مجلة الرسالة/العدد 365/بين عهدين

مجلة الرسالة/العدد 365/بين عهدين

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1940



للأديب فؤاد بليبل

يا زَمانَ الهوَى وعهدَ الوِصالِ ... مَنْ مُعِيدٌ تلكَ الليالي الْخَوالي

حينَ كانَ الفُؤَادُ حُرَّا طَليقاً ... نَاعِمَ البالِ خاليَ الْبِلْبِالِ

طاَئِرهٌ وكْرُهُ على كلِّ غُصْنِ ... وَهَوَاهُ مِل الرُّبى والتِّلال

غَيْرُ وَقْفٍ عَلَى غَرامِ وحِيدٍ ... أوْ أليفٍ فرْدٍ وَحُبٍّ حَلاَل

أوْ مِثالٍ مِنَ الجمالِ فَريدٍ ... فَلَهُ في الجمالِ ألفُ مِثال

شاِعرٌ هامَ بالمحاسِنِ حتى ... باتَ في الوَجْدِ مَضْرِبَ الأمثال

يَنْشَدَ الحُسْنَ حَيْثُ لاحَ لِعَيْنَي ... هِ أفي البِيدِ أو أعالي بالْجِبال

يتصدَّى لهُ ولو صِنَ بالبِي ... ضِ سناهُ وَحُفْ بالأهوال

يتصدَّى لهُ على كلِّ صَدْرٍ ... كاعِب النهدِ غيْر سَهْلِ المنال

وعلى كلِّ مَبْسِم يَشتهيهِ ... أوْ قَوامٍ مُرَنَّحٍ مَيَّال

سابحٌ في الفضاء يَمْرَحُ زَهْواً ... بين حلٍٍّ على الهوى وارتحال

يتغنَّى على الأراكِ طَرُوباً ... مَرِحَ النَّفْسِ مُطمَئِنَّ البال

هَمُّهُ في الْحَيَاةِ أن يَطْرَحَ اله ... مَّ بعيداً لِعابدي الأموال

مُسْتَخِفَّا بالْعَيْشِ جدَّ قَنُوعٍ ... فَهْوَ في عُسْرِهْ سَعيدُ الحال

يَشْتَكِي الفَقْرَ والكَفَافَ سِواهُ ... وَهْوَ بالفقرِ والكَفَافِ يُغالي

تمْلِكُ الأُفْقَ والنُّجُومَ يَداهُ ... فلِماَذا يَشْكُو مِنَ الإقلال؟

كلُّ ما في الوُجودِ يَدْعُوهُ لِلْصَفْ ... وِ وَيَحْدُو على الهوى والوصال

فَجَمالُ الرَّبيعِ والزّهْوُ والدفْ ... ءُ وسِحْرُ الأسْحَارِ والآصال

وخريرُ الغُدْرِانِ وَهْيَ شَوَادٍ ... واعْتناقُ الأدْوَاحِ والأدْغال

كلُّ ما في الوُجُودِ مِلْكُ يَدَيْهِ ... مِنْ جَمَالٍ وَرِقَّةٍ وَكَمَال

فَلِمَنْ هذه النُّجومُ الدَّراري؟ ... وَلِمَنْ تِلْكُمُ الشُّمُوسُ اللآلي؟

وَلِمَنْ هذه الوِهادُ الزّواهي؟ ... وَلِمَنْ تِلْكُمُ الجبالُ العَوَالي؟

وَلِمَنْ هذه السَّواقي السَّواقي ... دافِقَاتٍ بالسَّائغ السَّلسال؟ وَلِمَنْ ذلك الفَضا المُتَرَامي=وَمُحَيَّا الضحَى وَوَجْهُ الهلال؟

وَلِمَنْ هذه النَّسَائمُ تَسْري ... سَرَيانَ الْحَياةِ في الأوْصال؟

وَلِمَنْ هذه الطُّيورُ الشَّوادي؟ ... كلُّ هذا لهُ فَكَيْفَ يُبالي!

هكذا كان في عهود صِبَاهُ ... ذَا خِلالِ أَعْجِبْ بها من خلال

ذهبىٌّ الأحلامِ غيرُ جَزُوعٍ ... رَابِطُ الْجَأشِ عبقريُّ الخَيَال

كلُّ يوْمٍ لهُ غَرَامٌ جَدِيدٌ ... وَجُنُونٌ بِبَارِقٍ مِنْ جَمَال

وَفَضَاءٌ مِنَ الأمانِيِّ عَذْبٌ ... يَتلاَقى فيه الهدَى بالضْلاَلِ

وَعُهُودٌ مِنَ الْهَوَي خالداتٌ ... وَلَيالٍ أَحْبِبْ بها من ليال

وَمَجَالٌ مِنَ الْمُجُونِ ظَرِيفٌ ... أين منه بَهَاءُ كلَّ مَجَال

وَرَنِينُ الأوْتَارِ تَحْسبُهُ السَّح ... ْرَ، وَسِرْبُ الْمَهَا وَوَحْيُ الدَّلال

وَنُزُولٌ في كلَّ يومٍ برَوْضٍ ... عَطِرِ الزْهرِ سُنْدُسيّ الظِّلال

وَفُؤاد بما يكنُّ سعيدٌ ... صادقُ الوَجْدِ باسِمُ الآمال

واصْطِحَابُ الكِعَابِ مِن كل خَوْدٍ ... جَمَّةِ الُّلطفِ مِنْ ذَوَاتِ الْحِجَال

يتناقلْنَ شِعْرَهُ هَزِجَاتٍ ... هَزَجَ الوُرْقِ في ظِلاَلِ الدَّوّالي

وَكؤوسُ الطِّلاَ تُدَارُ عَلَيْناَ ... مُشْرِقَاتٍ بالْبَابِلِيِّ الزُّلاَل

وَعُيُونٌ صَوَامِتٌ نَاطِقَاتٌ ... وَقُدُودٌ مَيَّاسَةٌ في اعْتِدَال

وَنُهُودٌ وَلاَ تَسَلْ عَنْ جَنَاها ... مُثْقلاتٌ بالْحُسْنِ غيرُ ثِقاَل

ذَاكَ عَهْدٌ مِنَ الشبابِ تَوَلَّى ... لَيْتَهُ لَم يكنْ رَهِينَ زَوَال

وَفَتىً صِيغَ من شُعَاعٍ ونُورٍ ... فبَغَى، فاغتَدَى من الصَّلْصَال

وإذا بي قد اسْتَحَلْتُ إلى غَيْ ... رِي وَجُرِّدْتُ مِنْ قَدِيمِ خِلاَلي

أنكَرَتْني نفسي وَأَنكَرْتُ ما بي ... مِنْ جَفَاء وَغِلْظَةٍ وَاخْتِيَال

لَم أَعُدْ ذَلِكَ الْقَنُوعَ عَلَى الْحُ ... بِّ ولا ذلكَ الطَّرُبَ الخالي

وإذا بي وَقَدْ غدوت غَرِيباً ... عَن شُعُوري وعن رَقيق خِصَالي

وإذا المالُ لا يُعِيدُ قُنُوعي ... مِثْلَمَا كان أو يزيلُ مَلالي

وإذا الدَّهرُ لا يردُّ صفَائِي ... وانقيادي لِصَرْفِهِ وَامْتِثاَلي وإذا الْكَسْبُ لا يُخَفِّفُ مَا بي ... وإذا الْيُسْرُ لا يُحَقِّقُ فالي

وإذا النهرُ لا يَبُلُّ غَلِيلي ... لا ولا الكونُ كله لو غَدا لي

وإذا الْهَّمُّ يَحْتَوِيني وَيَأبَي ... طَمَعي الجمُّ أَنْ يَفُكَّ عقالي

وإذا الرَّوْضُ قد تَعَرَّى مِنَ الْحُ ... سْنِ فلا يرتدي سِوَى الأسْمَال

وإذا الفَجْرُ بَم يَعُدْ فيه ما كن ... تُ أَرَاهُ مِنْ رَوْعَةٍ وَجَمَال

وإذا الأُفقُ ضَيِّقٌ مُكْفَهِرٌّ ... وإذا البدْرُ شَاحِبٌ في هُزَال

وإذا الزهرُ والخمائِلُ وَالوُرْ ... قُ تَنَكَّرْنَ لِلْفُوّادِ السَّالي

وإذا الكونُ خِسَّةٌ وَرِياءُ ... وَمَيَادِينُ شَهْوَةٍ وَاحْتِيَال

وإذا لم يَعُدْ يُشّنِّفُ سَمْعي ... مِنْ غِنَاء سِوى رنينِ (الرِّيال)

وإذا بي وقد رجعتُ إلى الطي ... نِ وَأَصْبَحْتُ مِثلَ باقي الرجال

حَدَّثُوناَ عَنِ الزّواجِ حَدِيثاَ ... حَسَنَ السَّبْكِ شَائقَ الأقْوال

فَأُخِذناَ بِبَارِقٍ من سَناهُ ... وَسُحِرْنَا بِمَنْطِقٍ خَتِّال

وَبُهِرْناَ بِمَظْهَرٍ مِنْهُ عَذبٍ ... وَمُنِينا بِمَخْبَرٍ قتَّال

فَوَقَعْناَ فيما خَشِينا وكنَّا ... عَنْ مَراميهِ في غِنّى واعتزال

فاضطُرِرْنا إلى الخضُوع وَبُؤْناَ ... مِنْهُ بالهمِّ والأسَى والنَّكال

قَدْ طَمِعْنَا في كلِّ شيءِ رَخيصٍ ... فَفُجِعْناَ بكلِّ شيءِ غال

(دار الأهرام)

فؤاد بليبل