مجلة الرسالة/العدد 363/في سبيل الأزهر أيضا

مجلة الرسالة/العدد 363/في سبيل الأزهر أيضا

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1940


ً

فتوى. . . وفتوى. . .

للأستاذ محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

لست أدري: أيغفر لي قراء (الرسالة) الغراء أن أعود بهم مرة ثانية إلى (فائدة الأربعاء) بعد أن كتبت فيها مقالي الأول؟

(وفائدة الأربعاء) في نفسها لا تستحق شيئاً من العناية، ولا تستحق أن نشغل بها قراء (الرسالة) في الحين بعد الحين، وإنما أعود إليها لأنها تمثل ناحية من نواحي التفكير في الأزهر، نبغي أن يتناولها الإصلاح، وأن تحمي منها العقول والأفكار! وقد جد في شأن هذه الفائدة جديد، ومن حق قراء (الرسالة) أن يطلعوا على هذا الجديد، ليتابعوا دعوة الإصلاح في كل خطوة من خطواتها، ويدركوا كل طور من أطوارها!

كان حديثنا الماضي عن (فائدة الأربعاء) تسجيلاً لفتوى غريبة أصدرها عالم جليل من جماعة كبار العلماء. وقرر فيها:

(أن فائدة الأربعاء جائزة لا شك فيها، بل هي مرجوة البركة، وليس فيها إلا عدة أمور بعضها جائز وبعضا مندوب إليه، وأن من يكذب بشيء منها، فهو منكر أو جاهل بما ورد في الدين من المتواترات. . . الخ)

ولم نشأ يومئذ أن نعلق على هذه الفتوى التي كنا أول من لفت الأنظار إليها ودل على مواطن الخطأ فيها، ولكننا اقتصرنا على أن نسجل منها (بعض الظواهر)، ونستجلي (بعض الغوامض)، ثم طلبنا من فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية أن يدل إلى الناس برأيه فيها، وقد علمنا أن فضيلة الأستاذ الكبير قد اهتم بالأمر، وأن فتواه فيه على وشك الصدور إن لم تكن قد صدرت بالفعل قبل أن يصدر هذا العدد من الرسالة

ولكن فتوى أخرى في الموضوع قد صدرت فعلاً، من جهة لها قيمتها العلمية ومكانتها الرسمية، تلك الجهة هي (لجنة الفتوى بالأزهر)؛ التي تتألف من علماء كبار يمثلون المذاهب الأربعة، بينهم اثنان من جماعة كبار العلماء: هما فضيلة الأستاذ الكبير، وكيل الجامع الأزهر، وفضيلة الأستاذ المحقق شيخ السادة المالكية، وبينهم أيضاً مفتشان رسميان يقومان بمهمة التوجيه العلمي والإشراف الفني، في جميع المعاهد الدينية التابعة للأزهر، وقد أصدرت اللجنة فتواها (بالإجماع) الصحيح، الذي هو نتيجة اجتماع في مكان واحد، وتشاور ونقاش ومراجعة وإقناع واقتناع شأن المؤتمرات العلمية التي يطمأن إلى إجماعها، ويؤخذ به!

ونحن نضع هذه الفتوى بين يدي القراء، قبل أن نعقب بما نريد. قالت اللجنة - بعد أن ساقت نص الاستفتاء، وهو لا يخرج عما أثبتناه في مقالنا الأول - ما يأتي:

(هذه الفائدة - وإن احتوت على صلاة، وقراءة قرآن، ودعاء - قد حدد لها ولأجزائها التي تركبت منها زمان ومكان، والتزمت فيها كيفية معينة: يتجه صاحب الحاجة إلى ضريح معين، ويقرأ فيه سورة يس بالنية التي يريدها، ثم يمشي في طريق ضريح آخر، حتى يصل إلى مكان مخصوص بين الضريحين، فيصلي فيه ركعتين وهو حاسر الرأس، ثم يمسك عمامته بإحدى يديه، وحذاءه تحت إبطه، ويتمم شوطه إلى الضريح المقصود، وهو على هذه الحالة، ثم يدعو هناك بدعاء خاص، يتوسل فيه بالأنبياء، وبسيدنا آدم وحواء وصاحب الضريح الثاني، وقد اقترنت هذه العملية في نفوس الناس باعتقاد أنها إذا أديت على هذا الوجه كانت مرجوة النفع، وإذا لم تؤد على هذا الوجه لم يكن لها الأثر المطلوب

وهذه العملية بما قارنها من هذه العقيدة، وبما فيها من الترتيب والالتزامات المذكورة، لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح، وذلك فضلاً عما يصحبها من مظهر لا يتفق وجلال الدين، وروعة العبادة، فهي بدعة منكرة. وإن الابتداع في الدين كما يكون بأحداث عبادة لا أصل لها، يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، فما جعل الشارع له كيفية خاصة، أو حدد له زماناً أو مكاناً كصلاة الجمعة والاستسقاء والحج وجب اتباعه فيما حدده، وما لم يحدد له شيئاً من ذلك، كالنوافل المطلقة كان التحديد فيها ابتداعاً وإحداثاً في الدين، لا يصح عمله ولا ينبغي اعتقاده. أما قراءة القرآن، وصلاة النافلة والتضرع إلى الله في المهمات والكرب من غير التزام شيء مما ذكر، ومع مراعاة الآداب الشرعية، فهي أمور ندب إليها الشرع الشريف، وصحت فيها الأحاديث واللجنة تنصح للمسلمين أن يلتزموا في عقائدهم، وعباداتهم، وتضرعاتهم إلى الله حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، فإن ذلك أسلم لدينهم، وأبعد من مقت الله وغضبه (تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) والله أعلم

هذه هي الفتوى الرسمية التي أصدرتها اللجنة الأزهرية وانعقد عليها إجماعها الصحيح، وهي تناقض الفتوى الأولى التي أصدرها أحد أعضاء جماعة كبار العلماء مناقضة صريحة من وجوه:

1 - الشيخ يقرر أن (فائدة الأربعاء) جائزة لا شك فيها بل هي مرجوة البركة، واللجنة تقرر أنها بدعة منكرة، لم يرد بهاكتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح

2 - الشيخ يستدل على ما يقرر بأن هذه الفائدة مركبة من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه، وما كان كذلك فهو جائز شرعاً، واللجنة تخالفه لهذا السبب نفسه، وتقرر أن الابتداع في الدين كما يكون بإحداث عبادة لا أصل لها يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، وأن هذا التحديد ابتداع وإحداث في الدين، لا يصح عمله، ولا ينبغي اعتقاده

3 - الشيخ ينصح المسلمين والعلماء خاصة بعدم معارضة هذه الفائدة وأمثالها مما ألف أن يدافع عنه، ويحض عليه، وأن يلتفتوا إلى محاربة المنكرات المجمع عليها التي تركت حتى صارت كما يقول الشيخ (سبهللاً!) واللجنة تنصح المسلمين أن يلتزموا في عقائدهم وعباداتهم حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، وإلا كانوا داخلين في قوله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)

وقد قلت من قبل ما قالته اللجنة، ونبهت إلى مواطن الخطأ في فتوى الشيخ الكبير، فبماذا استقبل الجامدون قولي؟ لقد هاجت منهم هوائج، وثارت نفوس ما عرفت الثورة في حياتها لشيء قط، واهتزت لذلك أيد، وتزلزلت أقدام: قالوا: ما لهذا العالم الحدث يعرض للكبار من شيوخه، ويتحدى علمهم؟ وقالوا: ما أخطأ الشيخ الكبير، ولكن أخطأ العالم الصغير!

وقالوا: لا تصبروا على هذا الغلام الخف فيكبر أمره، ويستدرج الناس إلى شر يصيبكم عظيم، ثم هموا بما لم ينالوا وكف الله أيديهم وقذف في قلوبهم الرعب، وكان الله بما يعملون بصيراً!

وأنا أريد الآن أن أقولها كلمة صريحة خالصة، لا أريد بها إلا وجه الله، ولا أبتغي بها مصلحة إلا مصلحة العلم والعقل والدين، ولا أصدر فيها عن روح إلا روح الإخلاص للأزهر الذي يحمل لواء الشريعة المطهرة، بين متربصين به، حاقدين عليه مترقبين أن يكل عما يحمل فيتلقفوه من دونه

يا قوم: إن جماعة كبار العلماء هي (أكاديمية العلوم والمعارف الإسلامية)، فإذا اختلف أعضاؤها هذا الاختلاف، وكانوا في الشيء الواحد على (طرفي نقيض) دل ذلك من غير شك على فساد، ودل ذلك على اضطراب، ودل على أن الموازيين والمقاييس التي يحملها بعض الناس في أيديهم، ليزنوا بها ما حرم الله وما أحل، ويقيسوا عليها الكفر والفسوق والإيمان، موازين أقل ما يقال في شأنها: إنها تنقصها الدقة، وتحتاج إلى (الضبط الصحيح)!

إن (فائدة الأربعاء) قد وزنت بميزانين، تمسك بكليهما أيد من جماعة كبار العلماء، فسجل أحد الميزانين إيجاباً مطلقاً وسجل الثاني سلباً مطلقاً، وقد سمعنا من شيوخنا المنطقيين أن السلب المطلق والإيجاب المطلق لا يجتمعان في مادة واحدة، فلا بد أن يكون أحد الميزانين مختلاً، فنحن باسم العلم والدين نطلب أن يصادر الميزان المختل، وأن يحجر على الناس استعماله، وندعو (جماعة كبار العلماء) أن تصطلح على ميزان صحيح مضبوط، من كتاب الله وسنة رسوله (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان!)

ولكن عفوا فقد نسيت! نسيت إني عالم صغير، ولا يجوز أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير!. فهل من عالم كبير يحمل عني لواء هذه الدعوة فيأخذها بقوة، ويأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها، قبل أن تأخذنا الأحداث، وتأتينا سنة الله في الغافلين؟!

(ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)

محمد المدني