مجلة الرسالة/العدد 363/القصص

مجلة الرسالة/العدد 363/القصص

​الرجل الذي لا يقاوم​ المؤلف نجيب محفوظ
القصص
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1940



الرجل الذي لا يقاوم

للأستاذ نجيب محفوظ

في تلك اللحظة التي لا تنسى حين وجه المأذون سؤاله الفاتن إلى صابر أفندي عبد الخالق: (هل تقبل نكاحها؟). ثم عطفه إلى الآنسة حياة الخضيري قائلاً: (هل تقبلين نكاحه؟). في تلك اللحظة التي لا تنسى تنهد قلبان ارتياحاً وغبطة بعد أن احترقا شوقاً وجوى عشرة أعوام تساوي مائة عام مما تعدون. وقد لهجت الألسن بالخبر السعيد أكثر مما ألفت أن تلهج بنبأ زواج. لأن الحب الذي آلف بين هذين الشخصين عشرة أعوام طوال كان ذاع أمره، وجرى مجرى الأمثال ذكره، فغدا نادرة يطرب لها الكواعب ويستدفئ بها العجائز في أحياء غمرة والسكاكيني والظاهر وغيرها من الأحياء القريبة التي شاهدت من آياته ما تهتز له النفوس وتخفق القلوب. وقد طغى هذا الحب واستبد. فهزأ بالكبرياء، وأزال الفوارق واستأداهما ما يطيقان وما لا يطيقان من التصبر والتجلد والإخلاص والوفاء، فأدياها إليه عن طيب خاطر، وقدما على مذبحه القرابين عاماً بعد عام. أما حياة فهي كريمة السيد شلبي الخضيري تاجر الأخشاب ذي الثروة الواسعة والجاه العريض، والمكانة الملحوظة في أسواق التجارة وميادين السياسة والحياة النيابية، وكانت إلى هذا حسناء في مقتبل العمر مشهوداً لها بالجمال الفائق والرشاقة الفاتنة. وأما صابر فمن أسرة فقيرة من عامة الشعب، ارتقت به مدرسة الصنائع إلى وظيفة مهندس كهربائي بمصلحة الميكانيكا بمرتب ستة جنيهات. فوهبته قلبها وجمالها وصدقته المودة والإخلاص، وأعرضت وفاء له عن عشاق ملحين عنيدين، ورفضت أيادي شبان ذوي حسب ونسب وجاه، منهم طبيب وجيه، وضابط بوليس يعبث شريطه الأحمر بالأفئدة. فلم تطع سوى قلبها العاشق المفتون. وحافظ هو من ناحيته على عهدها، وأخلص لها الحب، وليس هذا بالشيء الذي يستهان به في مثل عصرنا هذا. وتحمل في سبيلها أذى كثيراً دأب والدها على توجيهه إليه قبل أن يسلمه اليأس من إذعان كريمته إلى قبوله. وفوق هذا، فلم يكن مما يجذبه إليها جاذب الطمع في مال أو جاه أو ترق، فكان حبه خالصاً نقياً. على أنه لم يعرف عنه مع ذلك أنه كان يغض الطرف قط عن حسان السكاكيني أو الظاهر، وما كان يستطيع ذلك، ولكن الحق الذي مراء فيه أنه احتفظ بقلبه وحبه لها دون بنات حواء جميعاً. . . وشاء الحب أن يختم ألم السنين بهذا الزواج. فقال أناس: إنه إذا كان الحب قد حكم أن يدعوهما دواماً إلى حدائق القبة وبساتين غمرة، فالزواج لا شك محتبسهما في بيته إلى الأبد، وأنه لن يرى بعد ذاك اليوم صابر أفندي إلا حين ذهابه إلى مصلحة الميكانيكا والكهرباء، أو عند أوبته منها. وصدقت فراستهم، ولكن شهراً واحداً رؤى الشاب بعده ذات مساء يغشى قهوة كان دائم التردد عليها أيام عزوبته، وقد نفخت فيه الحياة الجديدة نضارة وسعادة، فبدأ أنيقاً جميلاً، فلم يدهش لذلك رفاقه وتلقوه فرحين. . . فمضى يغيب حيناً ويعاود أحياناً، ثم اختفى ردحاً طويلاً فظنوا جميعاً أنه آثر هدوء البيت على ضجيج القهوة، ولكن واحداً ممن يتطوعون لإذاعة الأخبار قال إنه يراه كل مساء يجلس أمام (صالون الكمال) في شارع قمر لا يبرح مكانه حتى يغلق (الصالون) أبوابه حوالي الساعة العاشرة. فوقع القول من النفوس موقع الدهشة وتساءلوا عما يغري صاحبهم بتجنبهم وملازمة صالون الكمال. وكان بينهم خبثاء متطفلون فلم يهدأ لهم بال حتى أرسلوا رسولاً منهم يستطلع الخبر. وعاد الرسول بما هو أدعى إلى الدهشة، والإنكار قال: إن صابر عبد الخالق يسعى وراء حب جديد، وإن التي شغفته حباً هذه المرة معلمة بروضة الأطفال تقيم بشقة في العمارة رقم 10 بشارع البستان المواجه لصالون الكمال. . .

كيف أمكن أن يحدث هذا التحول الغريب؟ هل خبا الحب الذي صمد للشدائد عشر سنوات بهذه السرعة؟. . . ترى هل خنقه الملل في شهر وبعض شهر؟. . . أم بددته الخيبة وانقشاع الأوهام؟. . . وكيف مكن أن ينزع قلبه إلى امرأة أخرى بهذه السهولة بعد أن تعود على حب زوجة ذاك الدهر الطويل؟!

قبل أن نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نعرف أكثر مما عرفنا إلى الآن من هو صابر عبد الخالق؟

هو شاب في الثلاثين له فضائله وله رذائله مثل جميع الناس. فمن فضائله احترامه لنفسه وحرصه على كرامته ومحافظته على آداب البيئة وتقاليدها المتوارثة، وإن كان يشوب حماسه لهذه الفضائل ضيق آفاقه وانحصار ذهنه وضحل ثقافته مما يجعله ينحدر في كثير من الأحايين إلى الصلف والتعصب. وأما رذائله فهي أدنى إلى الفكاهة منها إلى الشر وتدور جميعها حول الغرور، والغرور الموجه إلى مزاياه الجسمانية قبل كل شيء. نعم لا أنكر أنه عظيم الثقة بمواهبه العقلية وقدرته الفنية كمهندس قليل النظير، ولكن تيهه بحسنه واعتداده بجماله يفوقان كل تقدير. وليس ثمة شك في أنه يحظى بقسط من الوسامة والجمال فقد خلق الله له عينين سوداويين يظلهما حاجبان مقرونان، وأنفاً مستقيماً. ولكن عجبه فاق حسنه كثيراً وغلب أثره على فعاله وأقواله، وكان أمراً ملحوظاً لدى رفاقه منذ الصغر فاستبقوا إلى العبث به تارة بإطراء جماله، وتارة بإبداء إشفاقهم على الحسان من وقعه وفعله. فما خطر له على بال أنهم يهزأون به؛ وازداد عجباً وما عتم أن غدا عجبه داء لا شفاء منه. ولذلك كان احب الأشياء إلى نفسه أن يقف أمام المرآة يطالع صورته المحبوبة وقوامه الرشيق ويطيل النظر إلى عينيه الدعجا وبين ثغره المليح المفتر عن ابتسامة وضاءة، المكلل بشارب (كلارك جابل). كما كان أشق الأمور على نفسه أن يسعى إلى اقتناء بذلة يلف بها حسنه وشبابه. فما كان يطمئن ذوقه حتى يطوف بمحلات القاهرة التجارية جميعاً فاحصاً مفاضلاً بين الأصناف والألوان، ومتى وفق إلى اختيار لون منها واجه متاعب التفصيل، وتجاذبت عقله المودات الحديثة، أنهكت قواه البروفات المتتابعة؛ ثم يمضي في تخيُّر القميص الموافق للبذلة، ورباط الرقبة الملائم للقميص، والمنديل الموائم لرباط الرقبة، ولا ينسى - إتماماً للتناسق العام - الحذاء والجورب المناسبين. كان متأنقاً شديد الحساسية إلى حد الإرهاق. فكان الكواء يوجه إلى ثيابه عناية لا يوجهها لثياب أحد من زبائنه الآخرين. ويحلف الحلاق أنه يلقي في ترجيل شعره وتطرية شاربه من الجهد مالا يلقاه طبيب يتصدى لحاله وضع خطير

لهذا لم يكن عجباً أن يستهين بتضحية زوجة في سبيله، وأن ينكر على القائل قوله: إن إخلاصها له نعمة يحسد عليها. بل كان في أعماقه يعتقد أنه صاحب الفضل وأنها صاحبة الحظ التي يحسدها عليه بنات حواء جميعاً. كيف لا وقد وقف عليها جماله الذي تقتتل عليه أجمل الحسان؟!. . . وقصة حبه الجديد آية على غروره قبل كل شيء. فلم تكن إلا أنه رأى فتاة تعبر شارع السلحدار ذات أصيل فراقه منظرها، لأنها كانت ذات قد رشيق ووجه خمري مستدير رقيق القسمات. يولد تناسقها في النفس اشتياقاً ويؤرث في الصدر حرارة. فتبدي على وجهه الرضا، وهز رأسه طرباً كأنه يتابع لحناً شجياً. وكان إلى جانبه ساعتئذ شاب من معارفه لم يفته ما بدا عليه. فأدنى رأسه من أذنه وقال بلهجة ذات معنى:

- حذار فالنظرة إلى هذه تعقبها حسرة

فأنكر صابر قوله وسأله ببساطة وعيناه تتعقبان الفتاة المجدة في السير:

- ولمه؟

فقال الشاب بخبث:

- لأنها فتاة جد، لا تلوى في سبيلها على شيء ولا تعير المغازلات أدنى التفات. وما تزال تتردد كل صباح وكل مساء ما بين بيتها في شارع البستان وروضة الأطفال بشارع السلحدار مقتحمة أنظار المتطفلين كأنما تحتفظ بقلبها في صندوق مغلق ضائع المفتاح

فساءه هذا الوصف وأحس بمرارة لما آنس فيه من تحد وقال متفلسفاً على قدر عقله:

- قلب أي امرأة في صندوق ضائع المفتاح كما تقول، والعبرة بالرجل الأريب الذي يقدر على الظفر بهذا المفتاح. وهز منكبيه باستهانة وابتسم ابتسامة ساخرة مشبعة بالثقة والطمأنينة، وودع الفتاة التي شارفت نهاية الطريق بنظرة وعيد. ولم يكن يداخله أي شك في قدرته وفنه، ولا تزعزعت ثقته بنفسه قط، ومع ذلك لم يرتح قلبه، ووجد في كلام صاحبه تحدياً صريحاً لا يجوز السكوت عليه؛ وجعل يتساءل في غيظ وحنق: ترى هل يمكن حقاً أن تقتحمه هذه المعلمة إذا تصدى لها. . .؟

هل يستعصي عليه العثور على المفتاح الضائع؟ وتكدر صفوة تلك الليلة. وفي أصيل اليوم الثاني قصد إلى شارع السلحدار، ومن الإنصاف أن نقول إنه لم يدفع بنية يتحرج لها ضمير زوج مخلص مثله، وإنما ساقه انفعال غضب وعاطفة لا نتنكب الحق إذا قلنا إنها علمية إلى درجة ما، لأنها كانت تتشوف إلى التحقيق والتجريب. قصد إذاً إلى شارع السلحدار وانتظر. ثم رآها تبرز من باب المدرسة بقدها الممشوق. فوثب وتحفز حتى إذا صارت منه على مرمى نظرة سدد إليها عينين فاتنتين، ولكنها سارت لا تلوى على شيء كما قال صاحبه، وضاعت النظرة في الفضاء منضمة إلى أسرتها من الأنوار الكونية. فأحس بخيبة وأحنقه جفاؤها السكسوني، فصرَّ على أسنانه وسار في أعقابها. ومضى يشاهد خصرها الدقيق وردفها المستوي ويقول لنفسه متعزياً (لو اصابتها النظرة لذاب جفاؤها كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس). وأرد أن يلفتها إليه، وتنحنح وسعل سعلة مؤدبة، ولكنها لم تبد أدنى اهتمام، فأوسع الخطى حتى حاذاها، وكاد أن يلمس كتفها، فأوسعت الخطى بدورها لتسبقه فاستبقا. وأدركت بلا ريب أن شخصاً يطاردها فالتفتت نحوه بغضب، وكان يتربص للفرصة السعيدة فصوب إليها نظرته المشهورة، فردت عليها بنظرة عنيفة كأنها تقول له: (مكانك يا هذا). وتنحت عن سبيلها منعطفة إلى اليسار ثم انتهت المطاردة بانتهائها إلى العمارة رقم 10 بشارع البستان وتردد أمام العمارة مرتين، ولم يجد بداً من العودة فقفل راجعاً. وكان مهموماً مغتماً كمن يقفل من معركة دامية لا مطاردة غرامية. وما كان يشعر بأي إحساس من أحاسيس الحب أو الفتنة، ولكن كانت تضطرم في قلبه عواطف الكفاح والقتال وبات ليلته وقد صدقت عزيمته على الجهاد إلى النهاية

وتوجه في أصيل غده إلى المكان نفسه - وانتظر حتى رآها تسير نحوه في مشيتها التي تجمع بين الرشاقة والشدة فتبعها على الأثر، وأدرك لأول وهلة أنها لا تجهل تعقبه لها وأنها برمة ضيقة به، ولكنه سار في طريقه غير حافل بتذمرها، لأنه كان عنيداً مثابراً ملحاحاً؛ فكان جزاؤه نظرة أشد من نظرة الأمس. وفي اليوم الذي بعده خرجت عن صمتها بأن قالت له بلهجة خشنة صارمة: (من فضلك بلاش قلة أدب). وفي اليوم الرابع قالت له بنفس اللهجة (شيء بارد). وقالت له في اليوم الخامس وهي تحدجه بنظرة وعيد (إذا لم ترتدع عن هذا السلوك الشائن ناديت الشرطي)، ولما كانا في اليوم السادس لاذت بالصمت يأساً وتجاهلته، ولكنها لم تناد الشرطي، فتنهد ارتياحاً وعد سكوتها فوزاً مبيناً. وأخذته نشوة طرب فسأل لسانه بكلام - وإن يكن مبتذلاً غاية الابتذال، ويحفظه جميع من هم على شاكلته عن ظهر قلب - إلا أنه كان يحسبه من الرقى الغرامية كنظرة عينيه سواء بسواء. قال لها: (يا معجباً بنفسه يا شديد الجفاء بغير سبب. يا تياها بجماله، هل ذنبي أنا أنك جميل ولا نظير لك في الكائنات. وهل جرمي أن لي قلباً يشعر ويهيم بالجمال. أيصح أن تنذريني بالأمس بالشرطي. وهل ينادي الشرطي للعاشقين. . . الشرفاء. . . أمثالي، ومع ذلك نادي الشرطي، بل نادي الموت نفسه فلن أبرح حتى أسمع من الفم الصغير هذا - الذي يحاول خنق ابتسامة بريئة بغير ذنب - ما يدنيني إلى أملي. . .)

ولم يعد يقنع بالمطاردة القصيرة التي تبدأ في شارع السلحدار وتنتهي في شارع البستان، ووجد في موقع صالون الكمال من العمارة رقم 10 ما يشفى شوقه وطمعه. فانضم إلى زبائنه وتودد إلى صاحبه وجعل منه ناديه المفضل على كل مكان

وكان يندفع بادئ الأمر - كما قلنا - بقوة غضب ورغبة في الغلبة. وكان يعتزم أن يقف ويتراجع حين تلين وتراخى. وكان يعود من كل مطاردة - في أول عهده بها - ولا فكر له إلا عنادها وصلفها وغضبه وخنقه. ثم أخذت صور أخرى منها تتسلل بمهارة فائقة إلى مخيلته مثل قدها الرشيق وعنقها الطويل وقسماتها الصغير المتناسبة. ومضت هذه الصور تزحف على وجدانه من سراديب حواسه وتندس إلى زوايا قلبه وهو لاه عنها بحنقه وكفاحه. فغدا يتعرض لها مسوقاً بأشواق وحنين. وملبياً نداء يصعد من أغوار نفسه حتى أقر أخيراً في إشفاق وقلق وذعر أنه يحبها. وأن الداء يبرح به مرة أخرى. وصادف به مرة أخرى. وصادف اكتشافه لحقيقة عواطفه تراخي الفتاة واستلامها فلم يقف ولم يتراجع كما كان اعتزم. بل شد على يديها في حماس دافق واندفعا معاً في سبيل الحب، وفتحت له نفسها وبسطت أمام ناظريته صفحة حياتها البسيطة فعلم فوق ما كان يعلم عنها أنها تعيش مع أمها وخالتها، وأنهما في غير حاجة مادية إليها وقد أكدت له ذلك تأكيداً لم يخف عليه مغزاه. أما هو فأخفى عنها جل نفسه فلم يدر لها بخلد أنه زوج وأنه إلى درجة ما عريس. وكان هذا ما يكدر صفوه وينتزعه من سكرة أحلامه، فمثل الصلة التي بينهما لا يمكن أن تدوم قانعة باللقاء صباح الجمعة بحديقة الوطن بهليوبوليس، ومساء الأحد بسينما ركس. وفضلاً عن ذلك لا يمكنه أن يتغاضى طويلاً عن تلميحها المستمر إلى موضوع الزواج. فلم ير بداً - حرصاً منه على الاحتفاظ بها - من مجاراتها في أحاديثها فما لبث أن جرى ذكر الزواج على لسانيهما وناقشاه على اعتبار أنه النهاية التي تهفو إليها نفساهما

وخطت درية خطوة أخرى فدعته إلى زيارة بيتها لتقدمه إلى أمها وخالتها. وهنالك أسقط في يده لأنه ما كان يستطيع أن يلبي الدعوة ولا كان يدري كيف يرفضها، والاعتذار لا يغني عن حالته طويلاً. فما عسى أن يفعل؟ أيلوذ بالفرار ويختفي من أفقها إلى الأبد؟ قد يبدو هذا الحل ما فيه من نذالة أوفق الحلول، ولكنه لم يستطيع على شدة حرجه أن يأخذ به، لأنه كان انفعالي المزاج لا يزع نفسه عن هوى. وكان في الحق قد غدا مستهاماً بها كلفاً. فألف صورتها وحديثها وإيماءاتها ألفه مازجت روحه وسعادته. فهل يعترف لها بالحقيقة ويسألها المغفرة. . . ولا هذا استطاع لأنه أشفق من أن يأخذهاالارتياع فتنفر من خداعه. أو تيأس منه فينصرف قلبها عنه. واشتدت به الحيرة وساورته الهموم وتشتت عقله بين شعاب مظلمة. وما فتئ يماطل ويسوف. وما يدري كيف يوفق بين هواه الجامع وظروفه القاسية. . . حتى تبرعت المصادفات بالحل الموفق

وكان اليوم الجمعة وقد عاد إلى بيته - وكان يساكن حماه - في الساعة الرابعة مساء. وكان يترنم بأغنية بصوت خافت متناسياً أشجان قلبه إلى حين، وفتح باب شقته في هدوء وهم بالدخول، فوجد نفسه وجهاً لوجه مع الآنسة درية. وخفق قلبه خفقه شديد انخلعت لها ضلوعه، وصاح وهو لا يدري: (أنتِ) ولم تكن أقل منه دهشة، فرددت قوله: (أنتَ) وعند ذاك فقط أدرك أن زوجه تقف إلى جانبها، وإلى يمينها أخوها الصغير (توتو) ممسكاً في يده بكراسة. . . ومرت به لحظة رهيبة أحس بأن الأرض تميد به، ولفه ذهول قهار، فلم يستطيع أن يكتم عواطفه ولا أن يداري افتضاحه، وكانت الزوجة تراقبها بعينين مرتابتين وقد امتقع وجهها وارتعدت شفتاها، ثم ارتسمت على فمها ابتسامة صفراء وسألت المعلمة قائلة بصوت متهدج:

- هل تعرفين زوجي؟

ولم تدر الفتاة بماذا تجيب، وقد دوت في أذنيها كلمة (زوجي) دوياً مزعجاً، فرددت عينيها بين صابر وزوجه ثانية، ثم خفضت عينيها الزائفتين واستولى عليها اليأس والغضب وانفلتت إلى الباب لا تلوى على شيء، ولم تنبس بكلمة ولم تترك وراءها مكاناً لشك أو ارتياب

وكانت الزوجة تشعر بالفتور الذي اعتور علاقتهما وتتحير في تعرف أسبابه، فعلمت أن لها غريمة وأن غريمتها هي معلمة (توتو) الجديدة، فغضبت غضبة نفست عن صدرها الكظيم. ونمت الفضيحة إلى أمها، فاستفحل الخطب، ولم تنته الليلة حتى حمل صابر حقيبته وعاد إلى بيته وحيداً كئيباً. . . ولكن الله سلم؛ ولم يبخل عليه بالغفران القلب الذي صدقه الحب عشرة أعوام فقفل إلى بيت الزوجية تائباً. وتراه الآن إذا ظهر في الطريق يسير متأنقاً مزهواً كعادته، فإذا وقع بصره على وجه نضير أو قد رشيق ابتسم ابتسامة الزهد والكبرياء. فإذا خطر لأحد من صحبه أن يداعبه أو يتحداه ابتدره قائلاً: (حسبي. . .

حسبي. . . لا أريد أن أجرح قلوباً بريئة)

نجيب محفوظ