مجلة الرسالة/العدد 361/النقد الرخيص

مجلة الرسالة/العدد 361/النقد الرخيص

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1940



للأستاذ محمد محمد المدني

لا شك أن النقد أمر لا بد منه في قضايا العلم والبحث، وأنه ما دامت العقول المفكرة، والأقلام الكاتبة، فلا بد أيضاً من الآراء المتضاربة!

ذلك أن الناس يختلفون فيما يصدرون عنه اختلافاً شديداً تبعاً لاختلاف حظوظهم من العلم والعقل والتفكير ودرجة التأثر (بالعرف الطائفي) و (البيئة الخاصة):

هذا كاتب يستطيع - حين يعالج موضوعاً من الموضوعات - أن يخلص للحق فيه أكثر من إخلاصه لأي شيء سواه، فتراه يخلع ما عسى أن يكون له من آراء كونها لنفسه باعتباره عضواً في بيئة خاصة، أو متأثراً بظروف معينة، بل كونتها له هذه الظروف وتلك البيئة من حيث لا يشعر؛ فإذا خلع هذه الآراء وتحلل منها - ولو مؤقتاً - ولم يجعل لها سلطاناً على تفكيره، ولا أثراً في طريقة بحثه، استطاع أن يصل إلى النتيجة التي يبتغيها وهو أبعد من مزالق الخطأ، وآمن من مواقع الهوى!

أما إذا فرض الكاتب على نفسه ثقافة معينة أياً كانت قيمتها فسلم بقضاياها، واطمأن إلى عرفها، واستراح إلى أحكامها، ثم تناول ما يريد من بحث على هذا الأساس؛ فقلما يصاحبه التوفيق أو يصادفه النجاح، لأنه إذا صادفه في أثناء بحثه ما يخالف هذه القضايا التي آمن بها واطمأن مقدماً إليها، نفر منه وضاق صدراً به فاضطرب لذلك ميزان تفكيره واختل معيار منطقه!

ولا تجد شيئاً أضر على العلم، ولا أسوأ أثراً في العقل، ولا أشد إفساداً للرأي، من التعصب وإدخال (الطائفية) في محال البحث والنقاش. ذلك أن العلم والعقل والرأي ليست وقفاً على طائفة من الناس دون طائفة، وليس أحد أولى بأن يزعمها لنفسه من أحد، وليس لمنصف أن يحكم فيها عرفاً دون عرف، أو ثقافة دون ثقافة، وإلا خرج من دائرتها، وتحلل من منطقها!

ومن هنا يأتي النقد، ومن هنا أيضاً تختلف قيمته، فيكون بعضه غالياً ثميناً، وبعضه مبتذلاً رخيصاً. وتختلف كيفيته، فيكون بعضه هادئاً نزيهاً، وبعضه هائجاً سفيهاً! وكل ذلك بحسب اختلاف معينه الذي فاض عنه، أو إنائه الذي نضح به! ففي ناحية التفكير الرشيد، والعقل المتزن، والعلم الموثوق به، تجد النقد الهادئ، والرأي السديد، والأسلوب الراقي، واللفظ المهذب! وفي ناحية التفكير القاصر، والأفق المحدود، والعلم الذي هو أشبه بالجهل، تجد النقد الهائج، والرأي الفطير، والأسلوب الوضيع، واللفظ البذيء!

ولهذا وذاك أمثلة فيما يطلع به الناقدون على الكاتبين من نقد أو اعتراض، وفيما تجري به حركاتهم وألسنتهم من فعل أو قول.

ولو شئنا لمثلنا هنا بما نعرف فلا سودت وجوه، وابيضت وجوه! ولكنا نعرف أن الموازنة على هذا النحو تؤلم نفوساً لا نحب لها أن تألم، وتقض مضاجع عزيزاً علينا أن تقض، فحسبنا أن نجعل على ذلك علامة يلمح بها ما نريد أن نفضحه، من (النقد الرخيص)

إذا أردت، أيها القارئ الكريم، أن تعرف قيمة النقد فانظر إليه فإن وجدت صاحبه يبحث في الجوهر واللباب، دون العرض والقشور، ويطيق أن يشرح بالحق صدراً، ويعترف به جهراً، في أسلوب عفيف، ولفظ مهذب، فذلك هو (النقد الثمين)

وإن رأيت صاحبه يشغل الناس بغير الحديث، ويهرب من مواجهة الحق، ولا يكرم قلمه أن يسيل بالألفاظ النابية، والكلم الجافية، كأن يرمي الذي ينقده بالجهل، وسوء النية، والملق، والضعف، والعقوق، والفسوق، وغير ذلك من الأوصاف، فاعلم بأن هذا هو (النقد الرخيص)

وإنما كان كذلك لأنه لم صاحبه جهداً، ولم يتقاضه تفكيراً ولا تعباً، فقصاراه أن يكون مجموعة من القول السيئ لزت في قرن، ثم قذف بها صاحبها في وجوه الناس، فأبت إلا أن تعود إليه لتلتصق به!

وقد عني القرآن الكريم بأن يرسم للناس طريق الأدب في هذا المجال واضحاً، وأن يضرب فيه الأمثال، والله بكل شيء عليم! (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)

(ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)

(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

وينبغي على كل حال أن يغتبط الكاتب ذو الفكرة بما يتطاير حوله من سهام النقد، أو يثور عليه من غبار الاعتراض، فإن ذلك دليل واضح على أن فكرته قد وضعت موضع النظر، وأنها جديرة بالأخذ والرد والمناقشة والجدال

أما الفكر الهزيلة الساقطة فهي التي تولد فلا يحس بميلادها أحد، وتموت فلا يشعر بفقدها أحد، وصاحبها في الحالين مغمورٌ مغمور!

وينبغي أيضاً أن يكون الكاتب - مع اغتباطه بما يرى من الاهتمام بفكرته - مترفعاً محتفظاً بمستواه، فلا يغريه إخلاصه للفكرة، وتفانيه الذود عنها، بأن ينازل غير الأنداد، فيجادل فيها الوضيع كما يجادل الرفيع، ويناقش الجاهل كما يناقش العالم، ويعامل المكابر المعاند بما يعامل به المستوضح المتثبت، ويسوى بين (النقد الرخيص) و (النقد الثمين) فإن في الناس من يجعل ذلك حيلة، ويتخذ منه وسيلة، ليطير ذكره ويذيع اسمه. فليحذر الكاتب هذا النوع من الناقدين وليفوتوا عليهم قصدهم، ويعكسوا - بإهمالهم - غرضهم!

وفي مثل ذلك يقول بشار بن برد: (هجوت جريراً فأعرض عني واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس)

وقد اعتذر مسلم بن الوليد عما ترك من هجاء دعبل الخزاعي بأنه ليس كفئاً لهجائه، وأن عرضه أدنى من أن يهجى، فهو يتركه لهذا الغرض الدقيق. قال:

أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل!

وكما ينبغي للكاتب أن يحتفظ بمثلها للمنبر الذي أشرف على الناس منه، فإذا كتب كاتب في (الرسالة) مثلاً فعليه ألا يشوه جمالها بما يرد فيها على (النقد الرخيص) ينشر في غيرها

تلك شرعة النقد والكتابة عندي، وأنا أولى بأن أطبقها على كل من نقدني فأسرف

فيأيها الذين نقدتم فأسرفتم، ويأيها الذين نبا بكم القلم حين كتبتم: اذهبوا جميعاً فأنتم الطلقاء! محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة