مجلة الرسالة/العدد 360/العروب في العراق
مجلة الرسالة/العدد 360/العروب في العراق
للأستاذ ميخائيل عواد
في المؤلفات التاريخية والبلدانية نواح متعددة ما زال يعتورها شيء كثير من الغموض، يعود بعض أسبابه إلى تساهل أصحاب تلك المؤلفات في تدوين الأخبار تدويناً يفي بالمرام ويدفع الشك، كأن يورد المؤلف أخباراً أو أوصافاً دون أن يتقصاها، لاعتقاده أنها من الأمور المعروفة التي لا تحتاج إلى الشرح والتدليل
من ذلك ما صادفناه لدى بحثنا في نوع من الطواحين القديمة، التي كانت تسمى (العروب) وقد شاعت كثيراً في العراق والجزيرة وبعض ما يجاورهما من البلدان. وكان البدء في استعمالها يرجع إلى ما قبل العصور الإسلامية، ثم رافقت هذه العصور عدة مراحل حتى أدركت القرن السادس للهجرة، فقل عددها لتواتر النكبات عليها وخف استعمالها فلم يبق منها إلا آحاد مبعثرة في الفراتين وبعض ما يتشعب منهما.
وقد أمكننا حين تتبعنا المراجع العربية القديمة الوقوف على بعض ما يوضح شيئاً من أمرها.
العروب في معاجم اللغة
لم يدر بخلد أحد من أصحاب المعاجم القديمة خاصة تحقيق منشأ كلمة عروب، إنما كان اتفاقهم على تعريفها فقط
فقد جاء في (تاج العروس) أن (العربات: سفن كانت بدجلة، النهر المعروف، واحدتها عربة)
وما ورد في (لسان العرب لابن منظور) لا يتعدى ما ذكره التاج
وزاد صاحب القاموس عليهما في تعريفها بأنها: سفن (رواكد) كانت في دجلة
وقال في مادة عربة إنها: (النهر الشديد الجري) وقوله هذا يتفق وما ذكره من كان قبله أي صاحب الصحاح
هذا جل ما ورد في المعاجم القديمة بشأنها، وأما المعاجم الجديدة منها، فقد رأينا أن ما ذكره (محيط المحيط) و (البستان) و (أقرب الموارد)، لا يتعدى التعريف المذكور في المعاجم القديمة وأحسن المعاجم الجديدة التي أعطت للكلمة ما تستحقه من العناية والدقة هو (المعجم المساعد)؛ فقد جاء بأنباء جلية من منشأ كلمة العروب؛ فهو يقول: (العربة: بمعنى الرحى، إرَمِية وتسمى (أسونا)؛ ومنها أخذها عوام الموصل فقالوا أسناية)
وقال في مكان آخر: الأسناية: بفتح الهمزة، وقد تكسر؛ هي بالصابئية (أسنايا)، وهي رحى الماء يحرك آلتها أجنحة، وكثيراً ما كانت تقام في جوار الفراتين أو ما يتشعب منهما، وهذه الكلمة من أصل عربي، من سنيت الدابة: استسقى عليها)
ومما قاله أيضاً: ويحتمل أن تكون (عربة) معربة من هي في الرومية
وما يحسن ذكره في هذا الموضوع ما قاله صاحب التاج: (الفيلخ كصيقل، وهي الرحى أو إحدى رحى الماء واليد السفلى منهما، ومنه قوله: ودرنا كما دارت على القطب فيلخ)
وقد جمعت عربة على عربات وعرب، وجمعت الأخيرة على عروب وزان قلوب، وهي جمع الجمع
العروب في كتب وصاف البلدان
قد يكون الرحالة بن حوقل هو الوحيد بين قدماء الكتبة الذين تكلفوا بتفصيل هذه الطواحين بقوله: (. . . وكان بالموصل في وسط دجلة مطاحن تعرف بالعروب، يقل نظيرها في كثير من الأرض، لأنها قائمة في وسط ماء شديد الجرية، موثقة بالسلاسل الحديد، في كل عربة منها أربعة أحجار، ويطحن كل حجرين في اليوم والليلة خمسين وقراً. وهذه العروب من الخشب والحديد، وربما دخل فيها شيء من الساج. وكانت بلد، المدينة التي عن سبعة فراسخ منها عروب كثيرة دارت أعمالاً وجهازاً إلى العراق فلم يبق منها شؤم ابن حمدان ولا من أهلها باقية)
ثم تطرق إلى الكلام عن العروب في غير مدينة الموصل، قال: (وبمدينة الحديثة منها عدد تعمل في وسط دجلة، وقد ملك بنو حمدان متاعها حسب ما ذكرته من حال الموصل وسائر ديار ربيعه، وارتفاعها نحو خمسين ألف دينار، وكان بالفرات الرقة (وقلعة جعبر) ما لا يداني هذه العروب ولا ككثرتها، وبمدينة تفليس في الكر منها شيء به تقوم أقوات أهل تفليس، وهي دونها في الفخم والعظم، وبتكريت وعكبرا والبردان منها شيء باق. ولم تبق بركة بني حمدان بالموصل إلا ستة أو سبعة منها (كذا. والصواب ست أو سبع)، وليس ببغداد شيء منها)
ثم عاد إلى ذكر العروب في تفليس أثناء كلامه على هذه المدينة فقال: (تفليس. . . وهي على نهر الكر ولها فيه عروب يطحن فيها الحنطة كما تطحن عروب الموصل والرقة وغيرها في الدجلة والفرات)
وأشار ياقوت إلى العروب قائلاً: (العربات ومفردها عربة، وهي بلغة أهل الجزيرة: السفينة تعمل فيها رحى في وسط الماء الجاري مثل دجلة والفرات والخابور، يديرها شدة جريه، وهي مولدة فيما أحسب)
وتطرق القزويني إلى ذكرها بقوله: (. . . وأهل الموصل انتفعوا بدجلة انتفاعاً كثيراً مثل شق القناة منها ونصب النواعير على الماء، يديرها الماء بنفسه، ونصب العربات، وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة وتنقل من موضع إلى موضع)
العروب في كتب التاريخ والأدب
لعل أول نبأ بلغنا عن العروب في المراجع التاريخية، هو ما ذكره الشابشتي في كتابه (الديارات) لدى كلامه على دير ماجرجس، والدير الأعلى
قال في الأول: (هذا الدير بالمزرفة (قرية كبيرة فوق بغداد على دجلة بينها وبين بغداد ثلاث فراسخ، وهي قريبة من قطربل) وهو أحد الديارات والمواضع المقصودة. والمتنزهون من أهل بغداد يخرجون إليه دائماً في السميريات لقربه وطيبه، وهو على شاطئ دجلة. والعروب بين يديه، والبساتين محدقة به. . .)
وفي الثاني: هذا الدير بالموصل، يطل على دجلة والعروب، وهو دير كبير عامر. . .
وفي حوادث سنة 363هـ حين استيلاء بختيار بن معز الدولة ابن بويه على الموصل، يذكر ابن الأثير في (الكامل) ما نصه:
(. . . فسار (بختيار) عن بغداد، ووصل الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى، وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة
وهذه الرواية توافق ما نقله القلقشندي عن نسخة كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع لله عند فتح الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان - فقد قال: (وكان انهزامه (أبي تغلب) بعد أن فعل الفعل السخيف، وكادنا الكيد الضعيف، بأن أغرق سفن الموصل وعدوتها، وأحرق جسرها واستذم أهلها. . .)
وأورد الخفاجي في شفاء الغليل ما ذكره ياقوت، ومما زاد عليه قوله: (. . . وأنا لا أدري هل المركب المسمى عربة أخذ من هذا، أو هو غير عربي وهو الظاهر)
وجاء في حاشيته - لنصر الهوريني المعتنى بطبعه - قائلاً:
(من معاني العربة في اللغة: النهر الشديد الجرية، ففي هذا الإطلاق تجوز)
وقد أشار إليها الخوارزمي في مفاتيح العلوم بقوله: (العربة طاحونة تنصب في سفينة وجمعها عرب)
ومما ورد في ديوان الأدب للفارابي قوله: (لعروبة دوار، أي ماء تدار به)
الخلاصة
نخرج من هذا المقال إلى أن هذه الطواحين كانت تقوم على سفن متجاورة يتخللها مضايق ينحبس فيها ماء النهر، وقد نصبت فيها دواليب ذات عنفات؛ تدور بتأثير الماء الشديد الجرية وتقوم هذه الدواليب بتدوير دواليب أخرى متصلة بالضرائر أي أحجار الطواحين.
ويؤيد هذا ما ذكرته مجلة (لغة العرب) أن العربة هي الرحى التي تكون في السفينة في الماء، ليطحن بها القمح أو يعصر بها البزر أو يستخرج بها الزيت؛ ولها دولاب، وللدولاب زعنفات يضربها الماء فتدير الرحى، وهي بالإفرنجية
لا شك أن تلك السفن كانت كبيرة بحيث تستوعب المقادير العظيمة والحبوب، وقد كانت الشبارات والزبازب والسميريات وغيرها من وسائل النقل النهرية وقتذاك في ذهاب وإياب، تقوم بنقل الناس مع أوقارهم إلى هذه العروب. ولا غرو إن كان دجلة والفرات عند جريهما بين يدي تلك البلدان الشهيرة بهذه العروب؛ يزدحمان بهذه السفن ويزخران بحركتها المتواصلة.
(بغداد)
ميخائيل عواد