مجلة الرسالة/العدد 362/الحرب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 362/الحرب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

التاريخ يسجل

لم يشهد التاريخ انسحاباً موقفاً مثل انسحاب قوات الحلفاء من بلجيكا، ولم يشهد التاريخ أيضاً تقهقراً أكسب القوات المتراجعة روحاً معنوية كالذي كسبته جنود الحلفاء في معركة الفلاندر. فقد عملت الحوادث على إرسال موجة شديدة من اليأس والتشاؤم في صدور العسكريين، حتى رأى بعضهم أن الانسحاب لا يتم إلا بمعجزة. وهانحن أولاء نرى المعجزة تتم، ونرى جنود الحلفاء في بلادهم بعد ما تسلحوا بعزم جديد وروح جديدة هي الاستخفاف بالقوة العسكرية الألمانية

فخبرها جنود الحلفاء وهي في أحسن أحوالها وأقوى مواقعها بينما كانوا هم في أسوأ أحوالهم، وأحوج موقف يمكن أن يوضع فيه جيش. إذ يفاجئون بانسحاب القوات البلجيكية التي كانت تحتل مواقع هامة؛ ويؤدي إلقاؤها لسلاحها إلى كشف ظهر قوات الحلفاء. فإذا هي تسعى لضم جموعها، وإذا هزمتها محققة.

ومع هذا، فعزيمتها لا تلين، وأملها في النجاة لا يضعف، وصبرها على أهوال القتال لا يتضعضع. فلم يفت في عضدها القتال المستمر عشرين يوماً ليل نهار. ولم يوهن من قوتها وروحها المعنوية انقلاب المآل من حال إلى حال. فأي عزيمة وأي صبر احتمال سلحت بها قيادة الحلفاء جيوشها؟ لا شك أن القيادة الرشيدة كانت عاملاً فعالاً في إقرار هذه الروح في الجنود، ولا شك أيضاً أن أخلاقاً قوية ساعدت القيادة على تحقيق أغراضها والوصول إلى أهدافها. لقد خسر الحلفاء هذه المعركة بالخيانة، ولكنهم كسبوا نصراً عسكرياً وتعلموا كيف يواجهون الألمان ليحرزوا النصر النهائي

الشجاعة تفوز

أما عوامل اليأس من إنقاذ هذه القوات فكانت كثيرة أهمها:

1 - تسليم الجيش البلجيكي

2 - إغلاق طريق الانسحاب لضيق البقعة الأرضية فلم يبق إلا منفذ البحر مع وعورة مسالكه

وتم استسلام الجيش البلجيكي في ظروف غريبة شاذة، فبينما كانت قوات الحلفاء تواصل قتالها يلقي ملك البلجيك سلاحه دون إخطار، ويضع جيوش الحلفاء في مأزق حرج. فقد كانت قواته تقاتل في مراكز رئيسية كانت جيوش الحلفاء لها بمثابة احتياطي يسد العجز الذي يطرأ على بعض نقطها

ولهذا توزعت فرق الحلفاء بين القوات البلجيكية، فلما ألقت هذه السلاح انعدم الترابط بين قوات فرنسا وإنجلترا. ووجدت نفسها محاصرة بقوات ألمانية تحتل مواقع الجيش لبلجيكي الذي كان بالأمس ظهيرها وعمادها.

ثمن الخيانة

لقد تورعنا في مقالنا الماضي عن التصريح بأن عمل ملك البلجيك كان خيانة مقصودة؛ أما الآن فإننا إزاء ما عرف من تصرفاته قبل التسليم وبعده، وعن الثمن الذي تقاضاه لا نجد مفراً من التصريح بما أخفينا. فقد خان القوات التي آزرته خيانة أدت إلى قلب الموقف العسكري انقلاباً كبيراً أفسد جزءاً هاماً من خطط الحلفاء.

أما الثمن الذي تقاضاه ليوبولد الثالث فهو حكم بلجيكا وهولندا والمناطق المحتلة من شمال فرنسا. وليته تقاضى هذا الأجر حراً أو بشرط الاستقلال، ولكنه يتقاضاه وسيف هتلر مصلت على رأسه، فبعدما ما كان ملكاً مستقلاً شريفاً أصبح تابعاً خائناً لقضية الديمقراطية بزعامة هتلر

ضيق الميدان

ننتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية، وهي ضيق مجال الانسحاب فقد كانت جيوش الحلفاء تقاتل في رقعة صغيرة من الأرض يليها البحر. فكان مجال التراجع ضيقاً لا يعطي للقوات المنسحبة الميدان الكافي لإنشاء خطوط قتال جديدة. ولم يكن هناك مفر من إخلاء الميدان والاستعانة بالأساطيل البحرية لنقل الجنود، وهي مهمة شاقة محفوفة بالأخطار تستلزم تجمع القوات في بقاع صغيرة. فيسهل الفتك بالقوات سواء بالطائرات أو بالمدافع البعيدة المرمى.

ومن مبادئ العلوم العسكرية ألا تتجمع القوات بأعداد كبيرة في بقعة محدودة حتى لا تكون هدفاً سهلاً لطائرات العدو وتكون خسائرها كبيرة، ولكن تحقيق هذا المبدأ لم يكن سهلاً في هذه الحال ولا سيما بعد أغلق بعض الموانئ بإغراق بعض السفن المحملة بالأسمنت فيها فسدت مسالكها وتعذرت الملاحة فاضطر الحلفاء إلى الاعتماد على ميناء دنكرك وحده

القوة الكامنة

وتيسر تذليل هذه العقبة بتعاون وحدات الطيران والبحرية في إبعاد قوات العدو وتدمير خطوط مواصلاته. فوجهت إنجلترا عدداً هائلاً من سفنها الحربية والمدنية، وعبأت جميع قواتها البحرية من سفن صيد ونوادي تجديف وغيرها لنقل الجنود وحمايتهم. فتم الانسحاب بنجاح كبير وخسائر قليلة مني الألمان بأضعافها. ودلت هذه الحركة على ما في الأمة الإنجليزية من قوة كامنة تظهر في وقت الشدة

واستغل الحلفاء طبيعة الأرض حول ميناء دنكرك لإبعاد قوات الألمان عنها فغمروا الأراضي في شمالها وجنوبها بماء البحر واضطرت قوات الألمان إلى وقف تقدمها خلف حواجز الماء، بينما ترك الطريق التقهقر مفتوحاً من الشرق لقوات الحلفاء التي استمرت في قتالها أثناء انسحابها النظامي. فليس معنى الانسحاب ترك الميدان دفعة واحدة؛ بل إنه يتناول عدة حركات عسكرية. فبينما يهاجم جزء من القوات الجيوش المعادية يتراجع الجزء الآخر وهو يحمي مؤخرة القوات المقاتلة؛ وهكذا يستمر الحال فيتيح الفرصة للجزء الأكبر من القوات للوصول إلى أهدافها.

وفي الحرب الماضية

وإذا عدنا إلى سنة 1914 حين انسحبت الحملة البريطانية من خط بنش كونديه إلى جنوب نهر المارون نجد المجال الواسع الذي كان أمام تلك القوات، إذ كان ميدانها عريضاً تحمي جانبيه قوات فرنسية ولا تقلقه قوات الطيران كما هي الحال الآن. فكانت القوات تتراجع بنظامها العادي دون أن تلجأ إلى التجمع ودون أن تكون هدفاً صالحاً؛ واعتبرت حركة انسحاب الجنرال فرانش عملاً عسكرياً بارعاً نظراً لكثرة القوات التي كان يحاربها

وفي الانسحاب الأخير توفر للألمان الكثرة العادية العددية واستغلال الطائرات والموقف الحربي الممتاز. يضاف إلى ذلك ضيق مجال تراجع الحلفاء واقتصارهم على إنزال قواتهم من ميناء واحد تتعذر فيه الحركات البحرية لسببين: ضيق مدخله، وعوامل المد والجزر، وهما يستلزمان براعة كبيرة في القبض على دفة السفن

ولا تعتبر موقعه الفلاندر نصراً كبيراً للألمان، لأن قوات الحلفاء خرجت منها سليمة ولم تخسر إلا 20 % منها، وهذه القوات ستعود إلى ميدان القتال في فرنسا بعد أن تأخذ قسطها من الراحة. ولا تعتبر الموقعة حاسمة إلا إذا انتهت بتشتيت شمل قواتها على الأقل أو إبادتهم وهذا ما لم يحدث في معركة الفلاندر بل بالعكس أن الجنود الإنجليزية والفرنسية عرفت أثناءها فقط الضعف في القوات الألمانية بحركاتها العسكرية الحديثة وستستغل هذا الضعف في المواقع المقبلة. وكفى أن يؤمن الجندي بأنه أبسل وأقوى من عدوه ليقهره. وشعرت ألمانيا بفشلها فأسرعت في صباح يوم الخميس بتوجيه هجومها إلى جبهة السوم لتحصل على ما فقدته في الفلاندر. والمعروف أن معركة الفلاندر أتاحت لقوات السوم أن تحصن مواقعها

وإيطاليا؟!

من الواجب أن نناقش مسألة حربية ذات أهمية خاصة بالنسبة لنا، وهي مسألة دخول إيطاليا الحرب. فقد أصبح من المقطوع به اشتراكها فيها. ولكن هل من مصلحة إيطاليا أولاً والمحور ثانياً اشتراكها فيها؟ هذا سؤال لا يتردد الخبراء العسكريون في الإيجاب عنه بالسلب. فليس من مصلحتهما لا من الناحية العسكرية ولا من الناحية الاقتصادية أن تلج هذا السبيل

أما من الناحية العسكرية فقد ناقشنا موقف إيطاليا في البحر الأبيض المتوسط في مقال تبعاً لمواقعها العسكرية والقواعد البحرية التي تسيطر عليها. وبقي أن نتكلم عن قواتها العسكرية وموقعها الجغرافي ومقارنة هذه القوات بقوات الحلفاء مع ملاحظة تشتت الإمبراطورية الإيطالية في بقاع يسهل عزلها. فمستعمراتها في شرق أفريقيا محاطة بالممتلكات البريطانية فضلاً عن سهولة قطع مواصلاتها بإيطاليا بإغلاق قنال السويس في الشمال والبحر الأحمر من الجنوب، ثم فرض الرقابة البحرية على خطوط المواصلات البحرية عن طريق راس الرجاء الصالح وفي الشمال توجد تونس وهي محاطة بقوات الحلفاء من جميع جهاتها. والغالب أن يتم الاستيلاء عليها في فترة قصيرة من الزمن. وقد نعود إلى الحديث عن هذا الموضوع في مقال آخر

ومن الناحية الاقتصادية فإن إيطاليا بلد فقير بدأت عمرانها بطيئاً عقب استيلاء الفاشست على كراسي الحكم. وقد استنفذت كثيراً من مواردها في حرب الحبشة وحرب إسبانيا ولم يتح لها الوقت الكافي لاستغلال موارد مستعمراتها الحبشية، بل أن القلاقل ما زالت تنبئ بعدم الاستقرار في الحبشة نظراً لبداوة سكانها، وصعوبة أراضيها، وحاجتها إلى كثير من أوجه الإصلاح والرقي التي تعتبر الحجر الأول للاستغلال المادي

حرب الكلام

وتعتمد الحرب الحالية على عامل جديد هام هو العامل النفسي أو إلقاء الرعب في نفوس المتحاربين والمحايدين على السواء. ووضعت خطط السيطرة على أوربا على أساس ألا تدخل إيطاليا الحرب إلا بعد أن ننتهي ألمانيا من القضاء على دول أوروبا الشمالية والغربية أي بعد أن تنتهي مقاومة فرنسا وإنجلترا. على أن تكون إيطاليا في هذه الأثناء مبعث اضطراب للحلفاء فيقسمون قواتهم، ويتركون منها ما يلزم لمقاومة الاعتداء الإيطالي والتغلب عليه، وهذا هو السر في (تهويشها) الحالي، فهي تهدد بدخول الحرب ويؤلف شبابها المظاهرات ويصيح ساستها أن الساعة قد دنت، فتقف قوات الحلفاء المعبأة على قدم الاستعداد بعيدة عن ميدان القتال الحقيقي في الشمال

وهذه الخطة تضمن للمحور في الوقت نفسه قتال قواتها في ميدان واحد وتجزئه قوات الحلفاء ومقاتليها جزءاً جزءاً بدلاً من تركز مقاومتها في ميدان واحد. فمما لا شك فيه أن قوات الحلفاء متجمعة أقوى بكثير من قوات ألمانيا وإيطاليا، ولكنهما يستفيدان من هذه التجزئة فائدة عظيمة تعدهم بالأمل في النصر، ولكنه أمل بعيد

فإذا دخلت إيطاليا الحرب الآن فإنها تدخلها مكرهة لظروف خارجية طارئة، قد تكون ضغط ألمانيا عليها لشعورها بالحاجة إلى مساعدة جديدة وقوات كاملة، وقد تكون دفاعاً عن هيبتها نتيجة لإغراقها في الدعاية وحرب الكلام، وقد يكون خوفها من نفس حليفتها إذ تقف هي متفرجة بينما تفوز ألمانيا بنصيب الأسد، أو غير ذلك من العوامل التي يصعب الخلاص منها.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة