مجلة الرسالة/العدد 367/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 367/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1940



تأملات:

في مملكة الحيوان

للأستاذ محمود الدسوقي

في إحدى السنين التي كان خلو الذهن فيها ظاهرة بادية في الشعوب، وأشغاله ظاهرة تبدو على الحكومات، والتي كانت فيها الطبيعة آمنة، وكان الناس من نحوها آمنين مطمئنين - في إحدى هاته السنين زرت أوربا، وأوربا كعادتها جمة النشاط، منصرفة إلى التجديد، والطبيعة باسمة حالمة يفيض قلبها بالحب وتزخر على جوانبها الأماني، فلم يرعني شيء كالألفة القائمة بين الحيوان والإنسان تقليداً ترعاه التربية العامة، ولا يغفل إلا بمقدار

وقد كان بيني وبين الطير والحيوان حديث ما أعذبه، فلم يكن في الجو ما يقصى الطير عن شجره والحيوان عن مأمنه. والطير والحيوان أحب الرفاق إلى الإنسان إذا أعوزته الرفاق، فهما أحفظ لسره، وأبقى على عهده، وأطوع لإرادته، ما دام كل شيء يجري معهما على سجيته

لم اقصد إليهما كما فعل التاجر هورن، فأقتحم عليهما الغاب والآجام، فأنا أعرف بالحدود من ألا أقف عند حد. بل إني حاولت أن أجتمع بهما وأنا آمن، وهما عديما الحيلة عديما الأذى. وهل في غير حدائق الحيوان ينشد المرء مثل هذا اللقاء؟ وإنه لمتعة للنفس، وفرصة للنظر والدرس، وساعة للتحصيل لا تجلب السآمة

وقد كنت أغشى حديقة الجيزة فيما مضى من الزمان، فإذا الظاهرة التي تسترعي انتباه من يعنيه الانتباه إلى علاقات المخلوق الطليق بالمخلوق الحبيس هي اضطهاد وتحفظ، اضطهاد من الزوار الذين لا ينون عن مضايقة الطير والحيوان كل في قفصه، وتحفظ من الطير والحيوان، إذ هو لا يقترب إلا حذراً، ولا يبتعد إلا متوجساً

وغشيت في تلك السنة التي ألمعت إليها إحدى حدائق أوربا العامة المترامية الأطراف التي يضل فيها السائر من دون خريطة، وتسعف فيها المركبات من كلت قدماه قلت: غشيت تلك الحديقة، فإذا الكلفة التي ألفنا أن تكون في حديقة عامة بين الطليقين من الإنسان والحيوان مرفوعة، وإذا ألفه معقودة بين المخلوقات تجعل من الحديقة سفينة أخرى لنوح عليه السلام. وقد لفت نظري عند جزع شجرة أطفال دون العاشرة (وسنجاب) في أعلى الشجرة، والسنجاب حيوان خفيف الروح، تملكه بالإحسان والدعابة، لكن قبضك الريح كقبضك عليه. وقد ناداه طفل بالاسم الذي آثره به فأحس في الحال أنه المعني بالنداء، فدلف من فرع إلى فرع، ووقف عند متناول اليد، فمد إليه الطفل يده بالغذاء غير باغ، فتناول (السنجاب) حاجته منه وارتد. وجعلت طفلة تستهويه بشيء جديد، وتناديه كذلك باسم جديد، فإذا السنجاب دالف على عادته، مؤدٍّ مهمته، والأطفال بين ضاحك وباذل ومتحبب (والسنجاب) في تلك الأسرة الصغيرة ابنها المدلل العزيز

ولقد خطرت لي فكرة التحدث إلى السنجاب ما دام من سجاحة الخلق بهذا القدر فحاولت أن أختلي بأخ له بعيداً من مجمع الأطفال إذ كنت قد نسيت فنونهم من قديم، وإني إلى ذلك لأتحاشى أن يذكروني بهذا الفنون؛ فكان أن لقيت سنجاباً فدعوته إلى ناحية فتطلع إليَّ ولم يزد إذ كانت يدي خالية مما يطمع فيه، وانطلق ليستروح طيب الشمائل من غيري

والعصافير فطينة أليفة في تلك الحديقة تتصيد المارة. وكثير من الناس يطوفون بالحدائق العامة وفي ميزانياتهم رصيد محترم للطير والحيوان. فالحب دائماً على أكفهم لا يبذرونه، ولكن يقع الطير عليه فيلتقطه غير هياب. وقد لقيت غير بعيد عصفوراً جاثماً على فرع شجرة، فما إن اقترب منه عابر سبيل باسطاً يده بالنذر اليسير حتى هبط على يده والتقط الحب في لمح البصر ثم عاود الجثوم، وعاود المار الكرة وعاودها العصفور، حتى إذا خرجت يد العابر من هذه المعاودة وهي خالية إذا بالعصفور يميل يمنة ويسرة، ويصل بين ذنبه ورأسه، ولا أدري أكان يبغي بما فعل أن يرد الحسنة بعشرة أمثالها أم كان يبغي المزيد

وجلست في حديقة للحيوان غشيتها بعد ذلك بأيام على مشرب أستريح. وعلى كثرة أقفاص الحديقة وحظائرها، والمواطن التي أنشئت فيها على غرار الطبيعة، ليحس فيها الطير والحيوان أنه في بيته - كنت أجد الطاووس يخطر في طرقاتها ومماشيها مع الزوار جنباً إلى جنب أو معترضاً طريقهم، وكنت ألقى الدجاج الزاهي الألوان البديع الريش يسرح بين الناس في طلب الرزق. وليس في هذا ما يستحق الذكر، لكن حين جلست إلى مائدة المقهى أقبل على الدجاج في رهطه ومعه طائفة من الديكة الرومية أحاط بي جميعها في انتظار ما يكون. وكان أن طلبت فنجاناً من القهوة يعيد إلى رأسي بعض ما انتهب التعب، فأدرك الدجاج أن ليس ما يطلبه عندي فلا فطيراً رأى ولا كعكا، ولا قارطيس مما يحمل المحسنون؛ ولم يشأ أن ينصرف مع ذلك عني فلعله خشي أن أتهمه بالنفعية أو لعله لم يكن قد يئس بعد من كرمي وأنا رجل غريب لا علم لي بتقاليد الحديقة

واستأنفت المطاف في الحديقة ووقفت أمام حيوان صغير لطيف يشبه النمس ويدي في جيبي، فتبعها بنظره شأن المترقب حتى إذا خرجت وألفاها فارغة رماني بنظرة لم يفتني ما فيها من ازدراء.

تعرف الحرية القيود جد المعرفة، وقد لا تعرف غير القيود؟ فليس ثمة إباحة إلا ولها شرط. وقد كنا إلى عهد قريب نسرف في تقييد حرية الطير والحيوان في حديقة الجيزة، ثم احتذت مثال حدائق الحيوان في الغرب في كثير؛ لكنا لا نرى فيها ما رأيت حين تابعت المسير في الحديقة الأوربية من قطعان الحمير التي لا تعرف الحظائر أو تعرفها ولا تحتاج إليها. ولعل من الخير أن تترك الحمير تسرح في الحدائق وتمرح على هواها فقد ترتفع من هذا قيمتها ويرتفع سعر ذكائها المشهور، فهي تحسن جرش السكر فوق ما تجيد من طحن الفول ومضغ التبن وحصد البرسيم، وهي تعرف كيف تعترض سبيلك لتنال بغيتها منك، وكيف تدفع ظهرك بأشفارها لتلفتك إليها. وقد تسير في الحديقة في حاشية طيعة من البرازين تتبعك كظلك إلى حيث تشاء في داخل الحديقة طبعاً إذا كنت رجلاً كريماً، وكان السكر بعض ما عندك

والحيوانات جميعاً حبيبة إليّ، لأنها على الفطرة، وفطرتها سليمة لم تتلف على نقيض الإنسان الذي تستنفذ فيه المدنية هذا الزخر الطبيعي، وفصيلة القط أجمل الحيوانات طراً، لأن لها شخصية قوية، ولأنها قادرة على النضال، ولأن كل حركة من حركاتها جذابة فيها ظرف كثير. وهذه الفصيلة بالذات هي التي يخشاها الإنسان لأنه يتوجس منها الشر ولأنها في يقينه غادرة خائنة وقد لا تكون أغدر من الإنسان ولا أخون، وهنا نتساءل لماذا نحبو بالعطف غير هذه الفصيلة من طير وحيوان ونأباه على الوحش الذي ينتمي إليها، والجواب الذي تنتظره مني أيها القارئ غير الجواب الذي أعده لك، فليس كون هذه الوحوش تفترس في جوعها سائر المخلوقات هو الذي يحبس عنها عطفنا وإلا فما الذي لا يفعله زعيم المخلوقات الإنسان العاقل النبيل في جوعه؟ وإنه ليقال إن الإنسان ليفترس أخاه الإنسان في مسة الجوع الجنونية حين تجنح به سفينة إلى شاطئ قفر أو تتحطم به في البحر

إن المرء ليتوجس من الوحش ويتوقع دائماً أذاه لأنه كثيراً ما يغفل من حسابه حساسية الحيوان في حالات كدره. فقد يقربه بشيء من الملاطفة فلا يجني إلا عكس ما ينبغي أن تثمر الملاطفة، وكذلك يفعل الإنسان حين ينحرف مزاجه ويضيق صدره. أفلا يضيق هو أيضاً ذرعاً بالتربيتة على كتفه والمسحة الرفيقة على خده وأحياناً بالكلمة اللينة؟ فالحيوان والإنسان في هذا سواء وإن اختلفا في المظهر وطريقة الأداء أو إن شئت فقل أدب السلوك. فالنمر والأسد والسنور تدهم في استيائها ملاطفها بعضة دامية؛ والإنسان يجبه ملاطفه في فترة كدره بكلمة نابية أو دفعة غير لطيفة سواء في ذلك الرشيد وغير الرشيد، وصغار الحيوان والإنسان وحدها هي التي لا تملك في تلك الحالة أذى لكنها تطيق الملاطفة على مضض. فالغدر والغش والخيانة صفات يشترك فيها الحيوان والإنسان، غير أنها تصدر من الأول عن ضرورة غالباً ويرتجلها الثاني في أغلب الأحيان. والطبيعة التي سلحت الوحوش الضارية بأنياب أنفذ من السنان وأحد من الخنجر لا يمكن أن تتطلب منها ما تتطلب من أسنان اللبن، ولا أن تجعل مهمة الحوافر والأظلاف كمهمة المخالب والأظفار. ولولا أن للثور قرنين ما فكر في النطح، ولولا أن للحية سماً زعافاً للزمت الأجحار؛ لكن للمخلوقات جميعاً - والإنسان على رأسها - أوقات صفاء وفترات كدر؛ فالنمر الذي يفترس الإنسان وهو يطلب الصيد قد يمسح خده في كمك ويطيق أن تربت على جلده في ساعة الرضا. بقي أن تعلم متى يكون راضياً ومتى تكون غمضة عينه ورقدته الساكنة على كدر. وكذلك هدأة الإنسان كثيراً ما تكون خطراً أي خطر، وكثيراً ما تنطوي على أسوأ المفاجآت؛ وهذا على فهمك الإنسان وجهلك الحيوان

إن القلق الذي يساور بعض أكلة اللحوم غريب مُسَلٍّ، والغريزة التي تحرك صغارها أعجب وأغرب، فقد مررت بقط السرفال المستوحش في حديقة حيوان الجيزة، فألفيت وجبته من اللحم النيئ بين فكيه وهو مقبل مدبر، يساوره القلق الدائم من مزاحم ينجم له من بطن الأرض، أو لعله كان يأمل أن يتاح له من القفص مخرج فيفلت بوجبته إلى حيث يأمن الانزعاج

وتربض النمرة تتناول مخصصاتها وهي لا تقل عن صدر ثور ويأبى لها حنان الأم إلا أن تنزل عن ضلع للصغار وهي ثلاثة ذكر وأنثيان فينقض الذكر على الضلع يحاول نهشه فلا يعدو جهده سلوخاً رفيعة ينسرها بشق الأنفس، وتجتمع عليه أختاه تحاولان صرفه عن هذا الجشع وحب الذات، فينهرهما ويلطمهما بمخلبه فتبتعدان تعويان. لقد آثر بغريزته هذا الجهد على الرضاع الهين، وترك اللبن لأختيه، وأعمل هو أسنان اللبن في الضلع وحده بلا شريك

وهناك ظاهرة ملحوظة هي الشبه بين الإنسان والحيوان في المنطقة الواحدة، وللمناخ وطبيعة الأرض وظروف الحياة أثرها البالغ في إحداث هذا الشبه بلا مراء. فقد مررت بالدب الأسود والدب الأبيض في وقت كان السلام يسود فيه ربوع العالم فلم أفطن إذ ذاك إلى شيء، ودارت رحى الحرب بين الروسيا وفنلندة، فإذا بالدبين ماثلان أمامي أفطن هذه المرة إلى ما بينهما من فرق وأعمد إلى المقابلة، الدب الأسود أو الدب الروسي يحاول أن يعض قضبان القفص فيعض يده، فيئن ويتأوه ولا يبرح موضعه، وإنما يدور في باطنه حول نفسه في ضجر وبرم شديدين، لا ينقطع له تأوه ولا أنين. والدب الأبيض أو دب الشمال أنيق، سامي المظهر، رشيق الخطو، يدور في قفصه في خطى ثابتة متزنة، ويلتمس المخرج في كل مكان، فإذا عز لم ييأس ولم يحاول أن يقبع نهباً للقنوط كجاره الروسي

كذلك الببغاوات شريكة الإنسان في البيان والمكان، تغري بالمقابلة، فحظها في حدائق الحيوان كحظ مناطق الانتداب تستمتع بقسط كبير من الحرية، وترسف مع ذلك في القيود

و (البوم) محببة إلى الحكماء تشبههم في رصانتهم وتحفظهم وتعاليهم واستصغار شأن من عداهم، والانصراف عن التفكير في المادة إلى التفكير فيما وراء المادة. وهي كالحكماء لا تلفيها في مجلسها إلا صامتة، اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، تطيل التأمل والنظر

هذا قليل من كثير مما يعرض للمرء من أمور الحيوان. وقد نكون تناولناه في شيء كثير من العجلة وقليل من التعمق، والأناة والغوص من صفات العلماء، ولسنا في هذه العجالة منهم محمود الدسوقي