مجلة الرسالة/العدد 367/البلهبذ

مجلة الرسالة/العدد 367/البلهبذ

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1940



للأستاذ حسن السندوبي

للأمير شكيب أرسلان كتاب قيم وضعه حديثاً عن (شوقي) وجعله تذكاراً لصداقة أربعين سنة. وقد حفل بالطريف من المعلومات، والجليل من الموضوعات، كما رد فيه كثيراً من الحقائق التاريخية التي غمرتها الحوادث، وأبعدتها عن أصولها الكوارث، في العصر الحديث. فكان كتاباً فريداً في بابه ككل ما يعرض له الأمير من أبحاث وشؤون، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالعالم الإسلامي والعربي في بقاع الأرض

وقعت لي نسخة من هذا الكتاب القيم فعنيت بقراءته عنايتي بكل ما تجود به قريحة الأمير ويسيل به قلمه الكريم. ولي منذ الصبا ولع شديد بتتبع آثاره، واستيعاب أفكاره، واقتطاف أزهاره، فله عندي منزلة من الحب قوامها الاحترام

وبينما أردد نظري في صحائف هذا الكتاب استوقفني قوله وهو يقارن بين سينية البحتري التي يصف بها إيوان كسرى، وبين سينية شوقي التي يعارضه بها، عند قول البحتري:

قد سقاني ولم يصرد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس

من مدام تقولها هي نجم ... أضوأ الليل أو مجاجة شمس

وتراها إذا أجدت سروراً ... وارتياحاً للشارب المتحسى

أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس

وتوهمت أن كسرى أبرو ... يز معاطي والبُلُهْبُذَ أنسى

قال الأمير: ما اهتديت إلى الآن إلى معنى (البلهبذ) الذي هو لفظ فارسي فيما يظهر

فلما رأيت ذلك دهشت وأكبرت ذكاء الأمير وفطنته عن أن يفوتهما المعنى من هذا اللفظ. ولا سيما بعد أن وضعه البحتري في مكان لا يحتمل لبساً ولا إبهاماً. فالبحتري يذهب به خياله إلى أن كسرى يعاطيه الخمر والبلهبذ يؤانسه بصوته الرخيم. إذن فالبلهبذ كان من ندماء كسرى ذوي التطريب والتغريد، ومن الذين يحبون مجالس الشراب، وينعشون محافل المنادمة بأصواتهم الحسنة، وأنغامهم العذبة، فالبلهبذ على هذا كان المغني الخاص لكسرى، والمطرب المغرد في مجلس شرابه

ولقد أذكر بهذا أن الشيخ الشنقيطي اللغوي الكبير قال قصيدة في رحلته إلى الأندلس، وصف فيها الباخرة وصفاً سلبياً إلى أن قال فيها:

لا تحسبن عراب الخيل تشبهها ... ولا المهملج شبديزاً ولا عدسا

ثم علق على هذا البيت بقوله: إن شبديز فرس كسرى المشهور. كان من خصائص كسرى أبرويز أن الناس لم يروا أحداً في زمانه قط أمد منه قامة ولا أتم ألواحاً ولا أوفر جسامة ولا أبرع جمالاً منه، فكان لا يحمله إلا فرسه شبديز، وكان في الأفراس ككسرى في الناس، يضرب به المثل في عظم الخَلق وكرم الخُلق وجمع شرائط العتق. ولما مات شبديز لم يجسر أحد على نعيه إلى كسرى، فضمن صاحب الدواب (للفلهيد) المغني مالاً وسأله أن يعرض لأبرويز بموت شبديز!

فقال - وهو يغنيه بمجلسه -: (شبديز لا يسعى ولا يرعى ولا ينام)

فقال أبرويز: (قد مات إذن)!

فقال الفلهيد: (من الملك سمعت)

وليس من شك في أن (البلهبذ) في بيت البحتري هو نفسه (الفلهيد) في رواية الشنقيطي، وعليه يجب تصحيح رواية الشنقيطي بقول البحتري. والظاهر أن الشنقيطي نقل روايته عن كتاب أعمل فيه الناسخ يد المسخ والتحريف والتصحيف، ولم يفطن لها الشيخ ولم يتكلف تحقيق صحتها إذ لم تكن الفارسية من شأنه، ولا خفاء أن النقلة عن اللغات الفارسية والسريانية والعبرية وغيرها من اللغات القديمة طالما وضعوا (الفاء) في مكان (الباء)، كما عكسوا ذلك. وكثيراً ما أعجموا الدال وأهملوا الذال، وهكذا في المتشابه من الحروف. وهذا كثير غامر فيما وصل إلينا من آثار السلف

على أنني لم أرد بذلك نقد الأمير أو الغض من عالي منزلته وراسخ علمه، فهذا ما لم يخطر لي ببال، وإنما أردت الإيماء إلى شيء لا أشك في أنه مر كثيراً بالأمير أثناء مطالعاته ولكنه سها عنه عند إيراده بيت البحتري. والكمال لله وحده

حسن السندوبي