مجلة الرسالة/العدد 365/الفروق السيكلوجية بين الأجناس

مجلة الرسالة/العدد 365/الفروق السيكلوجية بين الأجناس

مجلة الرسالة - العدد 365
الفروق السيكلوجية بين الأجناس
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1940



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

تمهيد

قصدت بهذا التمهيد أن أقدم عجالة عامة عن مشكلة الأجناس البشرية والمفاضلة بينها، وألا أتعرض للبحوث العلمية التي أجريت منذ أواخر القرن الماضي لمعرفة الفروق بين الأجناس. وقصدت أيضاً أن أجعل موضوع اليوم ذا صبغة تاريخية اجتماعية حتى أريح القارئ قليلاً من مطالعة الحقائق العلمية الجافة، ولكنني إن أعفيته هذا الأسبوع من عرض الحقائق العلمية التجريبية فلن أعفيه منها في الأسابيع القادمة

ومشكلة الفروق الجنسية مشكلة قديمة كقدم آدم. لا بل إنها تبدأ به، وبالخلاف بينه وبين إبليس اللعين، فإنه لم يتحرج من إعلان احتقاره للجنس البشري حين أبى أن يسجد لآدم كأمر ربه. فقال الله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين) ومن هذا اليوم ظهر الخلاف بين الجنس الناري والجنس الطيني، وهو خلاف جر مصائب على إبليس ومن تبعه، وعلى آدم وذريته من بعده، ولا يزال مثل هذا الخلاف الجنسي مبعث المحن بين بني آدم أنفسهم

ثم هبط آدم إلى الأرض وتفرق أبناؤه شعوباً وقبائل، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وبعدت صلتهم بأبيهم الأول، فتنافسوا وتحاسدوا، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء، وذهب كل شعب يُدِلُّ بعَدده وعُدده، وحضارته وثقافته، ويفخر على الشعب الآخر، ويعيره قلة العدد وتأخر الحضارة. وكان ما كان مما حفظه لنا التاريخ والكتب المقدسة وما لم يحفظ

أقام بنو إسرائيل في مصر القديمة، وفلحوا الأرض، ورفعوا البنيان، وكثر عددهم، وقوى ساعدهم، وأصبحوا ذوي نفوذ وسلطان. فخشيهم فرعون ومن معه، ونظروا لهم شزراً واحتقاراً (واستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بقسوة، واستعبدوهم واستخدموهم في الطين والّلِبن، وفي كل عمل في الحقل. وكان كل عمل عملوه بتأث الضغط والعنف. . .) ولم يكن مِرْنفتاح بألين جانباً مع الإسرائيليين من سلفه رمسيس الثاني، فأذاقهم الأمرين لا لسبب إلا لأنهم غير مصريين، ومن جنس أجنبي، حتى إذا بلغ بهم البؤس مبلغه جاءهم موسى بعصاه، فأنقذهم من جناية جنسهم عليهم، ولاقى مرنفتاح حتفه شر لقاء

ثم سار التاريخ سيرته في الشرق والغرب، فظهر الإغريق بحضارتهم وفلسفتهم وآدابهم، تلك الحضارة الإغريقية التي يعزى إليها - وإلى الرومانية أيضاً - فضل النهضة العلمية الأوربية

وحسب الإغريق أنهم شعب مقدس لا يصح أن يتزاوج مع غيره، ولا أن يختلط غيره به. وسموا غيرهم من الشعوب همجياً ووحشياً. ولم يذكروا أن حروفهم الأبجدية إنما كانت عارية فينيقية، وأن مبادئهم الفلسفية نشأت في مصر. فتعصبوا ضد غيرهم من الأجناس، ودعوهم برابرة. وكانت كلمة أو ما ظهرت ظهرت في لغتهم، فأطلقوها على الرومان جيرانهم، لأنهم كانوا من جنس غير جنسهم، ولأن لغتهم اختلفت عن لغتهم، ولأنهم كانوا دونهم في الحضارة والثقافة، ولم تلبث هذه الكلمة أن دخلت اللاتينية فاستعملها الرومان بدورهم، وأطلقوها على الشعوب الأوربية التي كانت تتاخمهم كالصقلب والكلت والجرمان. وهكذا اعتبر الرومان - الذين كانوا يسمون برابرة - كل من لم يدخل ضمن نفوذ الإمبراطورية الرومانية بربرياً لأنه غير متحضر، ولأنه من جنس دون الروماني

لم تكن الحال في بلاد العرب قبل الإسلام بأحسن منها عند الأمم الأخرى، فبالرغم من أن العربي يعتز بجنسه العربي كانت المنافسة بين عرب الجنوب وعرب الشمال تصل إلى العداء والقتال، بل كانت الحروب بين العدنانيين أنفسهم لا تطفأ لها نار. وكان التعصب للقبيلة - التي هي الجنس بمعنى ضيق - من أهم أسباب هذه الحروب. وكان الفرد من البطن يفخر على ابن عمه من البطن الآخر بنبل أسرته وكرم محتده. وظل أثر ذلك إلى الإسلام. وهاهو ذا جرير يهجو نميريا بقوله:

فغض الطرف إنك من نُمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

مع أن كلاباً ونميراً كلاهما ينتمي إلى أصل واحد هو عامر ابن صعصعة الهوازني

ما كان الإسلام دين تعصب أو جنسية. فقد كان الناس فيه سواسية كأسنان المشط. ولم يكن بين المسلمين فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وقد حافظ الخلفاء الراشدون على هذه المبادئ السامية، فلم ينظروا إلى الشعوب المفتوحة نظرة الغالب القوي، ولم يحطوا من شأن الأجناس التي خضعت لهم. بل لقد كان أول الشروط التي قدمها عمر بن العاص إلى مقوقس مصر هو (إما دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وعليكم ما علينا). غير أن النعرة العصبية القديمة بُعثت في عهد الأمويين الذين اعتقدوا أن العرب هم أفضل الأجناس، وأن لغتهم أرقى اللغات. ونظروا إلى الموالي وأجناسهم نظرة احتقار وازدراء. وكانت هذه سياسة خاطئة أثارت حروباً جدلية شعواء، وكرهت الأجناس غير العربية - ولا سيما الفرس - في حكم الأمويين فأخذوا يتلمسون الفرص للثورة والخروج على الولاة، فانضموا إلى الخوارج والشيعة، وآزروا دعاة بني العباس، فكان لهم النصر

ولم تكن هذه المفاضلة الجنسية بين العرب والفرس فقط، بل كانت بين العرب أنفسهم عدنايين وقحطانيين في الشرق وفي الأندلس. وكانت اليقظة الشعوبية (في بلاد فارس) أيام حكم العباسين، هي التي سهلت وجود تلك الدويلات التي مهدت لزوال الخلافة

وقد أسرف الشعوبيون في الحط من شأن العرب، فرموهم بالتأخر، وأنه لم يكن لهم ملك يجمع سوادهم، ويضم قاصيهم، وينهى سفيههم. ولم تكن لهم قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركهم فيه العجم. ورماهم ابن خلدون بالتوحش وتخريب العامر، واستباحة أموال الناس نهباً ومغرماً

وفي أوربا استمرت الحروب الجنسية أثناء القرون الوسطى بين القوط والوندال، وبين الجرمان والغال، وبين السكسون والكلت، وبين الاسكتلنديين والإنجليز. وهذه الحروب وإن كان بعضها للغزو والغنيمة إلا أن الجنسية كانت تشعلها، لأن الجنسية أو العصبية كانت دائماً العامل المشترك بين أفراد الفريقين المتحاربين

وفي أوربا الحديثة شاعت نظرية الجنس الأبيض والأجناس الملونة واعتقد العامة - والمتعلمون أيضاً - أن الأجناس الملونة أحط من الجنس الأبيض في الذكاء والاستعداد الفطري للانتاج، والاستعداد لتلقي الحضارة. ولعل الذي ساعد على انتشار هذه النظرية الحقيقة الماثلة، وهي سيادة الجنس الأبيض الأجناس الملونة

وفي أمريكا - بلاد الديمقراطية - تجد الزنوج في ولايات الجنوب موضع احتقار مواطنيهم البيض، وهذا بالرغم من تفوقهم في الزراعة والصناعة والرياضة

ثم ما هي تلك الحمى الجنسية الطائشة التي عبثت بعقول العلماء والساسة من النازيين فألقوا الكتب ووضعوا القوانين ليثبتوا أن الجنس الآري أو الجرماني هو أفضل الأجناس البشرية، وأن الشعوب السامية - وهي مهبط الوحي ومنبع العرفان - شعوب منحطة لا حضارة لها ولا فن؟

إن هذه الدعاوى المريضة بانحطاط بعض الأجناس وتفوق البعض الآخر، وما ترتب على ذلك من كرب وحرب، ومطاردة وعداء، وما كانت لتستند إلى دليل من العلم أو برهان من التجربة، اللهم إنها السياسة هي التي أحلت ذلك. والسياسة والعلم لا يتفقان. لأن العالم يحترم الحقائق لذاتها، فلا يحابي ولا يتأثر بغاية، فهو في أحكامه موضوعي بينما السياسي ذاتي يضحي بالحقائق العلمية في سبيل مبدئه وغايته. ولذلك لا يكون - ولن يكون - العالم سياسياً إلا إذا طلق العلم

وسنستأنف حكم السياسة السابق على الأجناس أمام قضاة العلم في المقالة القادمة إن شاء الله

(بخت الرضا - السودان)

عبد العزيز عبد المجيد