مجلة الرسالة/العدد 360/سيكولوجية الأديب

مجلة الرسالة/العدد 360/سيكولوجية الأديب

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1940



للدكتور إبراهيم ناجي

في هذا الموضوع ناحية شخصية طريفة، وطرافتها تغريني بالثرثرة؛ فإني لا أرى الآن موضوعاً علمياً، وإنما أرى أمامي شخوصاً وأسماء وصنوفاً من النفسيات تكون مجموعة مسلية فخمة. ومع ذلك، فسأتنكب هذا الجانب البديع، وأتكلم كلاماً علمياً سيكولوجياً تكون فائدته أعم وأوقع

أجل، من أهم الموضوعات الاجتماعية مسألة: (سيكولوجية الأديب)

ولما كان الأدب فرعاً من الفن، كان الكلام الصحيح هو عن سيكولوجية الفنان. ومقال اليوم يتناول سيكولوجية الفنان المصري، لأن للفنان المصري طابعاً خاصاً به لا تجده في غير مصر، وللثقافة الفنية في مصر طرقا لا تجدها في غيرها من البلاد

ولمَّا كان الجسم والنفس وحدة متماسكة، فإن أمراضهما متصلة، وإن كانت في الجسم أعضاء تتأثر أكثر من غيرها. وفوق ذلك، فإن للأدباء المصريين أمراضاً خاصة بهم وحدهم.

نبدأ الآن بالتحدث عن نفسية الأديب المصري:

الأديب المصري يندر أن يكون رجلاً طبيعياً، فإننا إذا نظرنا إلى الحياة وتعريفها، ثم إلى الأدب وتعريفه وخصائصه، تبين صحة ما نقول

ما هي الحياة؟

أصدق تعريف لها أنها تفاعل بين عوامل خارجية تتكون من البيئة والظروف والعادات والتقاليد؛ وعوامل داخلية تتكون من العناصر التي بتفاعلها وتطورها وتماسكها أدت إلى المجموعة التي اصطلحنا على تسميتها (بالشخصية). الحياة (ميزانية) بين دخل وخرج. الحياة موازنة بين قوتين وملائمة بين دافعين، وكل ما يعتري الحياة من اعوجاج أو شذوذ، أصله اضطراب في ميزان التفاعل، وأصل ذلك الاضطراب اختلال في عنصر من العناصر الداخلية أو الخارجية

وإذا سَّلمنا أن الدوافع الخارجية متساوية بالنسبة لنا جميعاً، سَّلمنا كذلك أن الاختلال أكثره داخلي أي في ذواتنا، وفي صميم أنفسنا. ولنراجع الآن أهم العناصر الداخلية في النف بوجه عام، ثم نراجعها في نفس الأديب المصري بوجه خاص

أهم العناصر الداخلية التي تكون (الذات) هي (العادة) و (الجنس)

ويدخل تحت حكم العادة ما نسميه (بالخُلق). ولا يخفى أن التربية (عادة)، فخلقنا وتربيتنا أخيراً هما ما اعتدناه وصار طبيعة ثانية. ويدخل في بناء الشخصية - بعد العادة - مواهب موروثة أو فطرية كالذاكرة والخيال والذكاء

ويتكئ ذلك كله على الغرائز الفطرية التي هي واحدة في جميع البشر، وإنما يختلف عملها بمقدار ما أطلقنا منها وما كبتنا.

وأما (الجنس) فيساوي (الحب) ويجب ألا يفهم من ذلك اللفظ حب الشهوة، وإنما الحب على طول خطه المبتدئ بالوالدين المنتقل إلى المجتمع المنتهي بالزواج

ولعل ترتيب الأمور بأهميتها يكون على الوجه الآتي: الوراثة، العادة، الحب

إني أعطي الوراثة المكان الأول لكي أؤكد أن هناك ذكاء مكتسباً موروثاً، وآخر نحصل عليه بالمران. الأول عميق (عمودي) والثاني (سطحي)

ولا جدال في أن الأدب يورث، والمواهب الأدبية كالخيال، والموسيقية وغيرهما، مواهب تورث أي تولد ولا تصنع

والأدب تنبت جذوره وعناصره في الطفولة. فمن المألوف أن الطفل ينام على اللحن الموسيقي، ويستأنس بالغناء، ويحب القصة الخيالية، وقد يؤلفها هو نفسه

فالواقع أن الأديب طفل لم يكبر. والأديب الصحيح من له خصائص الطفل، في فرحته بالأشياء، وسذاجته، وتهلله، وضحكته، وخياله، وفرحه وابتهاجه بالموسيقى. والتربية الأدبية الصحيحة، هي التي ترمي إلى شيئين: تربية الحواس، فإن حدة الحواس هي الوسيلة التي بها يستعين الأديب على التقاط الصور وتذوق الأشياء. والشيء الثاني جو الحرية الذي فيه تترعرع شجرة الذات، وتتغذى تلك الحواس النشطة المتقدة

والأديب المصري محروم من الأمرين. ففي المنزل وفي المدرسة لا يجد من يتعهد تلك الحواس بالتغذية، وفي المنزل يجد التربية قائمة على الزواجر والنواهي، وقتل حرية الاستطلاع التي هي أهم خصائص الأديب. وفي المدرسة يجد سلسلة من (الكليشهات) التعليمية التي تقتل المواهب وتقبرها وتدفن شجرة الحرية دفناً! وكما ذكرت، عندنا أديب بالسليقة، وأديب بالاكتساب

أما الأول فيمر على تلك الأدوار ونفسه تشعر بالضيم، وتنطوي نفسه على ثورة مكتومة. والثاني يتلقى تلك الأخطاء، ويبتلعها بسهولة، ويصل إلى عتبة المستقبل رجلاً عادياً يتميز عن غيره من الناس بقليل من المواهب الكلامية والبيانية وشيء من الحقد على العباقرة وأرباب النبوغ

ونتكلم الآن على مسألة (الحب) لما لها من الأهمية البالغة في حياة الديب، ولما لها من الشأن في مصر خاصة

الحب في تعريف بلاتو وفي تعريف البيولوجيا (شطْر يبحث عن شطره الآخر الذي كان لاصقاً به ومكملاً فانفصل. . .)

فالبيولوجيا تقرر أن المخلوق كان في البدء وحدة ثم شُطر، وكان الشطران في المبدأ على جذع واحد وكانا متساويين، فلم يلبثا أن تميزا على الجذع ثم انفصلا، ثم قضى الله عليهما أن يبحث كل عن الآخر. . . في سن المراهقة حيث تنشط الغدد وتتأجج الحواس وتتطلع النفس باحثة عن شطرها الضائع

وهذا الوقت هو أزمة الأزمات. وهو عندنا في مصر - خاصة - عهدٌ خطر، ومع الأسف يقل فيه الإرشاد وتندر الصراحة الواجبة، مع أنه العهد الذي يبدأ فيه نضج الأديب، وتزدهر مواهب الفنان وتتفتح

فإن النفس التي تتطلع إلى مثلها الأعلى، أي إلى توأمها من الجنس الآخر، قد تجده، فإن وجدته قد لا تظفر به، أو قد تظفر وتنتهي الرواية، أو لا تجده، فتتحول إلى خَلق شيء على مثاله، أو التغني بالحنين إليه، أو رسمه على القماش أو الحجر، وهكذا. أو تكون الأزمة النفسية من الشدة بحيث تحدث اضطراباً نفسياً كبيراً، فإما يكون هذا الاضطراب تحدياً واعتداءً، أو تخاذلاً وانطواءً، وإما أبعد من ذلك، وهو الجنون. فنحن الأطباء نعرف ما هو جنون المراهقة ونفهم أسبابه وعلته

قلت إن هذا العهد في مصر أخطر العهود على الشاب الأديب

فإما أن يكون أديباً عبقرياً، فطامته الكبرى أن مثله الأعلى غير موجود أو مستحيل، وكارثته الأخرى أنه إذا وجد خياله المنشود، يخفق في الحصول عليه أولاً، لأنه ضال لا يعرف الطريق العملي إلى ذلك، وثانياً لأنه شديد الحساسية متناه في الاعتزاز بكرامته فيفر بها حتى من وجه الحبيب! أما الأديب (المصنوع) فهو قد ركب في (القالب) الخطأ وقبله وانصب فيه، ومحنته أولاً في (التركيب) الذي ركب فيه، وثانياً في الحقد المتأصل في نفس صغيرة بالفطرة وبالتربية، وثالثاً فيما يحاوله لبلوغ مرتبة العبقرية والعبقرية منحة من السماء

هذا فيما يختص بالعناصر الداخلية أو كما يسميه الدكتور جوردون صاحب كتاب (العصبي وأصدقاؤه) (ضغط الظروف) فهو الذي باصطدامه مع تلك العوامل التي ذكرناها يسبب المرض العصبي، وذلك الاصطدام منشؤه عند العبقري عظم الفرق بينه وبين البيئة، وعند الأديب المصنوع الفرق بين ما يتعاطاه وما يحاول أن يصل إليه

هذا موجز لمرضى الأدباء مرضاً نفسياً، أما أمراضهم الجسمية فمسببة عن اضطراب ذواتهم وقلقلة حياتهم. فهم قوم مسرفون في التفكير، ينامون قليلاً ويأكلون قليلاً - وأكثر الأدباء فقراء! وشذوذهم يدعوهم إلى تناول أطعمة شاذة، وقد يستعينون بالمنبهات على إدمان العمل ووفرة الإنتاج

وهم في مصر قليلو الرياضة، ولذلك يمرضون بالكبد والمعدة وأكثرهم يأتوننا شاكين من اضطراب القلب، وليس في قلوبهم مرض. وإنما منشأ علتهم فرط ذكائهم واطلاعهم فهم يقلبون كتب الطب فيفهمونها نصف فهم، ثم يتحسسون قلوبهم وأكبادهم ويتخيلون في المرض كما يتخيلون في الأدب.

إبراهيم ناجي