مجلة الرسالة/العدد 357/في أرجاء سيناء

مجلة الرسالة/العدد 357/في أرجاء سيناء

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1940


5 - في أرجاء سيناء

للدكتور عبد الوهاب عزام

علي ظهر هديان

أزمع أكثر الرفاق أن يذهبوا يوم الخميس إلى جيل سنت كترين وهو أعلى جبال سيناء ترتفع قمته إلى 8536 قدم، وفي قصص الرهبان أن القديسة كترينا حينما ماتت في الإسكندرية سنة 307م حملت الملائكة جثتها إلى هذا الجبل، وقد بقي منها جمجمة وذرائع يحفظان في الدير إلى اليوم

وآثر بعضهم أن يعكف على مطالعة الكتب في مكتبة الدير، وأما أنا فأزمعت أن أركب جملاً فأسير به في وادي الشيخ إلى القبر الذي يسمى قبر النبي صالح. قيل لي كيف تطيب نفسك عن رؤية الجبل العظيم أعلى جبال سيناء؟ قلت إن برحلي عقابيل من جبل موسى فلست أقوى على الصعود اليوم؟ قيل ولكن قمة سنت كترين تشرف بك على جبال بلاد العرب. قلت قد رأيتها عن كثب قيل: وتريك الخليجين معاً: خليج السويس وخليج العقبة قلت: لا أحتاج في تصديقكم إلى أن أرى بنفسي. قيل: إنه مشهد يتمناه كثير من الناس. قلت: ما كل ما يتمنى المرء يدركه

سار الرفاق إلى الجبل وخرجت فإذا جملان مرحولان فركبت أحدهما وركب محمد أفندي حشيش الطالب بكلية الآداب الثاني، وسرنا مغتبطين بهذه الرحلة الممتعة القريبة. فلما أفضى بنا الشعب الذي فيه الدير إلى وادي الشيخ أبصرنا الحاج سيد محرم الطالب بالكلية راجعاً من حيث توجه إخواننا إلى الجبل. قلت: ما خطبك؟ قال: تلبثت لأصور بعض المرائي فانقطعت عن الرفقة. قلت: خار الله لك سر معنا نتعاقب على الجمل. رحم الله حاتماً:

وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب

وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خِفّا، وأترك صاحبي

إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب

أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب

سألت صاحب جملي: ما اسم الجمل؟ قال هِدَيّان. وما اسمك؟ قال: فرحان. وسألت الآخ فقال: اسمي جبلي واسم الجمل صبيح وكان سادسنا صبيّاً فطناً لقناً يسمى سعداً، رآنا نتأهب للركوب عند الدير فتطوع لصحبتنا عسى أن يناله خير. مشى سعد وقد جعل يديه وراء ظهره تحت حزامه وأطبق أنامله بعضها على بعض، واستقام على الطريق يوحي إليك بمشيئته وحديثه اعتداده بنفسه. وهو صبي يكدح لرزقه ورزق أمه، فهو يحمل من أعباء الحياة ويشعر بكفايته لما يحمل. والرجولة بين العرب تبتدئ في العقد الثاني من سني العمر، لا تمتد الطفولة والصبي بينهم امتدادهما في المدن حيث ترى الرجل صبياً وقد جاوز العشرين وطالباً إلى أن يجاوز الثلاثين، وكهلاً متصابياً يعُدّ نفسه للزواج عند الأربعين. ومن أجل ذلك أمر رسول الله صلوات الله عليه أسامة بن زيد على جيش وهو في السابعة عشرة. وفتح محمد بن القاسم الثقفي الهند وهو في هذه السن. قال بعض الشعراء:

إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد

ساس الجيوش لخمس عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد!

وقال آخر:

ساس الرجال لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال

قلت لسعد: ماذا يسمى حزامك هذا؟ قال: مريرة. قلت من قولهم أمرّ الحبل إذا أحكم فتله

وكنا سألنا ونحن في الدير عن دجاج لطعامنا وكلفنا سعداً أن يفتش عن بعض الدجاج. وقابلنا طائفة من البدويات يقصدن الدير ابتغاء رزقهن من الخبز، ومال سعد إليهن فسلم عليهن وكلم إحداهن. وقال أحد الجمالين: هذه أم سعد. وسألت سعداً فجمجم ولم يجب ثم قال: عند امرأة دجاجة واحدة. قلت: ما عسى أن تغني دجاجتك الواحدة يا سعد؟ وحسبت أن سعداً استحى أن يقول إن التي حادثها أمه وإن الدجاجة دجاجته وأحس شيئاً من الخجل أن يبيع لنا دجاجة، وكذلك قال صاحب الجمل حينما سألته: لماذا لا يقول سعد إن المرأة أمه.

وعرف سعد من سؤالي عن ضروب النبات أني معني بها فوجد له عملاً يبرِّر مصاحبته إيانا، ويجعل له يداً عندنا. فكان لا يمر بنبات إلا سماه وقلعه أو قطع فرعاً منه، وناولني إياه فأضعه في الخرج ناولني شجرة من الشيح فسألته عن القيصوم وكنت رأيته بالبادية على مقربة من البصرة، فأسرع بعد قليل إلى نبتة وقال: هذه قيصومة وناولني منها، وهي تشبه الشيح، وتمتاز عنه بلون زهرها، ولا يدرك الفرق بينما إلا النباتي أو البدوي المرن على تمييز ضروب النبات وإن تشابهت. ثم مررنا بنبات صغير لا طئ بالأرض له عصارة لزجة فقال: هذه لبّيدة. رأى شجرة من الشوك كبيرة فقال: هذه سلة وما أكثر السلة في سيناء، ثم سمي من ضروب النبات التي مررنا علينا الوراقة، وهي نبت قليل الشوك تأكله الإبل، والكَباث وهو يشبه السلة إلا أنه أضعف شوكاً، وكان هديّان إذا مرّ بكباثة أبى إلا أن يميل إليها لينال منها. والكباث في معاجم اللغة ثمر الأراك، وهو غير هذا: ومما رأينا النعمان والحزماع، وهو شجيرة تنبت كالعصا لها فروع قصيرة. وقد رأيت منها واحدة يابسة فأشرت إلى سعد فجرى إليها وحاول خلعها فاستعصت عليه فناديته أن اتركها، فأبى وما زال يقوم بها ويقعد بها حتى أتى بها. وأراني سعد النعمان وأصابع العجوز والمرُورة والبركان والدهميّ، وكلها نبت ضعيف صغير. وكنت أمتحن سعداً فأسأله عن النبات الواحد مرة بعد أخرى فأعرف أنه ينطق عن معرفة. ومما رأينا الزعتر وهو نبات طيب الرائحة معروف في مصر والعثيران، قال سعد: وهو نبات الحمير، وهو نبات صغير له فروع وورق دقيق ورائحة طيبة، والهنيدة والجعدة والشكاع الخ

وقصارى القول أنه ليس في البرية نبتة صغيرة أو كبيرة إلا يعرفها الأعراب باسمها وصفها وخصائصها

ولقينا في وادي الشيخ أعرابيتين معهما قربتان صغيرتان، فكلمهما جبلي وكان يعرفهما. وسألته أين الماء؟ فقال: هنا وأشار إلى سفح الجبل، فنزلنا وصعدنا بين صخور عظام، حتى بلغنا فجوة بين الصخور فيها ماء بارد، فجلست الأعرابيتان تملآن قربتيهما

والأعرابيات في سيناء يلبسن ملابس ضافية، حواشيها مطرزة ملونة، وهي من نسيج أيديهن، ويلبسن براقع محلاة بقطع كثيرة من المعدن، ويحلين صدورهن بخرز كثير، فلا يبدو من المرأة إلا عيناها. وقد استأذنا المرأتين أن نصورهما، فقالت إحداهما ضاحكة: بالفلوس، قلنا: أجل.

ثم بلغنا الشيخ صالح بعد ساعتين: حجرة صغيرة مضلعة، عليها قبة ساذجة، وفيها قبر يقول الأعراب إنه النبي صالح، وأكبر الظن أنه رجل من الصالحين اسمه صالح وللشيخ صالح موسم يأتي البدو إليه فيبيتون وينحرون ويذبحون ويلهون

وقد أمر الملك فؤاد رحمه الله بصنع كسوة لضريح النبي صالح وهي مودعة في دير سنت كترينا كما ذكرت قبلاً

لم نلبث كثيراً عند الشيخ صالح فرجعنا أدراجنا، وقد عرَّج سعد إلى اليسار فغاب قليلاً، ثم رجع وفي يده دجاجة. قلت: يا سعد، أصررت على الإتيان بدجاجتك؟ قال: ليست دجاجتي قلت: ولكنها واحدة، ولا تغني شيئاً. قال: ما وجدت غيرها قلت: فلم جئت بها؟ ثم سار سعد والدجاجة، حتى وقفنا وقفة فأفلتت منه. فقلت: لا يظفر بها. فما لبث أن جاء بها فوضعها في كيس خلف ظهره، فلم نسمع لها حساّ، حتى بلغنا الدير. قلت: يا سعد، لم يجد الطباخ دجاجاً، ونحن أكثر من عشرين فماذا نفعل بهذه الدجاجة؟ فوجم. . . قلت: ارجع بدجاجتك وخذ هذه القروش، ففرح وزدناه بعض الخبز

خرجنا من الدير صباح يوم الجمعة فألفينا صبية بأيديهم أشياء يقدمونها إلينا؛ ناولني سعد نباتاً قائلاً: هذه هنيدة. قلت: لم تزدني على الأمس شيئاً. وقدم إلى صالح عصاً من الورد البري كثيرة الشوك فأخذتها ذكرى، ثم زرعتها في حديقتي بعد أيام فأورقت. وقدم الصبية الآخرون أفماماً للسجاير من هذا الورد لا يحسن الإنسان إمساكها لكثرة شوكها

ثم أزَّت السيارات فسارت والساعة ثمان ونصف فرجعنا أدراجنا في الأودية التي ذكرتها آنفاً

ونزلنا في دير فاران الذي وصفته من قبل ثم استأنفنا المسير في وادي فاران. وبعد ساعة من دير فاران توقفنا قليلاً فأبصرت صبياً يرعى غنماً فقصدت قصده وقلت: ما اسمك يا ولد؟ قال: اسمي ولد - وكأنه لم يعجبه هذا الخطاب - قلت: اسمك محمد؟ قال: ربيع. قلت أتبيعنا خروفاً من غنمك؟ قال: لا. ثم سألته عن ضروب العشب، قلت: ما هذا؟ وأشرت إلى نبات ضعيف يشبه البصل. قال: بَرْوق، أقول: البروق معروف في كتب اللغة والأدب والنبات. وتقول العرب هو أشكر من بروق لأن البروق يعيش بأدنى ندى يقع على الأرض. وقالوا: أضعف من بروقة. قال جرير:

كأن سيوف التيم عيدان بروق ... إذا نضيت عنها لحرب جفونها ثم سألت ربيعاً عن نبات آخر قال: هو الرمث. قلت: قد رأيت الرمث في العراق وهو أكبر من هذا، فهل يطول الرمث أكثر مما أرى؟ قال: لا. قلت: إن رمثك هذا عجيب. وتذكرت قول أبي الطيب في قصيدة ابن العميد يصف ناقته:

تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلباً لقوم يوقدون العنبرا

ثم سالت ربيعاً عن نبات تنبسط على الأرض فقال: سفيراً. فأعدت السؤال، فقال: سفيرا عزيزة. فعجبت أن تكون السفيرا عزيزة اسم نبت في الصحراء، ثم سألت أعرابياً من بعد فقال نعم يسمى بهذا الاسم - ولم أعرف كيف سمي به - وبعد مسيرة نصف ساعة توقفنا للغداء، عند جبل يسمى جبل الزمرد ولكنا لم نهتد إلى الزمرد فيه، ويقال إن به حجارة زرقاء وإن الزمرد يكون في حجارته

وقد حدثت أعرابياً هناك، وسألته عن نبات ضعيف له زهر بنفسجي فقال هو البَهَك ينبت بعد المطر

ثم سألته عن نبات له ثمر مستدير ذو شوك. فقال: السعدان قلت: أهذا هو السعدان الذي ملأ صيته كتب الأدب، والذي ضرب المثل بجودته فقيل: مرعى ولا كالسعدان، ويضرب المثل بشوكة: حسك السعدان، ولكن السعدانة التي رأيتها كانت خضراء لم يمتد شوكها وييبس

وابلغنا السير أبا زنيمة عشياً، وأصبحنا إلى السويس فالقاهرة

فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر

عبد الوهاب عزام