مجلة الرسالة/العدد 361/من أدب الحرب
مجلة الرسالة/العدد 361/من أدب الحرب
جبان يصف معركة
للأستاذ محمود الدسوقي
(هذه القصة تصوير صادق لما يعتلج في نفس الجندي في
غمرة الحرب، وما يقع في سمعه وتحت بصره من هول
وكرب، يفقدانه شجاعته أحياناً، ويشحذان عزيمته أحياناً
أخرى؛ فأما أن يهرب كما يفعل راوي هذه القصة، وأما أن
يؤدي واجب الوطن على الوجه الأكمل كما فعل رفاق له.
وهذه الصورة بعض ما وقع في أوائل حرب السنوات السبع
التي شن غاراتها فردريك الأكبر ملك بروسيا على ماريا
تيريزا إمبراطورة النمسا وحليفاتها فرنسا وروسيا والسويد
وأسبانيا والريخ الألماني في سنة 1756، وكانت سجالاً في
الغالب بينه وبين أعداؤه)
قال البروسي الفار:
وأخيراً في الثاني والعشرين من سبتمبر (1756) أعلن النفير وتلقينا الأمر المسير، فسرت الحركة في كل شيء، ونقض في بضع دقائق معسكر واسع مترامي الأطراف كالمدينة العظيمة تجوبه في ساعات. وشددنا الرحال وتأهبنا للمسير، وصدر الأمر بالتقدم وانحدرنا إلى الوادي، وأقمنا عند برنا جسراً وشققنا فوق المدينة قبالة معسكر السكسونيين طريقاً ينتهي أحد طرفيه بباب برنا. وكان الكثيرون من أسرى السكسونيين يصعدون منه إلى الجبل متنزهين أربعة أربعة، ويلقون على امتداد الطريق الطويل شتماً وتعريضاً لاذعاً مفر لهم من سماعه. وكان بعضهم يقبل من تلك الناحية حزيناً مطرق الرأس، وآخرون يقبلون عليهم سيماء التحدي والقسوة، وفرق غير هؤلاء وأولئك تعلو وجوههم ابتسامة تأبى أن تترك للبروسيين الساخرين ديناً بلا سداد. في ذلك اليوم قطعنا قطعة أخرى من الطريق وعسكرنا في ليلينشتاين
وفي الثالث والعشرين كلف آلاينا بحماية عربات المؤن. وفي الرابع والعشرين قمنا بزحف مضاد، وبلغنا ليلاً وفي الضباب مكاناً لا يعلمه إلا الله. وفي الخامس والعشرين استأنفنا المسير مبكرين وقطعنا إلى أوسيج أربعة أميال، وهنا أقمنا إلى التاسع والعشرين نخرج كل يوم للاستطلاع، وتهاجمنا غالباً في أثناء القيام بهذه المهام جنود الإمبراطورة، أو يدهمنا من كمين وابل من الرصاص فيسقط غير واحد قتيلاً، ويتخلف جرحى كثيرون. فإذا ما صوبت مدفعيتنا بضعة مدافع نحو الكامنين ولى العدو الأدبار. ولم تكن هذه المصادفات تخيفني فسرعان ما ألفتها، فكنت أقول لنفسي: إذا ما دام الأمر على هذا المنوال لا يكون علينا منه ضير يذكر. وفي الثلاثين عاودنا الزحف طيلة النهار فلم نصل إلا ليلاً إلى جبل لا يعرفه منا أحد، ولا يدري من أمره من هم على شاكلتي إلا ما يدري الضرير. وتلقينا في تلك الأثناء أمراً بألا نقيم هنا خياماً وألا نلقي بنادقنا، بل نظل متأهبين على قدم وساق، إذ كان العدو على مقربة منا. فلما أصبح الصباح رأينا وسمعنا أخيراً ما كان يجري تحتنا في الوادي من ومض وقصف شديدين. وفي تلك الليلة المزعجة فر كثيرون من الصفوف وفي جملة من فروا الأخ باخمان. ولم تكن الفرصة قد سنحت لي بعد، وإن كنت إلى ذلك الحين لم يزايلني الاطمئنان.
واصطففنا في الصباح الباكر لننحدر من واد صغير ضيق إلى الوادي الكبير؛ ولم نكن نستطيع تمييز الأشياء من كثافة الضباب. فلما بلغنا السهل أخيراً وتقدمنا إلى الجيش الكبير كنا نزحف في ثلاث كتائب. واستبنا من خلال الضباب المنتشر كالسحاب جنود العدو في هضبة فوق مدينة لوبوستس في بوهيميا وكانوا من فرسان الإمبراطورة. أما مشاتها فلم تقع أعيننا عليهم إذ كانوا يرابطون في المدينة. وفي الساعة السادسة قصفت المدافع من كتيبتنا الأمامية كما قصفت بطاريات الإمبراطورة قصفاً من شدته أن كانت قنابلها تصل إلى آلاينا، وكان في الكتيبة الوسطى. وكنت إلى ذلك الحين أمني النفس بالهرب، فلما وقعت الواقعة عز علي الهرب وانسدت في وجهي المسالك جميعاً. وكنا نزحف في تلك الأثناء بلا انقطاع، فلم تلبث شجاعتي أن زايلتني، وكنت خليقاً أن أتسلل إلى بطن الأرض. ذلك أن خوفاً كالذي كان يتملكني كان يخلع على وجهي شحوب الموت، وكان يقرأ على سائر الوجوه حتى وجوه أولئك الذين عهدتهم مرحين لا يبالون. وكانت قناني الشراب الفارغة - ولكل جندي منها واحدة - تتطاير تحت وقع القنابل، فإن أغلبنا كان قد أتى
على آخر جرعة في قنينته واستمد منها شجاعته في ذلك اليوم؛ أما الغد فقد لا تكون به حاجة إليها. وتقدمنا الآن إلى مرمى المدافع إذ كان علينا أن نتبادل الموقف وكتيبتنا الأمامية. فيا هول ما شهدت! كانت كتل الحديد تئز فوق رؤوسنا، وتقع تارة أمامنا وتارة تنفذ إلى الأرض خلفنا، فيتطاير اليابس والأخضر والكلأ والحجر؟ وتدهمنا أحياناً فتمزق أجسامنا وتذرو أعضاءنا كما تذرو الهشيم الرياح. ولم نكن نبصر قدامنا إلا فرسان العدو تأتي بمختلف الحركات، فتارة تستعرض وتارة تستدير، وآناً تؤلف مثلثاً وآونة مربعاً تنتظم فيه. وتقدمت فرساننا أيضاً وكرت على العدو. فياله من وابل من الضربات يسقط مقعقعاً، ويمض خاطفاً! ولم تمض ربع ساعة حتى ارتدت فرساننا مدحورة وقد هزمها النمسويون وتعقبوها حتى مرمى مدافعنا. وهذا مشهد ما أجدر المرء بأن يشهده! خيول يعلق فرسانها في الركاب، وأخرى تجر أحشاءها على الأرض. وكنا ي تلك الأثناء ما نزال تحت نيران العدو حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وجناحنا الأيسر لم يطلق رصاصة، على حين كان الأيمن يخوض المعركة ويصلاها.
وظن الكثيرون أنه لا بد من الهجوم حيث يرابط جند الإمبراطورة. ولم أكن إذ ذاك جزوعاً كما كنت من قبل، وإن كانت عفاريت الجيشين لم تفتأ تقتل عن كثب والميدان مغطى بالقتلى والجرحى. وإذ ينتصف النهار أو يكاد صدر الأمر إلى آلاينا واثنين معه بالارتداد، فقلنا لعله إلى المعسكر فنكفي القتال!
وصعدنا مرتفعات الكروم بخطى حثيثة ونفوس مستبشرة، وملأنا قلانسنا من دوالي الكرم وأكلنا من أعنابها هنيئاً، ولم يخطر لي ولمن هم إلى جانبي سوء على بال، وإن كنا ما زلنا نرى من القمة إخواننا في المعمة تحت النار والدخان، ونسمع قصفاً مرعباً فلا ندري على التحقيق لمن كتب النصر. وكان قوادنا يقودوننا في تلك الأثناء مصعدين في الجبل، ممعنين في التصعيد إلى قمة شق في صخرها ممر ضيق. فلما بلغت طليعتنا القمة سمعنا الرصاص يطلق إطلاقاً مرعباً. فحزرنا آنئذ جلية الخبر، فإن بضعة آلاف من جنود الإمبراطورة قد كانوا تلقوا الأمر بالصعود إلى الجبل في الجانب الآخر لينقضوا على جيشنا من خلف، فاتصل الخبر بقوادنا فكان أن ارتددنا نحن لنسبقهم ونفسد تدبيرهم، ولو قد تأخرنا بضع دقائق لبلغوا القمة قبلنا ولكنا من الخاسرين. ونشبت مجزرة لا توصف قبل أن نتمكن من إقصاء البندوريين عن الغابة. وتكبدت مقدمتنا خسائر فادحة وانقضت مؤخرتنا لنجدتها حتى تم لنا احتلال القمة. وكانت جثث القتلى وأجسام الجرحى تؤلف تلاً تحت أقدامنا تتعثر فيه. وسرنا في أعقاب البندوريين نجليهم عن مرتفعات الكروم درجة درجة ونقفز خلفهم من صخرة إلى صخرة حتى بلغنا السهل. وأطبق البروسيون الأصليون والبراندنبرجيون على البندوريين كالجن، وكنت أنا حين حمى الوطيس كمن به مس لا يجد الخوف أو الذعر إلى قلبي سبيلاً، فأطلقت طلقاتي في الستين في شوط واحد، حتى إذا أتيت عليها سخنت بندقيتي وباتت في يدي كالجمر؛ فذهبت أجرها من نطاقها، واحسبني في تلك الأثناء لم ألق إلى جانبي نفساً حية إذ كان الكل قد هرعوا إلى الهواء الطلق. واتخذ البندوريون مراكزهم ثانية فوق السهل قبالة لوبوستس على مقربة من الماء، وجعلوا يطلقون بنادقهم مستبسلين على مرتفعات الكروم حتى عض غير واحد قدامي وإلى جانبي في الكلأ. وكان البروسيون والبندوريون يختلط بعضهم ببعض في كل مكان، فمن وجد من الآخرين لا يزال يتحرك ضرب بالكرنافة على أم ناصيته أو طعن بالسنان. واستؤنف القتال بالسهل. ولكن أني لامرئ أن يصف ما حدث والدخان والبخار يتصاعدان من لوبوستيس، والهد والرعد يصمان الآذان، والسماء والأرض تكادان تنطبقان!
أنى لامرئ أن يصف ذلك الفزع المتواصل لمئات الطبول وذلك العزف الذي يمزق القلوب أو يشدد العزائم من موسيقى الميدان المختلفة الألوان، وتلك الصيحات المنبعثة من كثير من القواد، والزمجرة المرعدة من مساعديهم، وتلك الاستغاثة وذلك الاستصراخ المتصاعدين من آلاف مؤلفة من ضحايا اليوم الأشقياء المدوسين بالأقدام أنصاف الموتى! لقد كان هذا كله يذهل الحواس وكانت الساعة الثالثة ولوبوستيس تحت النيران وجنود مقدمتنا يطبقون على البندوريين كالأسود الكاسرة، فيقفز مئات كثيرة منهم إلى الماء والمدينة نفسها مسرح للفتك والطعان. في هذه اللحظة لم أكن في الطليعة، بل كنت في المؤخرة لا أزال على جبل الكروم، بينا الكثيرون غيري كما أسلفت القول يقفزون في حمية من درجة في الجبل إلى درجة يبادرون إلى نجدة الإخوان. وإذ كنت لا أزال فوق المرتفع أطل على السهل، كما لو منت أطلع في جو حالك مرعد يتساقط فيه البرد، قلت لنفسي: هذا أوانك قد آن؛ أو قال لي على الأصح الملك الذي كان يحرضني: أركن إلى الفرار!
فتلفت من حولي فإذا كل شيء أمامي نار ودخان وبخار، ومن خلفي جنود كثيرون ما يزالون يهرعون للانقضاض على العدو، وعن يميني جيشان كبيران على أتم الأهبة للقتال، وعن شمالي مرتفعات الكروم وأدغال وغابات، وهنا وههنا بضعة من البروسيين والبندوريين والهوسار قد أربى قتلاهم على جرحاهم، فقلت: هنا! هنا! في هذا الجانب وإلا استحال الأمر علي فتسللت يسرة أخافت أول الأمر في مشيتي أخترق الدوالي. وكان بعض البروسيين لا يزالون يمرون بي مسرعين، فكانوا يقولون لي: عجل! عجل! أيها الأخ فالفوز لنا! أما أنا فلم أحر جواباً بل تصنعت قليلاً أني جريح، وواصلت السير أرتعش من الخوف ما في ذلك شك. وإذ أبتعد في تلك الأثناء حتى لا قبل لأحد برؤيتي ضاعفت من خطوي وأمعنت في سيري وغزرت فيه، وأنا أتلفت يمنة ويسرة كالصياد. وتطلعت من بعيد لآخر مرة في حياتي إلى حصاد الموت وحومة الفناء؛ ثم أطلقت ساقي للريح بجانب الغابة، وكانت ملأى بقتلى الهوسار والبندوريين وجثث الخيل، وعدوت عدواً سريعاً إلى النهر، ووقفت عنده. فإذا بضعة من جند الإمبراطورة المصابين الذين تسللوا مثلي من المعركة يصوبون ألي بنادقهم عندما أبصروني ويعاودون إلى التسديد مرتين أخريين غير عابئين ببندقيتي التي طرحتها، وبقلنسوتي التي كنت ألوح بها وأشير الإشارة المألوفة. على أنهم لم يطلقوا النار، فاعتزمت أن أعدوا إليهم ولو لم أفعل لكانوا أحرياء بأن يطلقوا علي النار كما علمت بعد ذاك. ولما جئتهم وقلت لهم إني فار من الجيش، أخذوا مني بندقيتي، ووعدوني بأن يردوها لي فيما بعد. . . لكن الذي استحوذ عليها لم يلبث أن اختفى بها على الأثر؛ واقتادوني إلى القرية التالية وكانت تبعد ساعة كاملة من لوبوستيس؛ وكانت لنا من خلال ذلك جولة في الماء وليس من نقالة سوى زورق واحد، وصراخ الرجال وعويل النساء والأطفال يرتفع كلاهما إلى أجواز الفضاء، فكل يريد أن يعبر أولاً خوفاً من البروسين، وكلهم يتصورونهم جد قريبين، أو لعلهم بثيابهم عالقون، ولم أكن في جملة المتأخرين بل قفزت إلى وسط زمرة من النساء، ولولا أن الملاح قذف بالبعض إلى خارج الزورق لبتنا من المغرقين، وكان في الضفة الأخرى مخفر بندوري رئيسي قادني إليه من رافقوني فتلقاني ذوو الشوارب الشقراء تلقياً حسناً، وقدموا إلي التبغ والشراب على الرغم من عجزنا البادي عن التفاهم، وأنفذوا معي صحبه إلى ليتميرتز فيما أظن، حيث قضيت ليلى بين بضعة من أبناء بوهيميا، وأنا غير آمن بينهم على رأسي. لكنه قد كان بلغ معي جهد النهار ومحنته مبلغاً دار منه رأسي فكانت هذه هي النقطة الهامة آخر ما فكرت فيه.
وفي الصباح وكان الثاني من أكتوبر نقلت إلى بودين حيث مركز القيادة الإمبراطورية العامة. وهناك التقيت بمائتي بروسي كلهم هارب على طريقته، وفي جملتهم صاحبي باخمان. ولشد ما ابتهجنا باللقاء على حين غفلة وفرحنا بالنجاة والحرية. وطفقنا نتحدث ونهلل كأننا بالبيت نصطلي، ونذكر زبداً من الإخوان وعبيداً، ونتساءل أين هما يا ترى؟
وسمح لنا بالتجوال في المعسكر، ووقف الضباط والجنود حولنا زمراً يستزيدوننا من الحديث عن أشياء لا ندريها. وعرف بعضنا كيف يستميل مضيفه بالمداهنة واختراع مئات الأكاذيب عن البروسيين حطاً من قدرهم وتقليلاً من شأنهم
وكان بين جنود الإمبراطورة من هم على هذه الشاكلة فيشاً وغلواً، فزعم أقصر قزم فيهم أنه حمل أطول براندنبرجي على الفرار، واقتادوني بعد ذلك إلى قرابة خمسين أسيراً من فرسان بروسيا فكان منظراً أليماً! فإن أحداً منهم لم يسلم من جرح أو مجل. وقد تهشم وجهه كله، وبعضهم قد أصيب في رقبته أو أذنه أو كتفه أو فخذه. وقد كانوا جميعاً يتأوهون ويئنون. وكم حمد الله أولئك البائسون أن جنبنا هذا المصير مصيرهم! وكم حمدنا نحن الله على ذلك وأثنينا عيه! وقضينا الليل في المعسكر ثم نقد كل منا (دوكات) لسفره، ثم بعثوا بنا إلى قرية بوهيمية حيث غفونا قليلاً؛ ثم رحلنا إلى (براغ) في اليوم التالي.
وهنا توزعنا وتزودنا بالجوازات كل ستة أو عشرة أو أثنى عشر معاً ما داموا يتبعون طريقاً واحداً. وكنا خليطاً عجيباً من السويسريين والشوابيين والسكسونيين والبفاريين وأبناء التيرول والوبلش والفرنسيين والبولاكيين والأتراك. وكانت براغ ترتعد خوفاً من البروسيين ويستولي عليهم رعب لا مثيل له. وكان أهلها قد علموا بنتيجة معركة لوبوسيتس وأيقنوا أن الظافر لا بد أن يكون على الأبواب. وهناك أيضاً أحاطت بنا زمر الجنود والأهالي لنقص عليهم ما ينتويه البروسون؛ فكان بعضنا يطمئن تلك الأرانب الجازعة، وبعضنا يجد مسرته في إرعابهم وفي القول بأن العدو قريب المزار وإنه محنق كالشيطان.
محمود الدسوقي