مجلة الرسالة/العدد 368/إلى أرض النبوة

مجلة الرسالة/العدد 368/إلى أرض النبوة

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1940


5 - إلى أرض النبوة

للأستاذ علي الطنطاوي

قرأتَ في المقالة الماضية وصفاً للصحراء ليلها ونهارها وشدتها إذا اشتدت ولينها إن لانت، على أنها تختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب، فليلها للحب، ونهارها حرب، حرب مع الشمس اللاهبة والرمال المشتعلة، والضلال والموت، وحرب مع الناس؛ فإذا أدركك المساء، ولا يدرك مساءها إلا كل بطل صبار قوي متين، تفتح للحب قلبك، فأحسست فيه بشوق إلى الهيام كشوق الظمآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها ملكك، فأنت منها في روضة وغدير، تعانق بدرها إن لم تجد من تعانقه، وتسامر نجمها إن أعوزك من تسامره، ويقبل عارضيك نسيمها الرخي الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة. . .

أشهد لقد نقْت ليالي الصحراء نفسي، وصفّتها، وعلمتها الشعور بجمال القبح وأنس الوحشة وأغاني الصمت، فعرفتْ جمال الكون، فأوصلها إلى معرفة كمال المكوّن، كما صهرت أنهار الصحراء عزيمتي فألقت عن نفسي أوضار الخوف والجبن والضعف والتردد، وأشعرتها عظمة الطبيعة وقوتها، فشعرت بعظمة الطابع، ولم أكن أعدم النظر في الأفاق الواسعة، ولا حرمت التحديق في المناظر البعيدة، وإني لأبصر من شباك داري دمشق كلها وغوطتها والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيء فأرى فيها نهاية الجمال والرواء، ولكني لا أرى فيها طهر الصحراء ولا صفاءها. الصحراء مبسوطة مكشوفة كالرجل الصريح الشريف ظاهرها كباطنها لا تخفي سراً، ولا تبطن دون ما تظهر أمراً. . . ليست كالمدن ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المزهرة المخضرّة، وتحت تلك السقوف المزخرفة والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكذب والنفاق والحسد

إن الله حرم الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار، ولكنه عاضها عن ذلك ما هو أحلى وأسمى: جمال الصدق وبهاء الصراحة، وسناء الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عبابه، وما فيها إلا برك وغدران قليلة الماء غير دائمة ولا باقية، ولكنها على ذلك أجل م النيل، وأجمل من الفرات لأنها في. . . الصحراء!

لست أستطيع أن أترجم لك عمّا لليالي الصحراء من معنى في نفسي، لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب. ويا ليتني أقدر أن أصف لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء فتخاطب القلوب بما لا تنقله الأقلام

واشهدوا عليّ أني أوثر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامقة ذات الصخور المائلة كالجبابرة لا تبلغ هامها النسور ولا العقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض. . . والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المتحدر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السواقي الحائرة التي تهيم على وجهها ذاهلة لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاه لابتلاعها. . . وإن في التواء الوادي حتى يضيع الطريق فيه، وفي اختفاء الشِّعب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لمعنى من معاني المجهول لا ألقاه في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها وإني لأفضلها على السهول والبساتين. . .

سلكنا بعد القُريّات مهامه وفلوات لا يعرف لها أول ولا آخر. ولا أدري ولا يدري أحد ممن كان معنا أين موقعها على المصوّر الجغرافي. وكنا كلما زدنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بعداً عن مظاهر الحياة، حتى أحسسنا كأن قد ودّعنا هذا العالم، وكأن دمشق وبغداد والقاهرة صور شعرية تخطر على البال ويدركها الخيال ولكن الواقع خلوٌ منها، واسترحنا من هموم الاجتماع ومشاغل السياسة وأعباء الفكر واستسلمنا إلى المقادير، فغدا شعورنا بالحياة كشعور من يرى في نومه أنه سائر على وجه الريح، أو مضطجع على صفحة الماء يحمله إلى حيث يشاء، فإما أن يغرق وإما أن يبلغ ما يريد، ولكنه على الحالين راضٍ قانع لا يشكو ولا يتبرم

وكان همنا الأكبر أن نتأمل الأرض أو ننظر في الفضاء لنأمن عثرة السيارة وننجو من الضلال، وما في البرية علامة يهتدي بها إلا النجوم، فعرفت بذلك معنى قوله تعالى: (وبالنجم هم يهتدون). وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان حتى أن الشاعر المحتضر ليسرّه أن سرى سهيلاً لأنه يذكره بلاده وأرضه. . .

وكنا نمر على الأرض المتماسكة الصلبة فنحمد الله عليها ونسرع. ثم نمر على القاع، والقاع في عرف البدو أرض طينية كان فيها غدير من المطر فجف وترك فيها شقوقاً وغادرها مستوية كالطبق، ويسمى القاع في بادية الشام (على طريق بغداد) طليحة. . . ونمر على مسيل قد جرف الماء ترابه وأبقى فيه حجارة كباراً وصغاراً، وهو والشعب شر ما نمر عليه، والشعب في عرفهم أرض فيها رمل قليل هشّ ونبات صحراوي. . . أو نصعد رابة أو تلة، وامتدت هذه المرحلة (من القريات إلى تبوك) أربع ليال، مررنا فيها على مياه من مياه العرب، وهي آبار منتنة خبيثة الطعم واللون والرائحة، تضع المنديل بين فمك ومائها فتلقي عليه مثال الوحل أو ما هو أخبث، تسمى غطى والعيساوية والفجر، ولم نصادف في هذه المرحلة ماء غير ذلك. . .

ولا تسألني أين هذه المياه، ولا تطلب إليَّ تحديداً ولا يقيناً فلست أعرف ذلك، وإنما أعرف أننا تركنا وادي سرحان عن شمائلنا وسرنا قِبَل الجنوب حتى لاحت لنا عن اليمين جبال عالية، فأممناها حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأينا أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة مشينا في طرفها تسعين كيلاً، فيها حجارة سود دقائق مرصوفة رصفاً كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فرشت وثبتت بالمداحل، وهم يسمونها (بسيطة) بصيغة التصغير، وسلوا أهل الجغرافيا يعرفوكم موضعها على المصور، حتى وجدنا ثغرة في الجبل فدخلنا منها، فإذا نحن في واد ما رأيت في عمري مكاناً أوحش منه، وكلما أبعدنا فيه ازدادت وحشتنا، ولم يكن حولنا إلا الصخور والتلاع والفلل الشامخة، والوادي يتشعب بنا ويتفرع، ونحن منفردون بين ذلك كله، وطال الوادي حتى أمسى علينا المساء فبتنا به، ولم ندر أننا ضالون حتى أصبحنا غداة الغد، فخالط قلوبنا الرعب من أن تكون خاتمة مطافنا أن ندفن في بقعة لا يمر فيها إنسان ونحرم قبراً يستوقف السالكين، ويستجديهم دعوة صالحة. وكانت ساعة يأس أحيت في نفوسنا الماضي الذي ظننا أنا نسيناه فتلفتنا بالقلوب إلى دمشق فإذا نحن منها على مسيرة سبع ليال بالسيارة، ولكن ما إليها من سبيل، فجعل كل منا يذكر أهله وأحبابه، ويتخيل ماذا يحل بهم من بعده، ويتصور بردي يجري زاخراً دفاعاً ونحن نكاد نموت عطشاً لأن الماء الذي معنا قد شح ونفد إلا الأقل منه احتسبه الأقوياء منا، وبلغت المسألة مبلغ التنازع على الحياة، ولم يبق إلا الأثرة الشنيعة أو الإيثار البالغ. وحار الدليل وأظهر حيرته حين لم يعد مكان لإخفائها. وكان يدع السيارة في قعر الوادي ويصعد قمم الصخور ينظر فلا يرى شيئاً، فيعود فيسير بنا على غير هدى، حتى نظر مرة وكان ذلك في مساء اليوم الثاني لدخولنا وادي الموت هذا. . . فلمح جبلاً فهلل وكبّر وقال: وصلنا. . . هذا شَرَوْري!

وشروري جبل قريب من تبوك أظن أن (ياقوت) قد ذكره. فسرنا إلى الليل وشروري مكانه عند الأفق لا يدنو ولا يريم، فنزلنا للمبيت. . . وعاودنا السير من الصباح فاختفى الجبل وهبطنا إلى جوف الأرض حتى وصلنا إلى موضع رأينا فيه جبلاً عظيماً يسد الوادي فتشاورنا فلم نجد بداً من صعوده بالسيارات وما تحمل من الأثقال، فجعلنا نصعد وندور ونحتال على الارتقاء حتى إذا بلغنا القمة بعد مخاوف ومتاعب لا ينفع معها وصف. نظرنا تحت أرجلنا، فإذا في الحضيض الأوهد البعيد فضاء فسيح كالبحر، في وسطه سواد، كأنه باخرة ماخرة، فقال الدليل مشيراً إليه. هذه تبوك!

علي الطنطاوي