مجلة الرسالة/العدد 359/مصطفى كامل

مجلة الرسالة/العدد 359/مصطفى كامل

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1940


بعد ثلث قرن

بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله

كل شيء في مصر ينسى بعد حين كما قال شوقي وليست مصر بدعاً من الأمم في ذلك. فإن الرجل أو العمل لا ينطبع ذكره في الذهن إلا إذا كان ندى الصوت قوي الأثر. ومصر في عهدها القريب إنما كانت تجري في خلاء من التاريخ لا يكاد يظهر فيه إلا فقاعة تنفجر أو ومضة تنطفئ. وليس لهذه أو تلك من الأثر ما يملأ الشعور ويشغل الذاكرة

على أن السائر في الصحراء مهما ضعف وعيه واشتدت غفلته لا بد أن يذكر المنار الذي دله على الطريق، والواحة التي أعادته إلى الحياة. وهيهات أن تعرض القلوب عن ذكر محمد علي ومصطفى كامل وسعد. وإذا جاز للزمن العابث أن ينال من رجل الدولة أو بطل الثورة فإن مصطفى كاملاً يظل على تراخي الحقب أنوط بالقلب وأعلق بالذاكرة. ذلك لأن زعامته كانت أشبه بالنبوة في تهيئة الفطرة وثبات العقيدة وعصمة النفس واختيار القدر. وهو الزعيم الوحيد الذي لم تلده الظروف، ولم تبعثه المطامع: لم تلده الظروف لأن مصر كانت في إبان حداثته قد استأمنت إلى الجهل والاحتلال فنامت في ظلها نومة الضاجع الأبله. وكانت دعوة الأفغاني قد جمعت من ومضات الأذهان النيرة شعلة أضاءت جانب الطريق فسلكه العرابيون؛ ولكنهم لم يكادوا يبعدون حتى أدركهم الظلام في التل الكبير. فلا يصح في العقل إذن أن نقول إن مصطفى كان أثراً للأفغاني وعرابي، كما نقول أن سعداً بعد عبقريته كان أثراً لهؤلاء الثلاثة. إنما أرسل المصطفى على فترة من رسل الوطنية. وكان إرهاصة وهو في المدرسة الثانوية أن الوزير علي مبارك باشا زار مدرسته يوماً فسأله فيمن سأل من التلاميذ: ماذا اعتزم أن يعمل بعد الشهادة؟ فأجابه مصطفى اليافع في خطاب طويل: (إن أرفع الرجال شأناً من يحرر بلاده. وسأكون أنا ذلك المحرر الذي يكتب ويخطب حتى ترفع الأغلال عن عنق مصر). وكان إرهاصه وهو في مدرسة الحقوق أن أنشأ مجلة سماها (المدرسة) أشرقت فيها نفسه الكريمة إشراقة النفس الزعيمة، فتهافت على ضوئه طلاب المدارس العليا يؤيدون دعوته ويرددون كلمته ويترسمون خطاه، حتى نال إجازة الحقوق ففرغ لرسالته وخلص لوطنه. وحينئذ رأيناه يكتب إلى أمه الروحية مد جوليت آدم يقول: (إنني لا أزال صغيراً، ولكن لي آمالاً كباراً. أريد أن أوقظ في مصر الشيخة مصر الفتاة. هم يقولون أن وطني لا وجود له؛ وأنا أقول إنه موجود بدليل ما أشعر له في نفسي من الحب الشديد الذي سيتغلب على كل حب سواه سأنفق في سبيله كل قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفاً عليه. . .)

ثم اضطرمت في ذلك الجسد الناحل روح الله ففار فورة الجبارين، وثبت ثبات الرسل، وقام في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بالوطن والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان المحتل، وأمته يومئذ علة العلل ودولة الدول!

ومصفى لم تبعثه المطامع، لأنه أدرك وهو في طراءة الشباب زعامة الأمة وثقة العرش ورضى الخلافة وخصومة المحتل، وكان في مقدوره إذا شاء أن يستغل هذه القوى العظيمة في سبيل الثراء والحكم، ولكنه زهد في ذلك كله زهادة الحكيم، فعاش للمبدأ والفكرة، ومات للقدرة والعبرة

وهل أدل على نزاهة مصطفى ونبل نفسه من نبوه على عباس وانحرافه عنه حين رآه يستيئس ويستكين بعد الاتفاق الودي الذي أبرم بين إنجلترا وفرنسا سنة 1904؟ لقد كان في مسايرة الخديوية ومياسرة الاحتلال ما شاء الطامع من جاه وألقاب وسطوة وثروة. ولكن مصطفى كان يريد أن يقود لا أن يسود، ويطلب أن يخدم لا أن يحكم. والزعيم الحق هو الذي يدافع عن أمته ولا يحاول أن يحكمها. لأنه متى حكمها أدركته حقارة الإنسان فاستطال وترفع وفاش وطاش حتى يصعب عليه أن يوفق بين رغائب نفسه وبين مطالب الناس!

وهكذا قضى الصدق في الجهاد والإخلاص للمبدأ على مصطفى العليل الواهن أن يحرك ساكن شعبه بوجيب قلبه، ويذكي خمود جيله بحرارة دمه، ويضيء ظلام وطنه بوميض روحه؛ ثم يموت رضوان الله عليه ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى

لو أن زعيمنا الخالد كان قد سعى ما سعى لينال كرسياً في (وزارة) أو مكتباً في (شركة) لما أقمنا له هذا التمثال بعد ثلث قرن؛ فإن الزعيم الذي يجعل همه السياسي أن ينتفخ لغدوده وجيبه لا يمكن أن يعيش في ذاكرة الناس هذا العمر. ولكن مصطفى عاش كأصغرنا وسعى كأقدرنا ومات كأفقرنا، فكان حقاً علينا أن نقيم تمثاله رمزاً للوطنية التي لا تتاجر، والوطني الذي لا يداجى، والزعيم الذي لا يخون

أحمد حسن الزيات