مجلة الرسالة/العدد 361/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 361/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1940



حرب ونضال

تأملات في مجاهل الكون

للدكتور محمد محمود غالي

عندما اندلعت ألسنة الحرب في سبتمبر الماضي كتبنا مقالاً في (الرسالة) تحت عنوان (فلنستمر)، اعتزمنا فيه مواصلة الكتابة رغم مجابهة العالم لمحنة قاسية لم يعهدها من قبل، ورجونا ألا تصرفنا الحوادث عن أداء المهمة، وليست الكتابة بالأمر الذي يستطيع الإنسان المضي فيه وهو مشغول الفكر مضطرب البال، وإنما لهدوء النفس والنزوع إلى الكتابة أثرهما الواضح في النجاح والقدرة على التسطير. فالكتابة لا تُقصد لذاتها، وإنما تقصد لما ترمي إليه؛ وإن الذي تُترَكُ له صحيفة ليملأها، يجب أن يكون أهلاً لأن يفيد القراء، وإلا فليترك المجال لمن هو أقدر على أن يكون أكثر فائدة لهؤلاء الذين يهبون بعض أوقاتهم للمطالعة.

ولقد خصَّصَتْ (الرسالة) صفحة لمباحث علمية توخينا أن نخط فيها هيكل الكون، وحاولنا أن نلفت النظر إلى ما فيه من تنافس؛ ووالينا كتابة هذه المقالات العديدة التي نسرد فيها قصة التقدم، فقطعنا في ذلك شوطاً بعيداً، واستعرضنا للقارئ بعضاً من الخطوات العلمية الكبرى التي توصل إليها العلماء في العهد الأخير، وفيها ما له علاقة بتقدم الإنسان في حاضره ومستقبله.

وقد تابعنا هذا الاستعراض وفق تفكيرنا، فطغت مسائل أخرى عُنينا بشرحها أكثر من غيرها، إذ كان لبعضها علينا اثر خاص، وللبعض الآخر في اعتقادنا سهم في محور التقدم، ولا شك في أنه كان لما تعلمناه عن قصد أو غير قصد، وما طالعناه عن رغبة أو مصادفة أثر في هذا التكييف.

وما كنت أعتقد أن الحوادث في العالم الغربي الذي عنه ندرس وعلى ضوء مؤلفاته نتكون تتطور بهذه السرعة الخاطفة، وما كنت أعتقد أن سرعتها هذه تؤثر على نفس في الأسبوع الماضي هذا التأثير الذي سلبني في تلك الآونة الصفات التي تجعل منى شخصاً مفيداً للقارئ، لذلك تنحيت عن عمد ريثما تهدأ النفس ويستقر الفكر فأستطيع أن أتابع السير في هذه السطور. ولئن أسرعنا في كبح جماع النفس عن الاسترسال فيما يسوقها إلى الاضطراب ويدفع بها إلى الوجوم؛ فإننا نطلب من القارئ أن ينحو بنفسه هذا النحو، وقد يكون له متابعة هذه السطور التي نستعرض فيها الناحية الإيجابية من عمل الإنسان خير عزاء عن الناحية السلبية التي يندفع إليها فريق من البشر، وهي الناحية التي يستقي القارئ أنباءها في الصحف اليومية، عندئذ وكلما مر أسبوع يتصفح الرسالة ساعة يطالع فيها شيئاً غير الذي تغلب على نفسه في يومياته وتملك الكثير من أوقاته، هنا يرى في قصة العلوم وفي سير الفلسفة، في تطور التفكير وفي تقدم الإنسان، في ازدهار الميراث وارتقاء المعرفة، أن الدنيا ما زالت بخير، وأن الإنسان ما زال حياً يتوارث المعرفة ويعمل على تقدمها على كر الأيام.

فلنستمر إذن في عملنا وليستمر الذين يتابعون كتاباتنا في مطالعة هذه العجالات التي نعالج بين ثناياها طرفاً من عظمة الإنسان كمخلوق راق لا كمخلوق تعس، والتي يتجدد بها الأمل فضلاً عما فيها من غراء للنفس. ولا ريب في أن المحنة ستنتهي يوماً وأن الإنسان سواء أكان من أهل ألمانيا أو من أهل فرنسا وإنجلترا سيدرك أن من خطل الرأي محاربة أخيه الإنسان، وأن النضال بالكلام خير من النضال بالحديد والنار فيطرح هذه الآلات التي لا تترك وراءها إلا أشلاء تتناثر وأجساداً تتحول قبل الأوان، ونفوساً أشفَّها الحزن، وقلوباً مزقها اليأس، بل ويدرك أن توجيه الإنسانية صوب مدارج الرقى أولى من الرجوع بها القهقري

ولو أن السلطات تركزت يوماً في أيدي العلماء لانتظمت الحياة في نسق يكفل سعادة البشر، ولزال إلى الأبد كابوس هذه المجازر البشرية، ولو أن ما أنفق على التسلح صرف في رقي العلم ورفاهية الإنسان لرأينا قبل أن نترك الحياة أو تتركنا مدنية أرقى من التي ننعم بها، ولعهدنا وسائل للعيش تختلف جد الاختلاف عما نعهده اليوم. فلنستمر إذن في عملنا ولنتقدم نحو غايتنا مهما عاودتنا لحظات من الاضطراب، فلا اضطراب لم يعقبه استقرار، ولا حرب لم يعقبها سلم، ولا عمل سلبي مهما طال لم يتله عمل إيجابي. ولنكن جميعاً معاول بناء لا معاول هدم، بذلك نعاون في بناء صرح المعرفة ونضيف إلى هيكل الحضارة.

ولقد تركت عن عمد الجرائد اليوم لاتصل بالقارئ وتغلَّبت على نفسي بالاستماع إلى قطع موسيقية، وكان في (غابة فِيِناًّ لستراوس)، وفي (الرابسودي المجرية) لملحنها (ليسْتْ) ما استحثني على الكتابة وشدد قواي على التفكير، وستكون غايتي اليوم أن أرفه عن القارئ بكلمة من نسيج الخيال، ولكنه خيال جائز، خيال له اتصال بالموضوعات الأخيرة التي تعرضنا لها.

عندما نتصفح أنباء المعارك الدامية بين البشر ندرس ناحية من صفات الإنسان الذي تطورت حالته على هذه الأرض من مخلوق عاجز عن القيام بتافه الأمور إلى مخلوق يستخدم ذكاءه في ضرورة مرة وفي نفعه أخرى. ثمة عقيدة بأن هذا المخلوق هو أرقى المخلوقات طرا لأنه سما على كل ما يدب على وجه الأرض بذكائه ومقدرته

وإن جاز لنا أن نعتقد أنه المخلوق الوحيد من نوعه في الكون لتوافر اشتراطات طبيعية عديدة لاءمت وجوه على النحو الذي هو عليه لا يمكن أن تتوافر كاملة على غير هذه الأرض، فلا يجوز لنا أن نحزم باستحالة وجود مخلوقات أخرى على الكواكب لها صفات تختلف عن صفات الإنسان هذه الأرض.

إنما يُجيز المنطق إن لم يُحتمَّ على الباحث ألا ينفي وجود كائنات أخرى غيرنا على الكواكب ما دام الكون يشمل ملايين الكواكب السيارة، وما دام بين هذه الكواكب حتماً ما تسمح معه الظروف الطبيعية بإمكان وجود نوع من الحياة يشبه حياتنا، أو نوع آخر من الحياة يختلف عنها؛ على أن المنطق يدلنا أيضاً أنه لا يجوز لنا أن نعتقد بوجود أوجه شبه شديدة بيننا وبين هذه المخلوقات. وإذا كانت الأحوال الطبيعية الملائمة على سطح الأرض رغم تقاربها لم تكن كافية ليظهر في نوع الإنسان رجال من شكل واحد، فما أبلغ الفارق عندما تختلف الأحول الطبيعية بين ما في الأرض وما في غيرها من الكواكب وبالتالي بين سكان الأرض وغيرنا من الأحياء خارجاً عنها؟، وإذا كان الرجل الجاري أو الصبي الذي تنسم نسيم جاوه أو الصين يختلف كثيراً عن الرجل المصري أو العراقي الذي يتنسم نسيم مصر أو العراق، والذي تذوَّق ماء النيل أو الُفرات، ويختلف هذا وذاك عن الفرنسي مثلاً، فما عسى أن يكون الفارق إن تحقق لنا ما يكون عليه مخلوق راق يعيش في كوكب آخر غير كوكبنا وفي مجموعة شمسية غير مجموعتنا؟

ونحن في هذا تسوقنا فكرة الإشعاع إلى تصورات ينبغي التأمل فيها عندما نجيز لأنفسنا التحدث عن مثل هذه المخلوقات التي نعتقد أن وجدودها أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال.

ذكرنا في مقالاتنا الأخيرة أن الكون زاخرٌ بمختَلَف الإشعاعات التي لا تراها عين الإنسان ولا تشعر بها حواسه، وأن الضوء والكهرباء نوع واحد من الإشعاع، وإننا لا نرى من الأشعة إلا شيئاً طفيفاً إزاء ما لا نراه. ذلك لأننا خلقنا بحيث لا نرى من الكون إلا يسيراً من مكوناته العديدة الممتدة بعيدة عن حواسنا.

ولو أن كائنا غير الإنسان تكونت عنده حاسة النظر بطريقة يرى الأشياء بطولها وبعرضها، ولكن لا يستطيع أن يدرك منها ارتفاعها (هذا النوع من الكائنات يجوز وجوده أو هو موجود فعلاً)، فإن صور الأشياء تختلف عند هذا الكائن عن صورها عندنا، فإذا أمتد نظره من عَلٍ إلى مركبة ترام رأي هذه المركبة مستطيلاً يسير بين خطين يمثلان حدَّي الطريق الذي تسير فيه، ورأى (الكمساري) والسائق دائرتين إحداهما مجاورة لأحد أضلاعه والثانية تتنقل على حافته طوراً تقترب من ضلعه الأعلى وتارة تقترب من ضلعه الأسفل، ويرى الجمهور دوائر كثيرة متواصلة في صفوف متوازية داخل هذا المستطيل المتنقل.

إن هذا الكائن المسكين لا يستطيع أن يرانا على حقيقتنا، فلا تطلبنَّ إليه، وهو لا يرى من مركبه الترام إلا هذا المستطيل المتنقل، أن يستوعب ما فيها من مادة الخشب أو يذهب في الفكر إلى أكثر منذ لك فيفهم ما يحمله الخشب من أجهزة الكهرباء أو يفهم خواص أو ماهية هذه الظاهرة

ثمة ثلاثة مراحل في التطور أمام هذا المخلوق:

الأولى: وهي التي وصل إليها فعلاً أن يرى الأشياء بمساقطها فيرى في المركبات هذه المستطيلات المتحركة.

الثانية: أن يدرك هذه المركبات بارتفاعها ويستوعب أيضاً مادتها.

الثالثة: وهي اصعب المراحل، أن يدرك أعجب ما في تركيبها فيفهم أننا نستخدم فيها ظاهرة عجيبة هي ظاهرة الكهرباء فيعلم بذلك أمراً خافياً عن تركيبها الظاهري، أمراً يجعل لها شيئاً شبيهاً بالحياة إن صح أن الحركة من أهم مميزات الحياة.

نقف الآن عند هذا الحد من المقال، وما قصدنا من هذه السطور إلا لتكون مقدمة للمقال القادم

إنما نترك للقارئ فرصة يتأمل فيها لماذا اخترنا هذا النوع من المخلوقات العجيب الذي لا يرى من مركبات الترام إلا مستطيلات تتنقل في الطرقات التي يراها خطوطاً ممتدة في المدينة، ولا يرى من جمهور الراكبين وهو ينظر إليهم من مستو عال إلى دوائر متراصة في صفوف متوازية، ولا يرى من (الكمساري) إلا دائرة تتنقل على حافة هذا المستطيل.

ولم يكن مقالنا اليوم بالموضوع الذي يشق على فهم، ويحتاج إلى طرف يسير من المقدمة العلمية، أفكان لموسيقي (ستراوس) و (ليست) سبب لكي ننحو هذا التحو من التأمل؟ ربما كان لذلك اثر؛ ولكن مما لا ريب فيه أننا كنا في حاجة إلى هذه النغمات نستمع إليها بعد ما نملك النفس من الاضطراب المتوالي في الأيام الأخيرة، ولا شك في أن القارئ كان هو أيضاً في حاجة إلى هذا النوع من الترفيه عن النفس وتسكين الخاطر.

وإلى المقال القادم، فإننا في حاجة إلى هذا المخلوق العجيب لكي نشرح موضوعاً يلتمع في الذهن ويجول في الفكر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانه