مجلة الرسالة/العدد 363/فن يستيقظ
مجلة الرسالة/العدد 363/فن يستيقظ
للأديب نوري الراوي
فهم العربي جمال الكون بكل حواسه فأطلقه شعراً يفيض باختلاج حسه القصيَّ، ثم أنفذه نغماً في صميم الليالي الأندلسية البيضاء. . . وعاد فمات في عتمة الغسق التركي، فكانت بقيته اليوم بين حشرجة الماضي ويقظة الحاضر نسيساً في نفس مجروح، ونسمة من نسماته الندية تنطلق اليوم بعد فترة جمام كادت تطمس على خصائصه الأصيلة فتحيلها إلى العدم أو النسيان، ولكن الله الذي حفظ الروح العربية الإسلامية دهوراً طوالاً أراد أن يوقظها في صفوة أبنائها اليوم فكان ما أراد لله
وشهدت العصور الحديثة أكمل القوى في ثورة تشمل الروح والجسد، يدعمها الإيمان ويشدها الحق وتظللها الحرية، فأدركت أن وراء هذه الأنفاس المفهورة نفساً يريد أن يكون لهيباً من جهنم، وشواظاً من بركان
ولكن الزمن الذي اتسع لأمجاد الفن العربي في مختلف عصوره، زحفته المدوية، فطوى بين أثنائه أياماً كانت شجىً في الحلق، ليلبس ثوب هذا اليوم الحديث في صورة من التأريخ. إن وراء المجد الذي كان بالأمس، قوة من المعنى أدارت رحاه، ونواة من الفن حفظت نوعه، فمضى يخط تاريخه في جلال الظافر وكبريائه، حتى دهمته الذئاب الدخيلة! فعبثت بروحانيته كما تعبث الريح بالرمال وأجهزت على فنيته فحطمتها
وبين عصرين من عصور التاريخ، تقلبت فيها الأحداث، وتخبطت فيها الحظوظ، وتعاقبت على صفحاتها الأيام، مني الفن العتيد بخطوب جسام كادت تشرف به على الهلاك. . . ولكنها الروح التي لزمته في صحاري الحجاز ودللته في بلاد المجد المفقود وهدهدت أعطافه على ضفاف بردي والفراتين عادت فاندفقت بين أضلع سادها الهدوء أزماناً. . .
لقد كان الفن العربي يوصل الأمة بمعنى من الجلال يسمو بها عن المدارك الدنيا إلى أجواء أمتع وأمنع حتى إذا ما رفعت أبصارها عن الأرض. . . حتى إذا ما انعتقت من أسر المادة، فهمت الفضيلة؛ فسادت بالرحمة وحاربت بالأيمان. . . وكان هذا سر الخلود
حيثما تكن الأمة من المكانة يكن حبها للفن، لأن النفعيات مطلب من مطالب الحياة الوضيعة التي تعيش لنموت، لا الحياة التي تعيش لتدوم. . . لتخلد. . . لتقول للتأريخ هاأنذا فاكتب. . .
ولكنه الفكر العربي الجبار يبرهن على وجدوه، يبرهن على قوته، يوم يعرف أن للحياة منازع غير ما علمته إياه البهيميةالأولى في الغابات والكهوف!. . . ليكون أستاذاً في تلقين المثل العليا لكل من يلوك اللفظ فلا يقع لسانه إلا على الأكل. . . والنوم. . . واللباس. . .
هنا يقف الفكر الحديث عند حد تنتهي به سياحته، الفكر الحديث الذي يعبد الآلة ويمجد المادة ويستعذب الوقوف أمام الصنم الجبار؛ ليجد أن العربي سبقه في الحياة وسبقه في الفكر وسبقه في التأسيس
برهان واحد من براهين أشتات نقف منه على حياة أجيال ماتت. . . لنكون نحن بقيتها على الأرض نوطن النفس على حمل هذا العبء الذي حمله الجدود أزماناً
في هذا المدى الوسيع الذي يشمل الصين في أقصى الشرق ويقف عند أزباد بحر الظلمات! بذر العربي بذور فنه الأولى، فكان الجامع الأموي في الشام يطاول بمآذنه السماء، وكان المسجد الأقصى يهزأ بالدهر للغلاب، وكانت معجزات الأندلس وعظائم بغداد شاهد على ذلك الخلود. هو الغرس العربي، يثمر رجالاً يمجدون الله، ينتج مآذن تجلجل فوق سامقات رؤوسها كلمة: (الله أكبر). . .
ينتج فناً روحياً لم تسبقه إليه جهالات الأوربيين. . .
هناك في الصحراء. . . الصحراء التي يضيع البصر في مهامه مداها الوسيع، ويسبح الفكر على منكب لجتها السمراء، فما يزال يطفو ويرسب حتى يبلغ محجة تنقطع عندها أسبابه: تمخض الزمن الولود عن دين العلم والفن، فكانت أول بسمة من بسماته الندية ترف على روابي الحجاز وترتعش فوق بطاح الجزيرة، ثم لا تقف عند هذا حتى تفيض على العالم القديم بأسره فتشمله. هنا يبدأ بنا السبيل في سياحة مضنية طويلة، تريد جهداً وأدباً واصطباراً. . .
لقد جاء الإسلام، وفي النفس الجاهلية اعوجاج وعنجهية، فأقام الأول وأغرق الثانية حتى هيأها لأن تتقبل المعاني الجديدة وتستوعبها. فيقودها إلى غاية أبعد منها وأسمى ألا وهي: الفتوح ونشر الرسالة. ولقد كان الفتح أول الأسباب غير المباشرة إلى نضوج الذوق العربي لاختلاط البادية بالمدنية والشمس بالظل وتكوين لون جديد له سمة العيشتين وطابع الحياتين، وكذلك أجزل الفتح المال والمال وسيلة الفن إلى الكمال، حيث أثمر هذا الاختلاط فكانت ثمرته تلك الحضارة الراسخة التي قال عنها بعض الإفرنج: إنها وليدة الحضارتين اليونانية والرومانية وما هي إلا عربية أصيلة الدم؛ لها لفحة الشمس وثورة الرمال التي لا تهدأ ولا تثوب. . .
هنا يدخل الدين بروحانيته في عداد هذه الأسباب التي أسبغت على الفن لوناً من ألوان الجمال الراكد والتأثير العميق. . . الدين الذي ارتقى بمعنويته إلى الله فعرفه، وغار في الأعماق فوقع على أسرار الكون وحقيقة الوجود، ثم تلمس الخلود عن المادة فطاوعته فإذا هي ريازة تبهر العقول، وإذا هي قباب تغرق في اللازورد، وإذا هي جوامع تبقى على الدهر باسم الله. . .
أما النفسية الطليقة. . . النفسية التي تجاذبتها عوامل البيئة الصحراوية المدنية، فرسمت على أديمها صفاء السماء وكدرتها، وخطت على صفحتها هدوء الطبيعة وثورتها، فقد تغنت بلسان حسان، وابن أبي ربيعه، والمتنبي، والمعري، وأبي تمام. فرجعت صدى هذه الأغنيات السنون. . .
ما كان للعربي الأول أن يبرع في فن التصوير ليعبر به عن خوالجه وآماله ومثله، ولكنه تكلم فصدق، وقال فكانت أقواله لوحات ترسم ألوان مشاعره منطلقة، حرة، عارية؛ وهذه وسيلة واحدة يتوسل بها ربيب الصحراء للتعبير عن خوالجه ونزعاته. . . لينقل كل ما يجيش به وجدانه من العواطف إلى أسماع تستلذ هذا الوقع الجميل وتستعذب هذه النغمة المطردة يلونها الزمن من حين إلى حين
على أن هذا الفن العريق الذي تتصل جذوره بأعماق الخيال البدوي كان اسبق وجوداً من بقية الفنون الأخرى
وعلى هذا السبيل الممهد تساوقت الفنون إلى البعث بعد أن كانت تثوي في ركن من أركان العقل البدوي ساكنة سكون البركان الذي يحمل معاني الثورة والاندفاع
لقد كان للطبيعية العربية القابلية الكبيرة على الأحداث والتوليد، وما الشعر إلا صورة من تلك الصور الممتعة التي عرفها العرب باسم (الآداب الرفيعة)، وذلك حينما تركز المجتمع في ظل المدينة وامتزج بعضه ببعضه ليكون هذا الفن الذي نشاهده في قصور الحمراء وبرج الذهب وجنة الريف. . . ليكون هذه الموسيقى الساحرة ترجعها نغمات (بلنسيا)، على أسماع الملايين من أبناء الغرب، وفيها تتجلى الروح العربية الصافية بتأثيرها وعذوبتها وجمالها. .
ومشى الزمن يوسع الخطى؛ فإذا بعبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس يقف على ربوة عالية، يستشرف ملكه المضاع من خلل الهدب الرفاف بالدمع. . . وإذا ذلك الخلود بجنانه وقصوره، وأبهاته ومدارسه، ومحاريبه وجوامعه، يستحيل شيئاً فشيئاً إلى حلم ينطوي كلمح السراب. . . ويهينم الشراع في الفضاء:
ألا انقضى آخر أمل للعرب في الفردوس. . . ثم تبقى تلك الجلائل شاخصة إلى السماء كأنما هي تستغيث بالله. . . حتى يدركها ألأين فتهوى صريعة الزمن العسوف ركاماً يسابق ركاماً. . . ولكن قنابل فرانكو تريد ولا يهمها أن تكون صفحة سوداء في وجه التاريخ.
إن الاتجاه القومي في العراق بادرة من بوادر اليقظة في الأمة العربية فيجب أن يكون له نصيب من الروح كما يجب أن يكون له نصيب من المادة
وهانحن اليوم على وشك الدخول في حياة جديدة مغايرة لتلك الحياة التي تصرمت بين جهل الرعية وظلم السلطان واستبداد الدخيل. وآن للفن أن يستيقظ وينشط فيأخذ مكانه كسبب خطير من أسباب الحضارة الكاملة، وعامل من عوامل النهضة القويمة. . .
ولكن في الشباب من ينكر هذا ولا يرضاه، وفي الشباب من يستخف به ويجتويه. وفي الشباب مراجل تجيش فيها المتناقضات، فلا تعرف فيهم الغاية اليوم إلا وتجدها غيرها التي كانت بالأمس
ولكننا رغم وجود هذه النفوس المتماوتة، سنتم بناء أنشأته الجهود وبنته العزائم وأقامته التضحيات. . .
إن كان الكلام وسيلة من وسائل الجهاد الأعزل فلا نريده إلا مقروناً بالعمل والدأب، وإن وجد فينا من يئست روحه وتصاغرت معنويته عن إدراك هذه المعاني الجديدة فلا نرضاه باسم العروبة. ولذا حق لنا أن نوجه الخطاب إلى الشباب فنقول:
أيها الشباب العامل: ما جمال الجسم إن لم يعزز بفضائل الروح؟ وما نفع هذه الرؤوس المملوءة بالخيالات إن لم تكن قادرة على ولادة الأعاجيب! أيها الشباب العامل: روضوا نفوسكم على فهم الفن تدركوا جمال الحياة
(بغداد - الرستمية)
نوري الراوي