مجلة الرسالة/العدد 361/حركات الإصلاح الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 361/حركات الإصلاح الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1940



أزمة إسلامية؟

للدكتور علي حسن عبد القادر

دكتور في الفلسفة والعلوم الإسلامية من جامعة برلين ومدرس

بكلية الشريعة

أيوجد حقاً ما يسمى أزمة إسلامية؟ وهل صحيح أن الإسلام يجتاز في هذا العصر مرحلة اجتماعية خطيرة، وأنه يقف الآن عند نقطة فاصلة ويمر بدور حاسم في تاريخه، وسيبرهن على استحقاقه البقاء والخلود إذا مر بها صحيحاً سليماً؟

كانت هذه الأسئلة تتردد في نفسي وتضطرب وكنت أعالج منها ضيقاً وحرجاً عندما كنت أقرأ هذه الرسالة الصغيرة (الأزمة الإسلامية) للأستاذ ريشارد هرتمان

ترى هل أحسن المسلمون بهذه الأزمة التي لم تنل بالطبع عقيدتهم القوية وإيمانهم الصحيح الخالص، أجل. ولكنها نالت أمراً عزيزاً لديهم. نالت حياتهم في أشكالها المختلفة ومست قوانينهم وشريعتهم ونظمهم الاجتماعية، وأصبح المسلم مضطرباً في حياته تتقاذفه أمواج شتى من حضارة جديدة وأفكار حرة وتقاليد موروثة ودين راسخ، لا يجد التوفيق بين ذلك كله سهلاً ميسوراً، وهكذا فإن المسلمين في جميع البلدان الإسلامية يعانون أزمة وشدة تكاد تودي بحياتهم وقد أودت بها فعلاً في بعض البلاد.

لاشك أن الناس لا يقرؤون التاريخ الحديث للإسلام، أو كأنهم لا يفكرون فيه كتلة تضم المسلمين في أقطار الأرض، فهم يغمضون أعينهم عما حصل وما يحصل في تركيا وبلاد الهند الإسلاميتين من حركات وثورات، بل وما يحصل بين سمعهم وبصرهم في مصر حيث الحياة قلقة والنفوس ثائرة والإسلام ينقبض في عقر داره يوماً عن يوم، وحيث سلطان الشريعة الإسلامية ضعيف. أترى أن هذا لا يستحق النظر الجد والتفكير العميق، أو أنه يكفي الصراخ والعويل كلما خرج خارج من أفراد أو دول؟

حقاً أن رجال الأزهر وهم الذين يمثلون جبهة الدفاع عن الإسلام والذود عن حياضه بما عرفوا به من علم صحيح وفكر مستقيم هم وحدهم الذين شعروا بهذا الخطر الداهم الذ يهدد حياة المسلمين، وهم الذين أدركوا المنحدر الذي قد ينحدرون إليه، فهبوا يؤدون رسالتهم التاريخية في شجاعة وصبر، مضحين في سبيل هذا الواجب بهنائهم وسعادتهم غير مبالين بما يقف في طريقهم من صعاب لا يثنيهم عن عزمهم ما يبيته لهم الخصوم، ولا يصدهم عن مهمتهم ما يرميهم به ضعاف الإيمان، وهم من أجل ذلك في أزمة شديدة قاسية مضطربة نفوسهم وحياتهم أيما اضطراب.

في رسالة الأستاذ هرتمان بيان شامل دقيق لحركات المصلحين الذين تنوعت بهم طرق الإصلاح، واختلفت لديهم سبل التجديد تبعاً للثقافات المختلفة التي عرفوها والبيئات التي اتصلوا بها، فمنهم من رأى الرجوع إلى القديم والتمسك بالإسلام الأول، ومنهم من رأى الأخذ بالجديد كله، ومنهم من سلك سبيل التوفيق. وعلى هذا يدور البحث في هذه الرسالة القيمة التي سدت فراغاً كبيراً في الأبحاث الإسلامية الحديثة. والأستاذ هرتمان عالم هادئ الطبع اتصلت به أثناء دراستي ببرلين فعرفته يمتاز عن غيره ممن بحث في العلوم الإسلامية بنضوج الفكرة، والرجوع إلى الحق إذا ظهر له، لا يصدر حكمه إلا بعد تريث وترو في رفق وأدب. وهاأنذا أعرض عليك فصولاً من هذا البحث:

- 1 -

يقول الأستاذ: قلما تجد بين الأديان الكبيرة ديناً ينفذ إلى حياة معتنقيه كلها فردية كانت أم اجتماعية مثل الإسلام. ذلك أنه من وقت النبي والخلفاء أخذت السلطة الدينية فيه شكل الدولة السياسي، وبقي عدم التفريق بين أمور الدين وأمور الدولة - على الأقل في المبدأ - قائماً إلى الوقت الحاضر. وهكذا أليس الدين كل شيء ثوب التشريع والفقه، وقد طور عمل القرون المتوالية هذا الفقه إلى بناء هائل منظم لكل أنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية تنظيماً دقيقاً، وأصبحت القوانين كلها ذات ثوب ديني تبعاً لهذا المبدأ الذي لا يفرق بين أمور الدين وأمور السياسة.

حقاً إن مثل هذا القانون قد تكون فيه قوة مادام حياً جديداً موافقاً للعصر المعمول به فيه، ولكن هذا كان إلى حد محدود، فإنه في أثناء تطوره لم يكن نافذاً معمولاً به على الإطلاق، لأنه في الحقيقة لم يكن من عمل الدولة وأعضائها، ولكنه كان عملاً للمؤلفين. وأخيراً عندما اقتنع الناس بأنه تجب متابعة الخلف للسلف الأول في كل أمر، وأن كان ما فصل فيه السلف الصالح مرة في وقت يجب أن ترتبط به الأمة الإسلامية في كل الأوقات. لما حصل هذا الفقه المحدد لكل حياة المسلمين في ثوبه الديني المقدس خطراً مهدداً يقف أمام كل إصلاح.

ولم يشعر أحد بهذا الخطر ولم يكن حاداً ظاهراً ما دام العالم الإسلامي على قمة الثقافة. كان هذا في العصور الوسطى، وكانت الحياة المسيحية إذ ذاك تشبه إلى حد ما، حيث كانت حياة المسيحيين تحت سلطان الكنيسة، وكانت هناك ثقافة ومدنية مسيحية كما كانت هناك ثقافة ومدنية إسلامية وكلاهما بالرغم من تخالفهما في العقيدة كانا متقاربين، ونشأ ومن ورائهما ثقافة وثنية. وبينما كان الدين في الغرب يرجع إلى الوراء وتضيق حدوده أثناء مرحلة التطور من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وتحل محل المدنية المسيحية للعصور الوسطى مدنية وطنية - بقي الإسلام سائراً في طريقه القديم القائم على الدين - ومن هنا كانت الثغرة بين الشرق والغرب واسعة، وبقى للشرق وللغرب كل له لغته الخاصة إلى يومنا هذا.

وأخيراً نوقشت مسائل التاريخ، وفتح المسلمون أعينهم على وضع المدنية الإسلامية للقرون الوسطى إزاء المدنية الحديثة. فماذا كانت النتيجة؟

إن العالم الإسلامي يف الآن عند نقطة فاصلة، فهو في أزمة، فهل قطع الإسلام - الذي يظهر مرتبطاً بالعصور الوسطى - كل شوطه وأتم القيام بدوره؟ وهل هذا المرض الباقي إلى الآن من الإسلام نفسه؟ أو أن الإسلام كدين متفق مع الإصلاح الحديث؟ وهل يستطيع الإسلام أن يتخلص من تأخر العصور الوسطى التي ارتبطت به؟ وهل هو في نفسه صالح وقادر على التطور؟

على جواب هذه الأسئلة يتوقف كيان الإسلام كدين، بل حتى في الأمور السياسية والاقتصادية بالنسبة لمستقبل الشعوب الإسلامية.

ولقد كانت مسألة عدم استطاعة الإسلام لإصلاح حقيقي، وعدم صلاحيته للتقدم، عقيدة سائدة عند الغربيين منذ عشرات السنين، ولم تكن هذه العقيدة سائدة عند (أهل التبشير)، وفي أوساط المبشرين الذين لا يفهمون عن الإسلام إلا صورة ناقصة جداً وغير صحيحة، بل أن الأمر تعدى إلى بعض مؤرخي الأديان مثل رينان الذي كان يقول: إن الإسلام عدو للعلم. بل قد تعدى إلى بعض السياسيين العارفين بشئون العالم الإسلامي مثل اللورد كرومر الذي حكم على الإسلام حكماً قاسياً حين قال: إن إصلاح الإسلام يخرج الإسلام عن أصله

ونحن لا ننكر أن ما قيل من أن الإسلام عدو للإصلاح وليس ملائماً للأفكار الحديثة، قد يكون له بعض الأسباب، ولكنا هنا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعرض لأحوال غير مفهومة لعوام المسلمين الذين أثبتت الملاحظات شيئاً من تعصبهم.

فإن ذلك كله لا يرجع إلى الدين الإسلامي نفسه، بل إلى العناصر والبيئات التي حل فيها، أو إلى ما انتشر بين الناس من أن الإسلام ليس إلا تكراراً لليهودية والمسيحية، فمثل هذه الأشياء قد تكون موانع للإصلاح، ولكنها على أقصى حد أمور تبعية شكلية وليست أموراً أصلية. وأنه من البعد عن موضوع البحث أن نتكلم عن هذه الظواهر الشعبية في الإسلام، التي هي عبارة عن توفيقات بين تعاليم الدين وبين ما هو متأصل قديم في الشعوب من إفهام ضعيفة وأخرى ساذجة. ولكي يحكم الإنسان على جماعة دينية لا بد له من أن يحكم على مبادئها الصحيحة، وفي الإسلام يجب علينا أن نفهم مبادئه بكل وضوح، وأن نستبعد عنه ما ارتبط به من إفهام العوام، وحينئذ فقط يكون صحيحاً سليماً.

ولسنا في حاجة اليوم - لكي نفهم الإسلام في أطواره التاريخية - أن نقرر أنه لا يجوز لنا أن نرجع مباشرة إلى صحاب الرسالة (ص) كما نعرفه تاريخياً، فإن جاز لنا ذلك فإن الأمور تكون في غاية البساطة، لأنه ليس من شك أن النبي - الذي لم يكن نبياً فقط بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، بل كان سياسياً يدير أمور الدولة - كان في الحقيقة واسع الأفق في دعوته ويحسب للأمور حسابها. وجوابه المعروف: (أعقلها وتوكل) كلام له مغزاه، ويجب أن لا ننساه في مجرى التطورات الأخيرة في الإسلام.

ولكن الواقع أن الرجوع إلى ما كان عليه الرسول فقط لا يعرفه الإسلام التاريخي على ما هو عليه كجزء من حقيقته الصحيحة، فإن الإسلام كما يعتقد أهل السنة ليس إلا نتيجة لتطور طويل كثير التقلب. ذلك أنه لم يكن الإسلام في عهد الرسول إلا إيماناً سهلاً وقوانين للحياة بسيطة. وعندما انتشر بهذه السرعة الفائقة في بلاد ذات ثقافات مختلفة غير التي كانت في مهده الأول، دعا الأمر إلى تحوير وتشكيل. وهكذا تم للإسلام إضافة أشياء إليه أثناء امتزاجه بالتراث العقلي الذي كان عند سكان الأمم المفتوحة. حتى أمور العقائد التي بقيت بعد كفاح شديد مقصورة على مبادئ قليلة خضعت لجولات واسعة حرة من الشرح والتفسير. وكان أكثر شيء توسعاً وازدياداً هو تنظيم أمور الحياة أو بعبارة أخرى الفقه والقانون.

ولكن هذا الفقه الإسلامي الذي كان في نوعه دينياً سياسياً وثقافياً، والذي كان منذ اللحظة الأولى أمراً لا يقبل التغيير، أقفل نهائياً وختم في نهاية القرن الثالث الهجري تقريباً، فوقف نشاط حركة دينية سياسية ثقافية نشيطة سنلم بأسبابها في المقال الآتي.

علي حسن عبد القادر