مجلة الرسالة/العدد 363/رسالة الشعر

مجلة الرسالة/العدد 363/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1940



رجال ونساء

للأستاذ على محمود طه

(ننشر فيما يلي جزءاً ثانياً من ملحمة الشاعر (على محمود طه) وهو يلي الجزء الذي نشرناه منها في عدد سابق من (الرسالة) ويدور الحوار في هذا الفصل الممتع على الفنان الأول، وأثر المرأة في فنه واتجاهاته، وفيه أيضاً حديث مؤثر عن الفنان الأعمى، والأسماء التي يجري الشاعر الحوار على ألسنتها تقع في عالمي الحقيقة والخيال. فهرميس إله الوحي والشعر في الميثولوجيا، وبليتيس الشاعرة الخرافية التي بعثها الكاتب الفرنسي (بيير لويس) على غرار الشاعرة اليونانية اسبازيا. أما تاييس وسافو فأمرهما معروف في القصص والتاريخ)

(الملك وقد عاد في طريقه إلى حيث الحوريات بعد أن ودع روح الفنان على أفق الأرض)

الملك:

سلامَ الملائكِ روحَ الجمالِ

الأرواح:

سلامٌ لهرميس روح الآلهْ

الملك:

أرى وَمْضَةَ الشرَّ في جوَّكنَّ ... وأسمعُ صوتاً كأنَّي أراْه

يلاحقني في رحابِ السماءِ ... ويرتجُّ في مِسمعَّي صداه

(لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ ... وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاه!)

الأرواح:

أجلْ أيها الملَكُ المجتَبي ... صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ

لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا ... فَتى في رعاية ربٍّ خطيرْ

رآنا فأعرَض عنَّا ولمْ ... يُحَيَّ السماَء بروحِ قريرْ تعاظم محتقراً أمرنا ... وأمعن في شَرَّهِ المستطيرْ!

هرميس:

ظلمتنَّ هذا الغلام البريء ... وقد غَضَّ من ناظريهِ الحذَرْ

أَهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القطا ... يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ

رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ ... فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ!

الأرواح:

وكيف تكلَّم قلبُ الفتى ... وما هو إلاْ سليلُ البشرْ؟

هرميس:

هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّه ... من النقصِ تركيبُه والتمامْ

صَنَاعُ الطبيعةِ بلْ صُنْعُها ... فمنها دمامتُهُ والوسامْ

يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلى قمةٍ لا ترُامْ

ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ ... مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ

نقيضان شتى فما يستقرُّ ... على غَضَبٍ منها أو رضاءْ

تحدَّى الحياةَ وآلامهَا ... ببأسِ الجبابرةِ الأعلياء

يزيدُ عُتُوًّا على نارها ... ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء

وينشقُّ عن نَضْرةٍ قلبُه ... وإنْ طَمَرَتْهُ ثلوجُ الشتاء

هو القلبُ محتشداً بالمنى ... هو العقلُ متقداً بالذكاء

حَبَتْهُ الألُوهَةُ روحاً يَرىَ ... وينِطقُ عنها بوحي السماء

يَحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرىَ ... ويلمسُ ما في ضمِيرِ الخفاء

ويبتدرُ النجمَ في أفقهِ ... فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء

أرَتْهُ السماء أعاجيبها ... وَرَوَّتْهُ من كلَّ فَنٍّ بديعْ

فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ ... وخافَ على كنزه أن يضيع

أبَى أَن يُبدّدَهُ ناظراه ... فأطبقَ جفنيهَِ ما يستطيع

فإن شارف الأرضَ نادتْ بِه ... فَفَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيع الفنان الأول

هنالكَ حيث تَشبُّ الحياةُ ... وحيث الوجودُ جنينُ العَدَم

وحيثُ الطبيعةُ جبارةً ... تشقُّ الوهادَ وتبنيِ القِممْ

وحيثُ السعادةُ بنتُ الخيالِ ... ولذَّتُها من معاني الألمَ

وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ ... ومَجاَّ صُبَابَتها من قِدَمْ

رَناَ، والطبيعةُ في حليها ... وحواءُ عاريةٌ كالصَّنَمْ

فمن أين سارَ وأنّى سرَى ... تَصَدَّتْهُ مُقُبِلَةً من أمم

هنا لك أول قلبٍ هفا ... وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ

وأولُ أنمُلَةٍ صوَّرَتْ ... وخطَّتْ عَلَى اللوحِ قبل القلَمْ

فمالكِ حواءُ أغْويِتهِ ... وأعقبِتِه حَسَراتِ النَّدَمْ

لقد كان راعيَكِ المجتَبي ... فأصبحَ راميكِ المتَّهمْ

ولولاكِ ما ذرفت عيُنهُ ... ولا شامَ بارقةً فابتَسمْ

وعاشَ كما كانَ آباؤه ... يُغَنَّي النجوم ويرعى الغنمْ!

الفنان الأعمى

لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ ... ويُصْرَعُ بالنظرةِ العابرة

لَوَدَّ إلى الأرْضِ لم يُصِخْ ... أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرة

وكم من فتًى عزَّها سمُعهُ ... وغصًّ عَلَى رَهَبٍ ناظره

عصاها، فنادتَّ، فلم يَسْتَمِعْ ... فحلَّتْ به لعنةُ الفاجرة!

له محجرانِ على ما وَعَى ... من الألَق الطُّهْر مختومتانْ

ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان ... مُصَوَّرَةً وحدودُ المكان

وفي قلبهِ أعين ثَرَّةٌ ... بها النارُ طاغيةُ العنفوان

وفي كلَّ خاطرةٍ نيزكٌ ... يشقٌ سناهُ حجابَ الزمان

إذا ما هَوَتْ وَرَقَاتُ الخريفِ ... أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ

وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً ... فمن قلبهِ انحدرتْ دمعتان ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع ... وقد يُخْطيٌ الطيرُ شدوَ الأوان

كقيثارةِ الريح ما لحنُها ... سوى الريحِ في جفوةٍ أو حنانْ

عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى ... ودنيا بأهوائها تضطربْ

من اللانهاية ألوانُها ... مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ

ففيها الصباحُ، وفيها المساءُ ... وبينهما الشفق الملتهبْ

تطوف بها صَدَحَاتُ الطروب ... وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ!

على محمود طه