مجلة الرسالة/العدد 366/علي ماهر باشا
مجلة الرسالة/العدد 366/علي ماهر باشا
الآن وقد انفكَّ عن صاحب المقام الرفيع سلطان الحكمين: المدني والعسكري، وأصبحت الكلمة فيه للحق الخالص الذي لا يرغب ولا يرهب ولا يجامل، نحاول أن نرسم هنا ظلال الرأي الذي ارتأيناه فيه على قدر ما تسمح به حال الصحفي الأدبي الذي يواكب من جانب ويراقب من بُعْد، ولا يتصل بأولي الحكم اتصال دعاية، ولا يذوي الرأي اتصال مشايعة
لم أرى علي ماهر باشا فيما مضى من حياتي غير مرة واحدة منذ
شرين سنة في مطبعة الاعتماد حيث كان يطبع كتاباً في القانون وأنا
أطبع كتاباً في الأدب. وعلى الرغم من جلوسنا ساعة من النهار جنباً
لجنب ذلك المكان الخشن الضيق الذي كان يجمع يومئذ بين مكتب
الإدارة وصناديق الحروف، لم نتناول غير النظر الفارغ، لأنه على ما
يظهر من نفسه رزين متحفظ، وأنا على ما أعرف من نفسي حبي
منقبض
وتولى علي ماهر باشا الحكم فكان لكل أديب ولكل صحفي من رعايته عون على الجهاد والاجتهاد إلا (الرسالة)، فقد عاقبها وقسا عليها في العقاب حتى لم تنل في عهده من المعارف والداخلية إلا شيئاً يشبه الظلم إن لم يكنْه. فأنا حين أكتب عنه لم أجد في نفسيَ منه إلا ما يجده المصري الفلاح أو العامل من أثر الرجل الحكومي في عمله، ومن نتيجة العمل العمومي في حياته. وألذ الأشياء في ذوق الضمير أن نشهد شهادة الصدق في رجل لا تربطك به علاقة من العلائق الحريرية أو الحديدية
علي ماهر باشا رجل هيأته طبيعته وعقليته وعمله للمواقف الجلَّي في عهدنا المستقل الحر. تولى رياسة الحكومة في وزارة المائة يوم فكان مثلاً عالياً للحكم المناسب في النشاط الشامل والتوجيه البصير والإصلاح المبتكر والنزاهة الممكنة. وكان الغيب في هذه المدة قد تكشَّف عن طور من أطوار العرش والدستور لا يؤمَن فيه الضلال على غير الإرادة الحازمة الرشيدة، فكان من توفيق الله أن تقلد الأمر هذا الرجل العظيم في تلك الساعة العصيبة فساسه على نهج واضح مأمون من اللقانة والأمانة والقدرة ثم عاد فتولى الحكم حين أخذت العالمَ كله هذه الرجفةُ النازية الكبرى، فسحقت الجيوش، وثلت العروش، وغيرت وجوه الأرض، ونقضت أحكام الناس، وقلبت أوضاع المجتمع، وأصاب مصرَ منها ما لم تره في عمرها الحفيل الطويل، فصرَّف الأمور في هذه العاصفة الراجفة بالذهن الثاقب المحتال، والرأي الجميع الموفَّق، واليد القادرة الحازمة، والسياسة المتيقِّظة المستبصرة، والخطة الصريحة الجريئة، حتى اطمأن الناس إلى مصاير الأزمة، وأمِنوا شر العاقبة
فأنت ترى أن اختيار القدر لهذا الرجل في هاتين المحنتين من غير سعيه ولا استشرافه لا بد أن يكون لسر من أسرار الطبيعة فيه تعلنه عند إعضال الأمر أو استفحاله
والواقع المأنوس أن علي ماهر باشا فذٌّ بين ساسة هذا البلد في وسيلته وغايته وحكمه؛ فهو لا يعتمد في ولايته على عصبية الأحزاب المتغالبة، ولم يجر في حكمه على نمطية الوزارات المتعاقبة، ولم يجعل همه أن يدغدغ جسمه في كرسي الوزارة المخملي الوثير؛ وإنما بلغ الزعامة بالكفاية المحض، وعالج الحكم بالتدبير المبتدَع، وسما بنفسه عن سفساف الأمور ومحاقر الأغراض، وألقى باله للكبيرة والصغيرة، وأخلص رأيه للحميم والخصيم، وتعهد الأداة الحكومية في أوضاعها المختلفة ومواضعها المتعددة فجلا عنها الصدأ وعالج فيها الاضطراب، حتى نشطت لعملها الدائب في اطراد واتساق ووحدة
ومن مزايا علي ماهر باشا أنه رجل قانون ومنطق. وصاحب القانون يغلب عليه العدل والمساواة وهما روح الحكم؛ وصاحب المنطق يغلب عليه الرأي والمشورة وهما أصل الدستور. لذلك تهيأت له الفرص النوادر للاستبداد فأبى أن يعمل إلا على هَدْى طبعه ووحي ضميره
لقد كان موقف صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا من سياسة الحليفة العظيمة موقفاً يتمناه كل زعيم عظيم بما بقي من عمره. ولولا أن حليفتنا الكريمة لا تزال تجري في سياستها الشرقية على موروث من سوء الظن لوجدت في ماهر باشا أصدق حليف وأوفى معاهد يعلمها من أخلاق قومه ما تجهل، وينيلها من عواطف شعبه ما تريد. ولكنها أتاحت بهذا الموقف الأخير لعلي ماهر باشا أن ينقش في ذاكرة الزمان الواعي أنبل ما صدر عن وطنيته وعبقريته من البراعة والشجاعة والإخلاص لوطنه وملكه لقد رفع ماهر باشا مستوى الحكم وأعلى مثَله. ومن البعيد أن ينزل خَلفُه عنه أو يترخص فيه؛ ولكن الاضطلاع به والمحافظة عليه في هذه الزلزلة العامة من المشقات التي تُمتحن بها أقدار الرجال. ويقيننا أن الروح المصرية التي انتعشت في علي ماهر وإخوانه الذين اعتزلوا الحكم، ستشيع في ساستنا الذين خَلَفوهم عليه، فتميت في أذهانهم معاني الفردية والحزبية، وتدفعهم متكاتفين إلى إنقاذ الوطن عن طريق الجهاد والإيثار والتضحية
إن القدر المتصرف يخطط اليومَ الممالك على نظام جديد. والإيمان وحده هو الذي يملك على القدر اللطف في التغيير. فآمنوا يا رجال الساعة بقدرة الله وقوة الحق وقيمة الحرية وسلطة التاريخ وعظمة مصر، فإن الإيمان ولا ريب دِرع الأمان
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات