل والتعليل والوصول. وهو يبني قدرته على الشك المستند إلى قواعد ثابتة من القضايا المنطقية التي أسلمتها الإنسانية من جيل لجيل

ويتفرع من الأمرين أمر جدير بالتدبر

وهو أنه لكي تكون الصورة المجلوة في نفوسنا سليمة والمرآة غير مجرحة، يجب أن تستبعد الأوهام والخزعبلات والأباطيل، يجب أن تستبعد الفكر الزائفة والأقاويل السخيفة والترهات.

هذا أساس التفكير وهو الفن الأول

أما الفن الثاني فهو الحب؛ ويتفرع منه الصداقة أو هو أبوها وسيدها

إن رأي فرويد أن الدنيا قامت على الحب وعلى الحب وحده؛ وقد تختلف صوره وتتباين أشكاله. فهو حب للوالدين حيناً وللرفاق حينًا وللجنس المخالف ما تبقى منه. وهو عند فرويد خط مرسوم كالقطار يسير من محطة إلى أخرى ما بتر منه أو اقتصد فيه أو شوه، يغير وجه الحياة بحالها

ويقول علماء التناسل: إن الشاب والشابة في سن المراهقة ينشغلان بتصوير المثل الأعلى كل في ناحيته، والأصل في المثل الأعلى عند الشاب امرأة، وعند المرأة رجل، ولكنه لما كان في تلك السن يستحيل تحقيق ذلك المثل، فإن المراهق ينصرف إلى تخيل المثل الأعلى على هواه، فحيناً يكون ذلك شعراً، وحيناً يكون موسيقى، وحيناً تصويراً

وهنا منشأ الفنون الجميلة

فإذا أراد الله تحقيق حلم من أحلام الشباب وجب أن يعلم كل منهما كيف يحب وكيف يستبقي ذلك الحب

وإذا علم كيف يستبقي حبيبه علم كيف يستبقي صديقه

فيجب على الرجل أن يلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة المرأة. ويجب على المرأة أن تلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة الرجل، فأكثر الخلاف بينهما ناشئ من قلة الفهم. كل يتهم الآخر بما ليس فيه، أو يضيف إليه ما ليس عنده

فالحب ليس عنصراً واحداً بسيطاً، بل هو مزيج مركب من الإعجاب، والجنس، وحب الملك، والاعتياد

فلا بد من الإعجاب أولاً. لابد من تلك الصدمة التي تعتري الإنسان أولاً. وثانياً، لابد أن يكون طبيعياً كما أرادت الطبيعة. وثالثاً لابد من أن يحب الواحد منهما الآخر حباً يغرى بالانفراد، ثم بكشف النفس وفتح مغاليق القلب في غير تكلف ولا تصنع. ثم أخيراً لابد أن يعتاد الواحد الآخر، لابد أن يتآلفا باتفاق الميول وتشابه الأهواء. ويقول العلماء إن هذا الاعتياد هو الأسمنت الذي يربط العناصر الأخرى بعضها ببعض

وطبيعة الرجل في أساسها أنه مغامر مفروض فيه القوة والجبروت والقدرة على الحماية، مفروض أنه الجندي المحارب

وطبيعة المرأة في أساسها الأمومة، وما يتفرع عن ذلك من حنان

وهي التي تهيئ الوسادة المريحة للجندي، وتبني له العش الهادئ الجميل. فمفروض إذن أنها تنال بالبساطة والوداعة والصبر، مادام أساس طبيعتها الحنان، حنان الأمومة. فمهما عصفت وثارت، يجب أن يعرف الرجل أنه في وسط العاصفة كالربان الماهر في البحر الثائر يصبر على العاصفة ولا يكرهها، ويتنكر له البحر ولا يزال يحبه.

وبهذا المقدار من الفهم عند كليهما تبقى المحبة بينهما ثابتة. ويبقى أن نؤكد أن أساس المحبة والصداقة معاً، أن يتجرد الإنسان من الأنانية. يجب أن يعطي لكي يأخذ، فأكثر الناس يأخذون ولا يعطون، وبذلك يفقدون أحبابهم ويفقدون أصحابهم.

ونؤكد أكثر من ذلك أن أساس المحبة والصداقة أمور صغيرة تقوم عليها الحياة، وتقوم عليها الدنيا، وتقوم عليها المحبة والصداقة

فالعظائم لا يقوم بها الرجل الذي لا يقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم، وكيف نقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم؟

إننا في الغالب ننسى المناسبات الصغيرة التي لو انتهزناها فتذكرنا أصدقاءنا أو أحبابنا لقيدت تلك السلسلة الرقيقة أحبابنا أو أصدقاءنا بقيود مدى الحياة، كلمة صغيرة، هدية تافهة، لحظة تنتهزها للسؤال عنهم، رنة التليفون في عيد الميلاد، تلك أشياء ينساها أكثرنا، وبذلك تفتر الصداقات وتموت المحبات ووقودها تلك الأمور التوافه. . .

هذا فن الحب، ويبقى فن العمل

العمل قوام الحياة والدعامة التي تقوم عليها. بل هو الدريئة التي نستتر وراءها لننسى متاعبنا وأشجاننا؛ فما دمنا نعمل فنحن في شاغل من عملنا، لا نبالي بسفالات الناس، ولا بأقاويلهم، ولا بسخافاتهم. ولكن هل مجرد العمل يكفي؟

كلا، لابد أن يكون العمل مثمراً، لابد من الجني الشهي، لابد من الراحة بعد التعب. والراحة ذلك الجني الشهي!

حقيقة أن المواهب تختلف، وأن الله ينعم على هذا بالعبقرية ويجعل ذلك في مستوى العامة

ولكن حتى العبقرية تموت إذا لم يتعهدها العمل المنظم.

ورحم الله شوقي حين قال: (السيف يزدهي بالصقال!)

فقد كان جيته لا يخجل من ترتيب عمله

وكانت ساعات عمله منظمة، وهو العبقري المشهور

وكان لا يخجل أن يطرد عنه الزائر البغيض

وكان يقول الذي يشغله في جرأة: أرجوك أن تنصرف، فإني مشغول

وفي الأمثال: أثقل الثقلاء من شغل مشغولاً!

ولكننا نتورط، ونجامل، وبذلك نضيع وقتنا

ومن أسرار السعادة أن نتبع الأفضل، ولا نتبع سبيل المجاملة. وقد قال المرحوم أحمد عبد الوهاب باشا: إن من أسرار النجاح أن تقول (لا) حين يجب أن تقولها

إن هذا التورط ضرب من الفوضى، ضرب من قلة الضوابط التي يتبعثر بوساطتها الزمن وتتمزق الجهود

وقد قال أحد عظمائنا: إن آفة الشباب عندنا أنهم يجاملون وسطاً فيه (فرامل) لا يستعملها أهلها!

قال إديسون: إن العبقرية 99 % عَرَق!

يعني أن العبقرية لا تعني الكسل، بل الجهد الدائم، والحيوية المتدفقة

ولقد يخيل للذي يرى أثر العبقرية في الفنون، أن القصيدة أو الرسم، الذي قد يقوم به العبقري في ساعة أو بعضها من نتاج العبقرية وحدها. وهو واهم فإن خطاً واحداً يرسمه مصور هو جهد سنين، وبيت شاعر قد يلوح بسيطاً، ولكن هاته البساطة خلاصة عهود وأزمان من النصب والتعب

ويشترط في العمل أن تتخلله الراحة، ولا يهزأنَّ أحد بذلك، ولا يتخيلن أحدٌ أن الإنسان في راحته تنقطع الصلة بينه وبين عمله. . . كلا. فالعقل الباطن يشتغل دائماً، والإنسان في الراحة يستجم

هذه أسرار الحياة وفنها الرفيع

فلعلي أكون قد أصبت الحقيقة، والسلام عليكم ورحمة الله

إبراهيم ناجي