مجلة الرسالة/العدد 366/الحرب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 366/الحرب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

الهدنة الإيطالية

اختلفت شروط الهدنة الإيطالية الفرنسية اختلافاً بيناً عن الشروط الألمانية، فالفرق بين القيود الألمانية والقيود الإيطالية فرق كبير، يستنتج منه الباحث عدة نتائج، فهي تدل على ظاهرتين عامتين:

1 - التعاون بين الحكومتين: الإيطالية والألمانية، فكلا الشروط الألمانية والإيطالية يتفق في مبادئ عامة، كشرط نزع السلاح، وشرط وقف القتال

2 - التحفظ من جانب الحكومة الألمانية، فبينما شروط الهدنة الألمانية مؤكدة التحقيق في اكثر بنودها، نجد شروط الهدنة الإيطالية صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة بغير قتل

فالهدنتان تطالبان حكومة بتان بوقف القتال في فرنسا، وفي المستعمرات وفي البحر وفي الجو، وهذا سهل مؤكد في الشروط الألمانية، ومشكوك فيه أو من المؤكد عدم تنفيذه في الشروط الإيطالية. فقد احتلت ألمانيا أكثر الأراضي التي نصت عليها الهدنة قبل وقف القتال ولم يبق ألا جزء ساحلي صغير في الجنوب، يقابله من ناحية ألمانيا احتلال مناطق داخلية تمتد إلى ليون

وأنبأتنا البرقيات أخيراً أن إخلاء هذه المناطق الواقعة خارج نطاق الهدنة يقيد باحتلال المناطق التي لم يصل إليها بعد، ويعضد تنفيذه رغبة حكومة بتان في الوصول إلى وضع حد للقتال، ووقوع هذه الأجزاء الساحلية تحت تهديد الغزو الألماني، فلا مفر إذن من تسليم حكومة بتان باحتلالها

تقييد إيطاليا

فإذا تركنا الجانب الألماني وانتقلنا إلى الجانب الإيطالي نجد أن إيطاليا لا تطالب باحتلال شواطئ البحر الأبيض المتوسط الفرنسية خلافاً لما توقعناه وتوقعه كثيرون، فهي تكتفي باحتلال المناطق التي حصلت عليها أثناء الحرب. ولعل هذا يفسر لنا السبب الذي من أجله اشتد الهجوم الإيطالي بينما كان المندوبون الفرنسيون يفاوضون المندوبين الإيطاليين، فقصدت القيادة الإيطالية احتلال أكبر جزء من الأرض ولكن الجيش الفرنسي لم يترك لقواتها الطريق حراً، بل وقفها عند المخافر الأمامية، أي أن إيطاليا تسيطر على جانب لا يستحق الذكر من الأراضي الفرنسية لا يتجاوز بضعة كيلومترات في أراضٍ لا أهمية لها من الوجهة العسكرية، فالحصون الفرنسية الإيطالية تقع على جبال الألب وهي خارج المناطق المحتلة

ومن المعروف أن شروط الهدنة الإيطالية اتفق عليها موسوليني وهتلر، أو هي بطريق أوضح من وضع هتلر لا من وضع موسوليني، ومنها نستنتج ثلاثة أمور:

1 - إيجاد قواعد فرنسية يلجأ إليها الأسطول الفرنسي إذا قبل قادته شروط نزع سلاحه، فلا يتكلف اجتياز مضيق جبل طارق ويتعرض للصدام بالأسطول البريطاني. فالمعروف أن أكثر قطع الأسطول الفرنسي موجودة في غرب البحر الأبيض المتوسط

2 - تهديد حكومة بتان باحتلال الشواطئ الفرنسية للبحر الأبيض في حالة عدم تنفيذ شروط الهدنة فيما يختص بوقف القتال في المستعمرات، فإن هتلر وموسوليني يعرفان جيداً تقاليد الفرنسيين ووطنيتهم وعدم خضوعهم لأعدائهم، فتهديد هذا الجزء بالاحتلال يدفع بالمارشال بتان إلى بذل أقصى ما لديه من جهد لإكراه رجال المستعمرات على تنفيذ شروط الهدنة

3 - وضع إيطاليا تحت إبهام هتلر بطريقة لا يتيسر لموسوليني التملص منها. فقبل أن تعلن المستعمرات الفرنسية موقفها حيال الهدنة كان من المقطوع به أن تسليمها قليل القيمة، أو ليست له فائدة عسكرية، فمثلاً أعلنت حكومة سوريا ولبنان أنها وقفت القتال، فهذا كلام لا تستطيع ألمانيا أو إيطاليا تنفيذه. فإن القوات الموجودة هناك لم تشترك في القتال لتقفه، فضلاً عن عدم وجود قوات ألمانية أو إيطاليا بالقرب منها لتلاحظ تنفيذ هذه الشروط، فإن الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والأراضي المحيطة بسوريا ولبنان مناطق نفوذ إنجليزية

حالة غامضة

وما يقال عن سوريا ولبنان يقال عن تونس والجزائر وجيبوتي. وما زالت هذه الجزاء الأخيرة صامتة لم تعبر إن موقفها بصورة قاطعة انتظاراً لما تبرزه الظروف. ويختلف موقف القوات في تلك البلاد عنه في سوريا ولبنان فيجاور كل منها ممتلكات إيطاليا، فالصومال الفرنسي هو المنفذ البحري للحبشة، وتونس تجاور ليبيا؛ ولكن الممتلكات الإيطالية هناك مرتبكة بانشغالها في الحرب مع قوات الممتلكات البريطانية، وقد لا يمر زمن طويل حتى تتجلى حقيقة موقف المستعمرات الفرنسية، فما قيل حتى الآن لا يوضح اتجاهها الصحيح

وهذه الحالة الغامضة ترغم موسوليني على مؤازرة هتلر والرضوخ لأوامره، في مقابل إمداده بالمعونة العسكرية سواء أكانت رجالاً فنيين أو معدات قتال، أو بعبارة أخرى يعطي هذا الموقف لهتلر ضماناً باستمرار موسوليني في ميدان القتال. فطلبات إيطاليا لم يتحقق منها شيء، ولم تحصل على ضمان يسهل لها الحصول على أحدها

وإذا حاولت إيطاليا أن تتدخل في شئون سوريا ولبنان بأية وسيلة، فإن تركيا تدخل الحرب، تنفيذاً لتعهداتها للحلفاء ومحافظة على مصالحها، فلن تقبل تركيا أن تجعل إيطاليا البحر الأبيض المتوسط بحيرة إيطالية كما يريد موسوليني، فيهدد مواصلات الدردنيل والبوسفور، وتصبح مجاورته للأراضي التركية خطراً يهددها. وأعلنت بريطانيا أخيراً أنها تقاوم بالسلاح كل عمل حربي يرمي إلى احتلال هذه الأجزاء أو التدخل في شؤونها لغير فرنسا بأية طريقة كانت

في البلقان

واستغلت الروسيا فرصة انهيار فرنسا واستولت على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينا الرومانيتين، وهو ما توقعناه في مقال سابق، إذ قلنا إن الروسيا لن تدخل الحرب بصفة جدية، وإنها ستكرر ما فعلته في بولندا، فتستغل ضعف مقاومة الفريقين المتقاتلين وتستولي على الأراضي التي تهمها في البلقان أو في البلطيق

ويلاحظ في تصرفات الروسيا أنها تتبع سياسة روسية محضة غير مقيدة بأي فريق، فاحتلالها العسكري لبعض مناطق بحر البلطيق يهدد مصالح ألمانيا التي حرصت على أن تجعل بحر البلطيق منطقة نفوذ ألمانية حتى تضمن سهولة حصولها على خامات السويد، وتحكم السوفياتيين في هذا البحر يهدد هذه المصالح، فهي خطوة لا ترضي ألمانيا، ولكنها مضطرة إلى قبولها الآن لاشتباكها مع إنجلترا في القتال، فإذا وضعت الحرب أوزارها أو تناولتها فترة انتظار؛ فنتوقع أن يكون بحر البلطيق مثار نزاع بين الدولتين

ومن الناحية الثانية ضمن الحلفاء سلامة رومانيا، ولألمانيا وإيطاليا فيها مصالح حيوية لمسناها في الحرب الحالية، فلولا بترول رومانيا لما استطاعت ألمانيا الاستمرار على القتال إلى الآن. وأعلنت إيطاليا مراراً أن البلقان مناطق نفوذ إيطالية، وأن أي اعتداء على إحدى دوله تقابله بالسلاح؛ ولكن الفترة الحالية لا تسمح بامتشاق الحسام في وجه الروسيا وإكراهها على احترام مصالحه أو تصريحاته

منذ 20 سنة

ومسألة بسارابيا مسألة طال النزاع عليها، فقبل سنة 1920 كانت إحدى مقاطعات الروسيا، واستغلت رومانيا فترة الثورة الروسية الشيوعية، وانحلال قوة المقاومة فيها وضمتها إلى أراضيها ومن ذلك الوقت لم تصل الدولتان إلى اتفاق عليها

ورومانيا بلد كثير الأعداء والخلافات الخارجية، ويعتبر استيلاء الروسيا على بسارابيا ثغرة لتدفق هذه المشاكل، ففي سنة 1912 اشتعلت الحرب بين رومانيا وبلغاريا وأخذت منها الأخيرة جزءاً من مقاطعة دوبروجا، فلما كانت الحرب الكبرى وانحازت رومانيا إلى جانب الحلفاء، وانحازت بلغاريا إلى جانب ألمانيا، استعادت رومانيا الأجزاء التي فقدتها بمقتضى معاهدة نوبلي سنة 1919، وخسرت بلغاريا في هذه المعاهدة أيضاً مقاطعتي مقدونية وتراقية وقد ضمتا إلى اليونان وفقدت بفقد هاتين المقاطعتين منافذها الساحلية على البحر الأبيض

وحصلت رومانيا من المجر (هنجاريا) بمقتضى معاهدة تريانون التي عقدت في 4 يونيه سنة 1920 على ترنسلفانيا وجزء من مقاطعة بانات التي قسمت بينها وبين يوجوسلافيا، وتطالب هذه الدول الآن بالأجزاء التي اقتطعت منها، ولهذا ينتظر أن تكون خطوة الروسيا في الوقت الحالي بمثابة شعلة من النار ألقيت على دول البلقان، فيكفي أن تتحرك إحدى هاتين الدولتين لاستعادة أراضيها لإشعال نار الحرب في البلقان. ولولا ضغط دول المحور عليهما لأعلنتا الحرب من مدة على فوهة بركان

وإذا اشتعلت الحرب بين دول البلقان، فلا شك أن ألمانيا وإيطاليا ستضطران إلى دخولها دفاعاً عن الدول المنحازة إليهما؛ فإن المجر وبلغاريا من الدول الموالية لمحور برلين روما، وستدخل إنجلترا هذه الحرب أيضاً تنفيذاً لسياسة مناوشة ألمانيا ومهاجمتها كلما سنحت الفرصة، وتنفيذاً لتعهداتها حيال اليونان وتركيا

أما موقف إنجلترا الأخير حيال رومانيا، إذا اجتاحت الروسيا جزءاً من أراضيها فلم ترسل قوات لنجدتها، فيفسره أن رومانيا لم تدافع عن نفسها، بل قبلت شروط الروسيا وتخلت عن الأرض، ولو قاومت الجيوش الرومانية تقدم الجيوش السوفياتية لتغير الموقف ولأرسلت إليها إنجلترا القوات اللازمة. وإذا كانت رومانيا لم تتحرك للدفاع عن نفسها، ولم تطلب معونة إنجلترا، فهل يحق لمنصف أن يطالب إنجلترا بالتصرف بينما صاحبة الشأن الأول لم تدافع عن نفسها؟

وتعود حركة الروسيا الأخيرة بخسارة كبيرة على ألمانيا وإيطاليا، كما أثرت على هيبة بريطانيا، لأنها لم تستطع الوفاء بعهودها. أما خسارة دولتي المحور فترجع إلى استيلاء الروس على مناطق كان أكثرها يزرع لحساب ألمانيا، فيمدها بالمواد الغذائية، وترجع أيضاً إلى اقتراب الروسيا من مناطق البترول الرومانية.

نحو البترول

فالمسافة بين الجيوش الروسية الآن وبين ينابيع البترول الرومانية أقصر من المسافة بين الحدود الألمانية وهذه الينابيع، وكذلك طبيعة الأرض من ناحية الروسيا أسهل منها من ناحية ألمانيا، فالمناطق التي تقابل الروسيين سهول، ولكن جبال كراباتيا تقف في منتصف الطريق بين ألمانيا ومناطق البترول. فإذا حان وقت تمزيق رومانيا فالغالب أن تستولي الروسيا على هذه المناطق

ويظهر أن الروسيا تتبع سياسة بعيدة الغرض منها السيطرة على جميع دول أوربا. فيلاحظ عند احتلالها لبولندا أنها استولت على مناطق البترول فيها ووضعتها تحت سيطرتها، وتركت لألمانيا المناطق الأخرى. ويلاحظ أيضاً في حركتها الأخيرة أنها اقتربت من مناطق البترول الرومانية ولم تقصر استيلاءها على بسارابيا، بل احتلت شمال بكوفيتا، حتى تجد منفذاً للالتفاف حول جبال كراباتيا فيتاح لها الدفاع عن مولدافيا وفلاكيا اللتين بهما أغنى مناطق البترول في أوربا

ويستنتج من هذا أن الروسيا وضعت سياستها على أساس السيطرة على بترول أوربا، والبترول مادة أساسية من المواد الحربية، وبعد الحصول على حقول البترول الرومانية تصبح منابعه كلها تقريباً في قبضة الروسيا، وبالتالي تتحكم في مصير الدول لأنها تكون الدولة الوحيدة التي تستطيع إصدار الأوامر وإكراه الدول الأخرى على إطاعتها. ولكن حركتها هذه موجهة إلى دول وسط أوربا أكثر مما هي موجهة إلى دولها الغربية، فإنجلترا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال تستطيع الحصول على هذه المواد من بقاع أخرى، بينما دول المحور محصورة وخصوصاً في حالة الحرب الحالية والحصار البريطاني المفروض على المحيطات، فهل يتجاهل النازيون هذه الحقيقة؟ وإلى متى يمكنهم الصبر؟

إن الموقف الحالي وتوجه حكومتي روما وبرلين بكل قواتهما لمهاجمة بريطانيا لا يتيح لهما اتخاذ قرار في هذا المصير المقبل، ولكن حركات الروسيا الأخيرة سببت ولا شك متاعب كثيرة لدول المحور، وأوجدت لها مشاكل خطيرة يجب حلها بسرعة، وهي لا تستطيع الآن دفع البلقان إلى الحرب حتى لا تخسر موادها وهي عمادها الوحيد، واشتراك هذه الدول في الحرب معناه خسارة هذه المواد.

فوزي الشتوي