مجلة الرسالة/العدد 364/فرنسا تنهار؟!

مجلة الرسالة/العدد 364/فرنسا تنهار؟!

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1940


سبحانك اللهم مالك الملك وصاحب القدرة! أفي أقل من دورة القمر تخشع باريس محراب الأدب للقوة، وتخضع فرنسا منجم الذهب للمادة؟

أفي أسرع من كسرة بولندة والنرويج وهولندة والبلجيك ينهزم أبسل جيش على الأرض، وتنهدم أرفع أمة بالتاريخ؟

أبعد القارعة الكبرى ونجاة (فوش) من (فون كلوك) بالمعجزة المفاجئة يخلد (بيتان) و (فيجان) إلى الدعة، ويسترسلان إلى النعيم، ويطمئنان إلى الأمن، ويسالمان الأحداث في أفياء (ماجينو). ويهملان الشباب في إفناء (سان سير)، فلا يهتمان بسلاح ولا يفكران في خطة؟

لقد كانت سيدان في جسم الدفاع الفرنسي عرقوب أخيل:

جثا فيها نابليون الثالث أمام بسمارك، فلم يستطع (تيير) و (غمبتا) أن ينقذا شرف فرنسا ويفديا عاصمتها إلا ببذل الألزاس واللورين وخمسة مليارات من حر الذهب. وانخرع فيها جيش (كوراب) فانثغر عندها خط الدفاع الرئيسي فوقعت الكارثة التي لا حيلة ولا نجاة منها. وليس يدري إلا الله ماذا يملي الدكتاتوران على فرنسا الضارعة من شروط الصلح في (فرانكفورت) الثانية.

فكيف غفل القواد الفرنسيون عن هذا الثغر فلم يحصنوه ويؤمنوه؟

لقد قال رئيس الحكومة الفرنسية: إن القيادة ارتكبت أخطاء لا يتصورها العقل، وأشار رئيس الوزارة الإنجليزية إلى تهم لا يرى الوقت ملائماً للإفضاء بها. ونحن نعيذ فرنسا مَثل الوطنية العالية ونموذج العسكرية الرفيعة أن تكون ميداناً لجيش الهتلرية الخامس، فما علم الناس على ضميرها الوطني من سوء؛ وإنما نعتقد أن الديمقراطية دهاها ما دهاها من بطر الغنى وغرور الأمان واعتقاد السلامة. فلو أن الحلفاء يوم صرعوا الأفعى قطعوا ذنبها ورأسها لما تفتحت الجحيم من شياطين النازية الذين زلزلوا الدنيا وبلبلوا العالم. ولكنهم دوخوها وسلخوها وتركوها في فجوة من الأرض تتحوى وتتقوى وتستعد، وانطلقوا في جنتها الفيحاء ينعمون ويقصفون حتى أذهلتهم نشوة الفوز عن كيد الموتور وحنق المقهور، فأغفلوا الحيطة وأهملوا العدة إلى أن انفجرت عليهم السموم من كل وجه. والدولتان الحليفتان قد اعترفتا بهذا الخطأ الذي جر عليهما هذه النكبة. فقد قال المستر تشرشل في خطبته الأخيرة: (لقد انهارت قوى العدو في سنة 1918 فجأة. فشاءت حماقتنا أن نلقيه جانباً ثم نستنيم إلى سكرة الفوز). وقال المرشال بيتان في ندائه الأخير: (بعد انتصارنا على الألمان في سنة 1918 تغلب فينا مرح السرور على روح التضحية، وحرص الناس أن يأخذوا أكثر مما أعطوا، واستشعروا برد الراحة فأراحوا أنفسهم من عناء الجهد)

لذلك لم يكن بالعجيب أن تعقم فرنسا أم الأبطال فلم تنجب في زهاء ربع قرن من القادة العباقر من يخلف جوفر وفوش، فاضطرها الأمر أن تلقي بمقاليدها إلى رجال المدرسة العسكرية القديمة كغاملان وبيتان ممن أوهنت السن العالية عواتقهم فلا يقوون على حمل النجاد

كذلك لم يكن بالعجيب أن يفاجئهم النازيون بالخطط المبتكرة والأسلحة الحديثة، فيقفوا حائرين ذاهلين أمام الدبابات التي تقذف اللهب وتعبر النهر، والطيارات التي تنفض كالصاعقة وترتفع كالقذيفة، فيذهب غاملان ويجيء فيجان، ويستقبل رينو ويتولى بيتان، ولكن القدر القاهر فوق الناس يأبى إلا أن يكفّر المخطئ ويخسر الغافل

ليت شعري ماذا قال الفرنسي الحزين المهان المحطم حين سمع المرشال بيتان يقول ليلة الأمس في أول ندائه: (إننا في قلة من الجنود، وقلة من الأسلحة، وقلة من الحلفاء، ولذلك انهزمنا)

لعله قال: وأين إذن يا مارشالي العزيز السعي الذي سعيته والمال الذي أديته؟ إن فرنسا وإنجلترا ومستعمراتهما يبلغون ستمائة مليون نسمة، فهل يجوز على مثل هذا العدد القلة والضعف لولا أن هناك خطأ من الإنسان أو خذلاناً من الله؟

لقد برهن الفرنسيون في معركتهم الخاسرة أنهم جديرون بمكانتهم من ثبت الشرف وتاريخ البطولة. وما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا في السلم، ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الدكتاتورية التي يعادونها لا تفكر إلا في الحرب ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب

على أن الله عوّد فرنسا العريقة أن يحفظ عليها الشرف إذا شاء أن تخسر المعركة. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب الوخز يدفع إلى الحياة بالموت، ويرفع إلى السيادة بالتضحية ويقيننا أن هذا الصلح الذليل الذي طلبه العسكريون عارض من اليأس أصابهم في حال سيئة. أما سائر الفرنسيين في القارة وفيما وراء البحر فسيختارون المنية إذا خُيِّروا بينها وبين المذلة

إن فرنسا المنكوبة ضحية جديدة لجبروت العلم الفاسد. والعلم الفاسد هو الذي قصدناه بالغضب في مقالنا الذي عقب عليه صديقنا الأستاذ العقاد. وهو الذي عناه المستر تشرشل في بيانه بقوله: (إذا انهزمنا سقط العالم كله في عصر من الظلام سيكون أطول العصور وأشأمها بفضل العلوم الفاسدة)

وفساد العلم أن يضع الإنسان فيه شهواته الدنيا شراً خالصاً لا خير فيه

ورحم الله جان جاك روسو فقد أجهد قريحته في التدليل على أن العلم يفسد الإنسان، ولو تنفس به العمر إلى عهد النازية لأيقن أن الإنسان هو الذي يفسد العلم!

احمد حسن الزيات