مجلة الرسالة/العدد 36/الأدب والفن في حياة ملك بلجيكا الراحل
مجلة الرسالة/العدد 36/الأدب والفن في حياة ملك بلجيكا الراحل
هذا الملك البطل قد أصبح بعد حياته حيا بين أبطال الأساطير وزاده مصرعه الفاجع عظمة على عظمته. وهو ملقى مضرجاً بدمه الغالي على أطراف الصخور المسنونة
ولم يكن ألبرت الأول ملكاً عظيماً فحسب، بل كان أيضاً رجلاً عظيما. وله قبل الحرب صورة تمثله والشاعر الأديب فرهيرن في وسط الأسرة المالكة في جو ديمقراطي، والأنجال إلى المائدة، والجميع يسمرون تحت المصباح وقيثارته الملكية ترسل أنغامها بعد العشاء.
ولم يكن هناك أثر للمراسم وأوضاعها التقليدية في علاقة صاحب التاج بالعلماء والكتاب وأهل الفن من أبناء البلاد. فقد كان يعلم حق العلم أن الفكر كالبطولة فله النصيب الأوفر في توثيق وحدة البلاد وجعلها موضع احترام العاملين وإعجابهم. ولقد استنهض الهمم لتوفير عتاد من مال الأمة مرصود على البحث العلمي، كما أنه فكر في تأسيس مجمع للغة والأدب، ومنح الأديب الروائي ماترلنك رتبة الكونت، ورفع لفيفا من الرسامين والمثالين ومهندسي العمارة إلى رتبة البارونات. وظلت الآداب والفنون مدى ربع القرن الذي حكمه عزيزة الجانب، تزداد مكانتها رفعة، وتستمتع بحرية لا عهد بها من قبل.
فالحق أنه أول ملك على بلجيكا بدت منه الشواهد الجمة على عناية حقيقة بالجانب الأدبي في بلاده. فأن والده العظيم ليوبولد الثاني مع مناداته بأن الأدب هو زهرة المدنية الرفيعة، لم يؤثر عنه قط متابعة جهد الأدباء وتشجيعهم، وهم أولاء الذين شقوا الطريق للشباب البلجيكي ولهم الفضل الكبير على كتابها المشاهير أمثال فرهيرن وماترلنك
ولئن كان الملك البرت قد تخرج على الأخص في العلوم، وانصرفت ميوله في الغالب الأعم إلى الرياضيات وتقدم الصناعات ودراسة المسائل الاجتماعية والاستعمارية، فانه لم يخل قط من الاهتمام بالفن وإن كان تذوقه للتصوير لم يكن بالغا، ورأيه في الموسيقى أقرب إلى القائل إنها (ضوضاء كبيرة النفقة). وأما الأدب فكان اكثر متعة به. وهو على كل حال من مدمني القراءة والاطلاع، وثقافته واسعة، وشوقه إلى المعرفة متنبه على الدوام. ولا نقول أنه كان يطرق آفاق التأليف الأدبية مستكشفا، وإنما كان يحب الوقوف على ما يشغل الناس من المؤلفات ويهتم بمن يأتي بين المؤلفين بالجديد. وهو من أول المشتركين في مجلة (مركير دفرانس) الأدبية لأول إنشائها وجنوحها وقتئذ في الأدب إلى مذهب الرمزيين. كما أنه من أشد القراء عناية بتتبع آثار بول فاليري القلمية، وقد حضر في بروكسل تمثيل بعض روايات بول كلوديل سفير فرنسا في بلاده، ولم يكن حضوره مجرد مجاملة للسفير بل تكريما أيضاً للأديب.
وكثيراً ما أعرب الملك عن إعجابه بالأدب الفرنسي. وكانت إحدى المناسبات السانحة عندما جاء مسيو بول كلوديل إلى قصر (ليكن)، وهو على مسيرة عشرين كليومترا من بروكسل، لتقديم أوراق اعتماده فاستقبله الملك في حجرة المكتب الفسيحة الجنبات العالية السمك، حيث كان يحب الجلوس محفوفا بكتبه التي لا تقل في عددها عن ثلاثين ألف مجلد، وأدواته وأجهزته العلمية. وحياه الملك بالفرنسية بلهجة فلمنكية لها رنة ثقيلة حلوة قائلاً (هذا سفير الفكر الفرنسي). ولحظ السفير الأديب أحد مؤلفاته على مكتب الملك
كذلك كان الأدب الإنجليزي محبباً اليه، وقد نوه بذلك ذات مرة في خطب ألقاه بعد الحرب في قاعة بلدية لندن في أثناء حفلة أقامتها له جمعية الأدب الملكية.
ولا شك في أن هذا الملك الجندي، المعدود بين أكبر هواة الرياضة وتسلق قمم الألب، كان يؤثر الزيارة لأحد المصانع أو المعامل أو النزول في أحد المناجم، على زيارة معرض للتصوير، وأن استماعه إلى العمال في عملهم أحب إلى نفسه من أحاديث أبناء الفن المنمقة في ردهات المعارض يوم الافتتاح. غير أنه كان يستفسر من هؤلاء وهؤلاء، ويهتم بكل شيء شوقاً منه إلى المعرفة وقياماً بالواجب، ولما أن أقيمت سراي الفنون الجميلة في العاصمة تجاه القصر الملكي أو بعبارة أدق، أقرب ما يكون إلى مواجهته - أصبح الملك من أخلص المترددين عليها. ولقد يزور المعرض في الصباح الباكر زيارة الجيران وهو يلبس قبعة من اللبد عريضة الحافة، وفي رقبته ربطة معقودة على نحو ما يفعل الفنانون. ويطوف به الأستاذ الفنان (إنسور) وهو في مثل رداء مولاه، يشرح له الألواح والصور أكثر من ساعتين. والملك مطيع له، مصغ إليه. والجمهور لا يكاد يتنحى بعيداً عنهما، يتبعهما ويتابعهما بعيون ملؤها الإجلال والمحبة. وفي كل لحظة يقف الملك مقترباً من كل لوحة يدقق فيها نظره القصير ويسائل مرشده الشيخ مبتسما.
كذلك كان من آونة لأخرى ينزل إلى قاعة الموسيقى مزدانة بالأزهار والتحف الفنية ليستمع إلى الموسيقى ولا سيما موسيقى فاجنر، فقد كانت عند أثيرة. ولقد قال ذات مرة بمناسبة هذا الموسيقار الألماني (إن الموسيقى لأقوى من كل تدابير السياسة في تأليف الشعوب).
وأكثر من هذا وذاك كانت رعاية الملك والملكة وأمارت عطفهما القلبي على الأدباء خاصة. ولم يعزب بعد عن الأذهان أنه في زيارته الأخيرة لفرنسا منذ شهور. رأس حفلة العشاء التي تقيمها (مجلة العالمين) وقد سره من الحفلة أن استطاع مطارحة الأدب مع طائفة من الكتاب واستدلوا من حديثه على واسع إلمامه بالأدب الفرنسي الحديث
وقد كانت آخر إمضاءات ملك بلجيكيا يوم السبت قبل ذهابه إلى النزهة المشئومة، هو إمضاؤه الذي مهر به أمره الكريم بمنح رتبة ضابط من طبقة التاج للمؤرخ الفرنسي (شاتيل) لنشره كتاباً عن جهود بلجيكا في فرنسا أثناء الحرب. ولقد قدم لهذا الكتاب مقدمته المسيو دومرج الذي هو اليوم رئيس الوزارة الفرنسية.
ثم إن هناك فوق ما تقدم سمات اعمق في الإنسانية وأرفع نذكر منها إن الملك كان في عصر أحد الأيام في قصر (ليكن) مع ماترلنك مؤلف قصة العصفور الأزرق الخالدة فبادره ببساطه وعلى غير انتظار (يا مسيو ماترلنك. أتريد تقبيل أولادي؟)
وكانت صلته بالشاعر البلجيكي (فرهيرن) صلة حميمة. فلما أن قضى الشاعر نحبه ذهب أحد أصدقائه النواب إلى الملك يلتمس منه أن يرأس الاحتفال بنقل رفاته إلى الضريح الفخم الذي أعدوه. فقبل الملك في الحال عن طيبة خاطر. ولما أراد النائب شكره اعترض قائلا (ليس لك أن تشكرني. فان مجد فرهيرن في غير حاجة إلينا. بل نحن امرأتي وأنا - اللذان نتشرف بالاشتراك في هذا الاحتفال)
فكيف لا تكون هذه نفس فنان أديب شاء صاحبها أو لم يشأ وهذا المتسلق وحده إلى القمم، المغرم بدوار الارتفاع المشغوف بالطبيعة؛ من يكون إن لم يكن شاعراً حالما؟
عبد الرحمن صدقي